محمد الراشدي - رذاذ.. قصة قصيرة

(1)

حين أوشكت الشمس أن تدلق ضوء النهار في عتمة غرفته كان يجلس في فراشه مغضن الوجه بآثار النعاس ، يغالب ثقل جفنيه ، ونظره عالق فوق زجاج النافذة المقابلة له ، يحاول أن يستبين على الضوء الحيي رذاذ الندى العالق فوق زجاج النافذة ، وكلما تمطى في عينيه النعاس رفع رأسه يمعن النظر ويأنس انشراحا يعبر صدره ويملأ مسام رئتيه .
كان ذلك الرذاذ الخجول أجمل ما يمكن أن يرى فوق جدران غرفته الباهتة وتفاصيلها التي نهب الشحوب بشاشتها.
في يقظاته الصباحية كان أول ما يقوم به تفقد النافذة وتحسس بقايا الندى فوقها , ويضجر حين ينهض متأخرا وقد تلاشت تلك الرطوبة الأثيرة إلى روحه .
في صبحه ذاك ظل يقاوم تهدل جفنيه تحت سطوة النوم حتى غلبه تراخي أطرافه فمد الدثار على جسده وأخمد النوم حركته.


(2)

في الضحى ذهب ضجيج الشوارع المحيطة ببقية نومه ، فاستيقظ ، وارتدى ملابسه وحين هم بالخروج أدهشه أن الرذاذ ما يزال خاثرا فوق النافذة .. هجس في نفسه أن وهج الشمس اليوم ربما ليس ساخناً بما يكفي .. ثم أسلم خطوته للخروج.


(3)

في الظهيرة حين تعامدت الشمس فوق جباه البيوت كانت حبيبات الرذاذ تنبعج تحت ضغط منديله القماشي الذي يمسح به واجهة النافذة ، بعد أن أحدق به الذهول لبقاء الرذاذ كما هو , رغم كل سطوة القيظ في ذلك اليوم ، وكلما رفع منديله كانت القطرات تتكور مجددا ببطء ، وتتلاصق وتعود تشكل نفس ملامح الخارطة الشفافة التي رآها في الصباح ، والمنديل بين أصابعه ناشف تماماً.


(4)

أمضى بقية الظهيرة يهاتف أصدقاءه .. يحدثهم عن رذاذ لا يبرح النافذة ، ولا يستطيعه المحو .. وكانوا جميعا يسخرون منه ، وأوصاه آخرهم أن يعتزل وحدته قبل أن تذيب بقية عقله!


(5)

قبيل الغروب أراد أن يتسلى .. وقف أمام النافذة من الخارج .. مد أصبعه .. هم أن يرسم فوق الرذاذ شيئا .. تردد .. بزغت في بهو ذاكرته تلك اللوحة الطفولية المكرورة .. ألصق أصبعه بالنافذة .. أحس برودة كالثلج في طرف أصبعه .. حرك يده .. رسم قلبا كبيراً بمساحة زجاج النافذة .. رشق فيه سهماً .. وكتب في وسط القلب ( الحب عذاب ) .. سحب كفه بحذر حين رأى الرذاذ يتحرك .. تمتزج حبيباته .. تتداخل حتى شكلت معا خطا واحدا يشبه دمعة كبيرة .. انسابت فوق الزجاج .. تخطت إطار النافذة .. مرت فوق الجدار وئيدة .. ثم ذابت في التراب !



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى