ناصر الجاسم - الكأس المكسورة.. قصة قصيرة

فتاةٌ عطشى، تنظرُ إلى كأسٍ مكسورةٍ، تريد أن تشرب الحثالة، يداها ترتعشان لا تستطيع، تخشى الكأس المكسورة، تخشى الظمأ الأبدي، تخاف نزف المشاعر المحبوسة، تحلم أن تحظى بفاتن، يمزّق أحشاءها شوقٌ دائم للزغاريد، تهفو نفسُها ليل نهار إلى أنوار ملونة، ورقص وقُبَل مباركة لها، غشيتها كآبة، جفلتْ من جيش التغضّن الجرّار يداهمها على غرّة، استخدمت كحل أمها، انزوت بابن أخيها تعلمه القراءة والكتابة، وقع بصرها على ورقة تقويم ساقطة، سدرت قليلاً، واصلت، ألف.. باء.. تاء.. أقفلت الكتاب، أرجأت موعد الدرس، فرح الطفل، ركض، لوّح بيده اليمنى، شكراً عمتي.

بطاقه منقوشة بالزهور، دُسّت تحت الباب، وقعت في يدها، قرأتها دون مبالاة، مزقت الدعوة، غمغمت: سعاد وبدرية وحصة ووداد كلهن تزوجن وأنجبن والدور الآن على شمّاء، متى يأتي دوري أنا؟

الليل يرسل أصوات الفرح شنّفت أذنيها، صعدت فوق السطح، طالعت القمر، همست إلى النجوم شاكية، سألتهم: هل تتزاوجون؟ هل.. هل تنجبون؟ وتتوالدون؟.. تمددتْ، نامت، حلمت، الشمس تداعب وجهها القبلي بأناملها البيضاء، رفعت جفنيها، نظرت للشمس بعينيها الساجيتين، عاتبتها: لماذا أيقظتني من حلمي الجميل؟ ردت عليها الشمس بوهج أصفر: إنها أضغاث أحلام..

كهل طحنته رحى الزمن، قدّمتْ له العشاء، تلمظ بعدما شبع، تمخط بعنف، غسل يديه وهو رابض مكانه، ناداه ابنه الصغير: أبي شخص على الباب يلبس بشتاً أسودَ يريدك..

برح مكانه، دعا الرجل إلى مجلسه، هش وبش في وجهه، هلّل، ورحب، امتلأت صفحة وجه الرجل خجلاً من فرط الترحيب! نكس رأسه حياء وتسرب الأمل إلى نفسه الصافية، حاصره الكهل بنظراته المستطلعة، أعجب بلحيته السوداء المسترسلة، وثوبه الأبيض القصير، تذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: وما أسفل الكعبين فهو في النار، استغفر ربه، طلب القهوة والشاي بصوت غليظ أغنى عن جرس المطبخ، شرب الضيف فنجاناً، تحدث بلهجة مؤدبة أكثر من اللازم، ابتسم الكهل ابتسامة مشفوعة بالثناء والتقدير للضيف وعائلته، تشجع الضيف، نبس بثقة واطمئنان: يسعدني أن أخطب ابنتك سارة لي، أنزل الكهل الفنجان عن شفتيه على السجاد، ردد الضيف: أطال الله بقاءك، ثم قال: أدام الله عزّك، تخشّبت الكلمات في جوف الكهل، تلجلج، تأتأ، نبس بلهجة سليمة بعد مشقة: ولكن البنت مهرها غالٍ! سأل الضيف: هل خطبت على خطبة أحد؟ جاوب الكهل بلا..

لانت أسارير الضيف المتجعدة، تمتم الكهل: المؤمنون على شروطهم.. هزّ الضيف رأسه بالإيجاب: قل ما في خاطرك يا عمي..

جلد الضيف بسياط سيف الكلمات، جاء ليسقي الأرض البور وينعشها، ولكنه ذهب بلا عودة، اغتيلت فرحة الأرض بالمطر، حُرمتْ الزهرة من قطرات الندى، اختنقت الفتاة، لا تستطيع البوح بالظمأ، لا تقدر على السقيا بمفردها، حُرقت قصيدة الشاعر قبل أن تكتمل، وظلّ الشاعر عاجزاً عن وأد سيف الكلمات، رفعت الراية البيضاء، بعد أن انطفأت كل شموع الأمل..

أخيراً.. عشقت الفتاة القبر، إنه الملاذ، والهروب الجميل، والرحيل المثالي، فلاذت عطشى هاربة للرحيل!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى