أدب المناجم صبحي حديدي - أدب البروليتاريا: عَوْد ياباني

«من أجل الكرامة والعدالة والثورة: أنطولوجيا الأدب الياباني البروليتاري»، الذي صدر مؤخراً عن منشورات جامعة شيكاغو، في 488 صفحة، بتحرير نورما فيلد وهيثر بوين ـ سترويك؛ إصدار بالغ الأهمية من حيث المحتوى، وتذكرة بطراز في الكتابة احتلّ مكانة خاصة في تاريخ آداب القرن العشرين، من حيث المصطلح على الأقلّ. الكتاب يترجم إلى الانكليزية عدداً من النصوص، القصصية والنقدية، التي أنتجها كتّاب ومثقفون يابانيون شباب، خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي؛ ممّن اجتبذهم الأدب وشدّتهم الفلسفة، وتفتّح وعيهم في ظلّ السنوات الصاعقة التي أعقبت الثورة البلشفية سنة 1917، فجلبوا حبّهم للفنّ إلى معترك المجال العام، الذي أملوا أن يكون ثورياً.
مقدّمة المحرّرتين أوضحت أنه بصرف النظر عن القناعة العامة، اللاتاريخية في رأيهما، التي تختزل إلى «الواقعية الإشتراكية» كل أدب أُنتج في إطار الحركات اليسارية، فتعتبره دعاوة صرفة لا تستهدف إلا امتداح العامل والجرار والمصنع؛ فإنّ العديد من كتّاب هذه الأنطولوجيا خاضوا نقاشات حيوية، وحامية الوطيس، ساجلوا حول صحة أو جدوى نسخ المفاهيم السوفييتية، وحول طبيعة الواقع في اليابان، والطرائق المثلى لترجمة هذا الواقع إلى كتابة تصل إلى قراء على النطاق الأوسع الممكن.
ومفردة «البروليتاريا» هي، بالضبط، ما استخدمه أولئك الكتّاب، في لفظ صينو ـ ياباني بالطبع، لتوصيف كتاباتهم؛ بدون الخروج عن فحوى المصطلح عموماً: أولئك الذين لا يملكون سوى بيع قوّة عملهم اليومية للبقاء على الحياة. والنصوص تنتمي إلى فترة «العقد الأحمر»، التي شهدت أيضاً إصدار «راية المعركة»، أول صحيفة بروليتارية، سنة 1928، وكانت توزع أكثر من 20 ألف نسخة رغم منعها أو مصادرتها؛ هذا إلى جانب تداول النسخة الواحدة بين عدد كبير من القرّاء في القرية أو الحيّ أو المصنع.
فصول الكتاب موزعة على موضوعات: الشخصي هو السياسي، العمل والأدب، مسألة الواقعية، الطفل، الفنّ سلاحاً، الأممية ومناهضة الإمبريالية، القمع. وبين المساهمات النقدية مادة تناقش «النمو الطبيعي والوعي الهادف»، و«درب الواقعية البروليتارية»، و«حول ميل الأعمال البروليتارية إلى اقتفاء السوابق»، و«مسألة ‘الواقع» و«اللاواقع» في قصص الأطفال»، و«بصدد مسار أدب خاصّ بنا: دليل إلى كتابة الريبورتاج الأدبي»، و«حول قصص الحائط والقصص القصيرة «القصيرة»: مقاربة جديدة للأدب البروليتاري»، و«دليل إلى كتابة الرواية: كيف نكتب القصص»… والمرء يدهش، حقاً، إذْ يكتشف مقدار تحرّر الكتّاب اليابانيين من الجمود العقائدي، في ذروة انحيازهم إلى هذا الطراز في الإبداع الملتزم؛ وكذلك حسّ التجريب العالي، المنفلت كثيراً من عقال قيود كثيرة تخصّ المحتوى والشكل. وهذه أهمية خاصة، إضافية، تتحلى بها هذه المختارات، لجهة تمكين الدارس من عقد مقارنات بين هذه النصوص اليابانية، الإبداعية والنظرية، وسواها من نظائر شهدتها ثقافات عالمية أخرى في مضمار الأدب البروليتاري.
هو عَوْد، ياباني، على بدء لا مفرّ من ردّه إلى جذوره الأولى في أدب «الواقعية الإشتراكية»؛ تلك السياسة الثقافية والجمالية والإبداعية التي سادت في الاتحاد السوفييتي أولاً،وفي معظم بلدان المعسكر الاشتراكي بعدئذ، ثمّ بادت بسرعة كما صعدت ذات يوم في المؤتمر الأول لاتحاد الكتّاب السوفييت، سنة 1934. وبمعايير أيامنا هذه، سوف يبدو المصطلح رطانة جوفاء محضة، وقد يتبادر إلى الذهن سؤال لم يكن الروائي الروسي مكسيم غوركي سيجابهه حين ساهم في نحت المصطلح بالتعاون مع مفوّض الثقافة أندريه جدانوف: إذا كانت هنالك واقعية إشتراكية، فهل هنالك واقعية رأسمالية؟ واقعية مسيحية؟ واقعية إسلامية؟
الأرجح أنّ غوركي، لو سُئل في ثلاثينيات القرن الماضي، لأجاب بحماسة رسولية: «إنّ المطالب الكبيرة التي تفرضها حياتنا المتطورة على الأدب، والعمل الثقافي والثوري الذي يقوم به حزب لينين تنبثق جميعها من الأهمية التي يعلّقها الحزب على فنّ الكتابة. ولم يسبق لأي بلد في العالم، ماضياً وحاضراً، أن شهد هذا التلازم الرفاقي بين الأدب والعلم، أو هذه المساعدة في تطوير الكفاءات المهنية للعاملين في الفنّ والعلم»… كما جاء في كلمته خلال مؤتمر 1934.
لكنّ هذه «الواقعية الإشتراكية»، في جانب آخر من المعادلة، أنتجت ثقافة بروليتارية عمادها مليارات الصفحات المطبوعة شعراً وسرداً ومسرحاً ونقداً، وكيلومترات طويلة طويلة من الأفلام وقماش اللوحات، كما عبّر أندريه سينيافسكي… ثمة، هنا، إبداع معقد ومتنوع وتعددي، ما يزال يدهشنا حتى اليوم، ليس في قيمته الفنّية العالية المرشحة لقرون من الخلود، فحسب؛ بل، كذلك، في حقيقة أنه رأى النور لأنه قهر عبادة الفرد والبيروقراطية والجهاز الحزبي والجمود العقائدي والضحالة والانحطاط ومختلف الإملاءات السياسية والاقتصادية…
وهكذا نقرأ اليوم كتّاب أدب بروليتاري يابانيين، من أمثال كوباييشي تاكيجي وأنونو سويكيشي وهياشي فوسو، فلا نتذكر الرفيق جدانوف؛ بل يُجاز لنا أن نستعيد جنكيز إيتماتوف وناظم حكمت وبول إيلوار ويانيس ريتسوس…

صبحي حديدي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى