هدى توفيق - قراءة انطباعية عن قصة قارع الطبل وطائر الليل للقاص والروائي: ناصر سالم الجاسم

الموت قرين الحياة، الحزن قرين الفرح، الفناء قرين البقاء، بالأثر الحسن والصيت الطيب، هنا في قصة قارع الطبل وطائر الليل نستدعي الخطاب السيميائي في جماليات تلقي هذا النص القصصي، ويجعلنا نتساءل به من منطلق متعة القراءة هل أصبح من الممكن أن نطلق على فن الإبداع القصصي، أنه قد تحول إلى نص تفاعلي متداخل الأجناس الأدبية سواء من الحبكة القصصية، والسرد الروائي، والشعر الغنائي؟! وقد تفاعلت كل تلك العناصر الفنية من أجل صنع نص قصصي مبدع امتزجت فيه جميع تلك الآليات بخطاب سيميائي بين بطلنا قارع الطبل هتمي واستخدام أسطورة طائر الليل، كاستخدام مجردٍ موحٍ بمدى أهمية قارع الطبل داخل الموروث الشعبي والميراث المكاني والزمني، كمدلول حي أصبح له رمز باسمه وصفته ووجوده المقترن بقرع الطبل، وقد تشكل الوجدان الشعبي والقروي بهذا الاسم، وهذه الصفة، وهذه الكينونة، لكل حياته وظهوره حتى مماته في العالم الواقعي والمعاش، لمن أحبوه، ومن سيحاكون عنه، ولمن سيتذكره مهما مرت السنون، حتى تلك اللحظة الراهنة باستحضاره إبداعيا من خلال مخيال يقظ سيميائي يقترح المزيد من آليات الخطاب السردي، مع تحولات المد القصصي التي تلاشى فيها الحدث المجرد عن أنه مجرد قارع للطبل مات ورحل معه طائر الليل، لكن مناحي وتوجه الكاتب أخذتنا ما هو قريب بالمناحي الفلسفية والوجودية على أقل تقدير، ونحن نتلقى أفكاراً ورؤى متعددة عن ماهيات الموت والحب والجنس والفن والمطر وقرع الطبل والإخلاص والأسطورة، كل يتشابك في مخيلة خصبة تحاور وتتحير وتتساءل وتجادل بتوق ورغبة شديدة، بمخيلة مبدع اختلق قصة قارع الطبل وطائر الليل من أجل أن يقرع عقولنا بكل ما هو شائك ومضطرب وغير مألوف ومعتاد، وقد أضفت الشعرية الغنائية المستدعاة من الموروث الشعبي المعهود لسكان تلك القرية، الذي يقطن بها هذا الشخص بالذات قارع الطبل منذ خمسين عاما المخلص لفنه، حتى تحولت الطبلة التي تنسب بصفتها إليه، إلى قارع الطبل وقد لازمت آلة الطبل وجوده، فتسمى بها بطلنا هتمي، ومحت كل اسم له غير قرع الطبل المشهور به، وتحول بها إلى رمز بارز في وجوده وعشقه لقرع الطبل، تؤازره أشعار الشاعر الكبير(عبد الله الناشي) شاعر القرية المجدد وهو ينشد : يالله بالمطلوب عنا / منشي مخاييل السحاب / حنا هل العادات حنا / عند الشدايد ما نهاب/ ومنهو حاربنا ما تهنى / لا عاد ولد اللاشى خاب.....

وتبدأ الحدوتة البسيطة التي تصاعدت وتصاعدت بمد قصصي محكم:

"قارع الطبل هتمي، خمسون سنة وهو قارع الطبل الأمثل بالقرية ... لا أحد يجرؤ على حمل الطبل وهو موجود.."


ويصف الكاتب حالته المغرمة، الأشبه بالشهوانية واللذة المميتة والمنتشي سكرًا من خفقان العشق والوله:

"يدور في الساحة بطبله، ويضربه بماسورة تمديدات كهربائية برتقالية، بانفعال بالغ مغمضًا عينيه في شبه غيبوبة عمن حوله... النشوة تسكره، والخبرة تميزه عن الأخرين وتقدمه عليهم .."


هذا الهتمي البارع الأصيل والعاشق لفنه، يرفض أداء الراقصين المعاصرين السريع الأشبه برقص الديسكو (الغربي)، ويحاول بأي شكل طردهم من العرضة لكنهم فرضوا أنفسهم ويصفهم الكاتب بمجاز سردي بارع:

"كانت أكتاف الراقصين تروح وتجئ كبحر يمد ويجزر في آن واحد.. "


فيتوحد الشعور والتخيل بين أداء الراقصين السريع، وبين مد وجزر البحر بأمواجه الهادرة، التي هي في الحقيقة أكتاف الراقصين، وعندما لا يظهر طائر الليل مرة أخرى بعد موت هتمي ندرك أن قارع الطبل هو رمز هذا الطائر، التي حولت موته إلى أسطورة شاهدها وآمن بها الجميع، فطائر الليل لم يعد يظهر بعد موته رغم انتظار الجميع لظهوره أثناء العرضة المقامة، إنه رحل مع هتمي حزنا وألما وكمدا مما جعل طائر الليل يعتكف الظهور ويموت هو أيضا ولو روحا بعدم الظهور، من أجل رحيل سيده الفنان المخلص منذ خمسين عاما لقرع الطبل، فلم يعد يعوزه ظهور ووجود دون سيده قارع الطبل، ويتعمق الحكي الشفاهي والاعتقاد الشعبي بين أبناء هذه القرية ويتداولها الجميع حتى تسير كالريح تهفو على رؤوس الكثيرين حتى تصل لكاتبنا فيخبرنا عن قارع الطبل وطائر الليل، والذي لم يعد يظهر في الأفراح مطلقا بعد سقوط هتمي المفاجئ في فرح ريزان، وإن كنت لا أجد أي مدلول وظيفي في السرد القصصي، بذكر اسم العريس ريزان أو البقال الباكستاني توحيد، فالقصة عناصرها اكتملت بين مهنا وضيف الله لا غير، مع استخدام خطاب سيميائي بين قارع الطبل وطائر الليل، وبإضافة مهنا وضيف الله تستمد القصة قيمتها الحقيقية من مجرد أنها أسطورة لطائر الليل مع قارع الطبل، وامتداد القصة بظهورهما ،قد اشعلت وهج السرد القصصي، بحيلة إبداعية ولعبة الفن كوظيفة هامة، لصنع عالم ثري من الحكي والتلقي الجمالي لفعاليات النص المقروء أمامنا، ولأن البداية كانت بالفرح والموت والأسطورة ، كل هذا جلب لنا مناحٍ متعددة من التأويل وإن ارتبط بالمنحى الفلسفى (السفسطائي) إلى حد كبير من خلال جدل متبصر، ومتأمل لأمور الحياة بكل دروبها المختلفة باستخدام حيلة الجمل الطويلة والممتدة إلى نهاية القصة دون شعور بالملل أو التكرار، يتشكل من حوار بين مهنا وضيف الله، بل جاء بتوسع فني عميق ينخر بقوة وإبداع داخل حيثيات مهمة أخرجتنا تماما عن الحدث المعتاد والمألوف، أن هتمي مات وطائر الليل لم يعد يظهر بعد موته، بل لقد أصبح الأمر هاماً وعسيراً على الفهم بهذا الطرح الفلسفي لمعطيات الحياة التي تبدلت رؤيتها تماما أمام مهنا وضيف الله بعد موت قارع الطبل الأسطورة، تلك التي ألهمتهم بكل هذه الحوارات العميقة والواسعة المدرك والمعرفة، والخوض في تأويل ماهية الحياة والوجود، وتلك الملهاة الواسعة التي نسميها حياتنا ونصيبنا ودنيانا، حتى الحقائق العلمية التي هي مؤكدة، لكن الصديقان أيضا يجعلانها تناسب مقترحات التساؤلات والبحث والتشتت والحيرة والارتباك، لترضخ لوقع مشاعرهما في تلك اللحظة الفارقة من حياتهما هما فقط لا غير، وهما ينتظران حضور جنازة هتمي، كنموذج المقارنة بين سرعة النفس وسرعة الضوء كما قال مهنا أن:

"النفس أسرع الأشياء، وهي أسرع من الضوء، وذلك يناقض ما تعلمناه في المدرسة من أن الضوء أسرع الأشياء"


رغم أنها حقيقة علمية، ليلازم بذلك آلية استخدام الخطاب السيميائي بين قارع الطبل وطائر الليل، كعناصر هامة في بناء العالم القصصي، مع إشكالية تداخل الشعر الغنائي التي أضفت مهمة اخرى في جماليات التلقي، فالشعر هنا يؤدي بعداً فنياً إبداعياً بحتاً باستكمال النشوة والفرح والأصالة والعمق، الذي يلاحق وجود قارع الطبل المتيم بفنه قال الراوي:

"إذا قرع هتمي الطبل، يخرج من عتمة الظلام طائر من طيور الليل، ويحوم في السماء فوق ساحة الرقص، ومنذ أن مات هتمي لم ير الناس ذلك الطائر.. فقد حاول ورثة هتمي في قرع الطبل إظهاره لهم لكنهم فشلوا، ولم يعد أحد في القرية بعد ذلك ينظر إلى السماء متحريا رؤية الطير والعرضة مقامة".


الموت يجعلنا نصمت صمتا موجعا صادما، وحتى لا يقتلنا الألم والحزن نتحدث نتفكر، نتأمل، نحاول أن نتفحص الأمور من بعيد بطريقة أخرى، فنفضفض بأحاديث ما كانت تأتي، إلا تحت هذا التأثير المفاجئ، ونحن دوما منهوكين في طاحونة الحياة، وجلب الرزق والانشغالات الحياتية التي لا تنتهي، ونحن نجري ونلهث وراءها، حتى يأتي طائر الموت الأسود يرغمنا على الوقوف ليس فقط وقوفا عاديا إنه الثبات إلى حد التسمّر، والتجهم في لحظة شاقة على النفس للغاية من واقع التلهي والغفلة ، كما يقال الميلاد والموت هما حقائق الوجود الأبدية التي لا نستطيع أمامها فعل شيء غير أن نستقبلها كأمر واقع مستحيل أن نبدله أو نتجاهله اطلاقا، وهنا تنتهج القصة النهج التأملي الفلسفي بين ضيف الله ومهنا، وقد تمددت أسطورة قارع الطبل وطائر الليل إلى مناح وأطروحات أخرى قريبة وبعيدة في آن واحد قريبة لأنها عن أسطورة موت هتمي المفاجئ ، وبعيدة لأنها تخوض في حقائق علمية كيف لنا أن نفسرها هكذا، لكن ذاك هو الحس الإنساني الذي يجعل من كل شيء يتفاعل بمدى إحساسنا وشعورنا به، كما فعل هذان الصديقان حين يقول ضيف الله إن:

"الشمس عبارة عن كتلة هائلة من الضوء، وهي تمرض، ومرضها الكسوف، وضوؤها تقاس سرعته، أما النفس فلا يعيق سرعتها أي شيء ولا أحد يستطيع حساب سرعتها... فمن يستطيع حساب سرعة نفس الإنسان حين يغضب أو يموت ؟! وهذا ينطبق على هتمي، الذي مات سريعا وسط حلبة الرقص".


ويستمر الجدل والتأويل بين ضيف الله ومهنا :

"كما أننا أيضا لا نستطيع قياس أمور كثيرة أو بالأحرى لا تقاس مثل حساب سرعة الحب.. سرعة النوم.. سرعة الجوع.. سرعة الشبع.. العطش.. التخيل.. الكره.. ولكن الأكيد أن الأشياء القبيحة تذكرنا بسرعة مرور الأشياء الجميلة في حياتنا ونتحسر على زوالها كموت هتمي الذي به سيذكرنا بسرعة بجمال قرعه للطبل"


وتشتعل الأفكار في عقل مهنا ويطلب علبة دخان من البقال الباكستاني، رغم أنها المرة الأولى في حياته للتدخين، وينفث دخانه متسائلا:

"ألا تعتقد أن كثرة الضغوط النفسية تقتل المبادئ والنفوس؟! ... يجيبه الصديق: قد يكون هتمي مات من جراء الضغط النفسي الرهيب المفروض عليه من الراقصين برفضهم الدك على الأرض والالتزام برتم الأجداد الهادئ، ويتوالى عذاب النفس الشقية بتلك الكينونة والوجود لتسأل بشفافية وامتعاض: هل الحزن يعطل شهوة الرجال ؟!"


نلاحظ هنا أن الحوار يتداول بين الصديقين دون تحديد بعض الشيء من السائل ومن المجيب، ويحدث أحيانا عند القارئ بعض الارتباك، وأظنها حيلة فنية مقصودة، ليتحول فعل السؤال والجواب إلى دلالة رمزية أهم وأقوى في التعبير عن الإنسان بوجه عام دون التحديد بهذين الصديقين، إنها أسئلة تخص كل انسان على وجه الأرض أسئلة الماهية، الوجود، الكينونة والطبائع البشرية المتناقضة التي لا ترتبط ببقعة مكانية أو شخص محدد، إنه الإنسان هذا الذئب البشري المتفرد، هذا الكائن المعذب والشقي بملكة الحديث والتفكير والتبصر، والتأمل، وكل المشاعر والأفكار، التي تغمر الكون بمدى قوة تفجرها الشيطاني والملائكي في آن واحد، من أجل تعرية الحقائق، والتشكك في حدوثها أو عدمها، حتى لو كانت حقائق علمية .وكأنه يعلن دوما أنا أشك إذا أنا موجود، حتى أن أحدهما يجيز للعريس برزان أنه سيضاجع زوجته رغم حزنه على موت هتمي، كما فعل سحاب حين ضاجع زوجته يوم وفاة أمه وحملت منه، لأنها لم تتناول أقراص منع الحمل، ظنا منها بأنه لن يقربها، لكنه فعل.

إذاً الحزن لا يعطل شهوة الرجال كما يُقال دوما، واستمر التبرير لمنطقه: ربما هذا يجعل الرجل يتهرب من حزنه، ويتأجج حمى الجدال قائلا صديقنا الإنسان بتبرم: أن على الانسان أن يهرب بأشياء مقبولة، كالنوم لساعات، أو ممارسة حماقات يخجل منها الإنسان عند ذكرها....

وأخيرا جميلا بهيا عطاء، يُنهي الكاتب أسطورته قائلا بكل أريحية المتأمل، المتعب الموجوع، الذي عصره الحزن على موت قارع الطبل المفاجئ واختفاء أسطورة طائر الليل في كل عرضة ستقام مستقبلا:

"المطر مسؤول عن غسل سعف النخيل، والنسيم مسؤول عن تمشيطه، وهتمي مسؤول عن قرع الطبل، والأولان باقيان على ممارسة وظيفتهما، أما هتمي فقد فصله الموت عن ممارسة وظيفته، فالحمد لله أنني فقدت جميلا يعوض".


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى