أدب السيرة الذاتية نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo - أحلامٌ في زمن الحرب.. مذكّرات طفولة (1).. *ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

* ليس ثمّة شيءٌ مثل الحلم له القدرة على خلق المستقبل .
فيكتور هوغو ، البؤساء


* تعلّمتُ
من الكتب : صديقي العزيز
أنّ ثمّة أفرادا يحلمون و يعيشون
متعطّشين توقاً ،،، في غرفةٍ بلا بارقة ضوء
الذين لم يدركهم الموت لأنّه كان يقفُ عاجزاً أمامهم
الذين لم يكونوا ليناموا ابتغاءً للأحلام ، بل حلموا بتغيير العالم ،،،
مارتن كارتر ، أن تنظر في راحة يديك
* في الأوقات الحالكة
هل سيكونُ ثمّة غناء ؟
بلى ، سيكون ثمّة من يغنّي
عن تلك الأوقات الحالكة !!
برتولت بريخت ، موتو
عندما غدوتُ قادراً في سنواتي اللاحقة لطفولتي على قراءة ذلك السّطر من عمل تي. إس. إليوت الذي يقولُ فيه أنّ شهر نيسان هو أقسى الشّهور ( إشارة إلى افتتاحية قصيدة الأرض الخراب ، المترجمة ) بات ممكناً أن أستذكر بعد كلّ قراءة على الفور ما حصل لي في يومٍ نيسانيّ صقيعيّ عام 1954 بمقاطعة ليمورو، التي كان أحد سليلي آل إليوت وهو سير تشارلس إليوت – الذي صار لاحقاً حاكماً لكينيا في العهد الكولونياليّ البريطانيّ – قد جعلها عام 1902 مقاطعة معزولة قائمة بذاتها تحت مسمّى ( الأراضي المرتفعة البيضاء ) ، ومازالت ذكرى ذلك اليوم النيسانيّ تبعثُ الإشراق في نفسي كلّما جالت بخاطري .
لم أكن قد تناولتُ الغداء بعدُ ذلك اليوم ونسيت أحشائي أن تتناول حصّتها المقرّرة من عصيدة الشّعير ذلك الصّباح قبل أن أمضي في مسيرة الرّكض اليوميّة لمسافة ستّة أميالٍ نحو مدرسة كينيوغوري المتوسّطة ، وبالطبع توجّب عليّ قطع المسافة ذاتها في رحلة عودتي إلى البيت ، وحاولتُ بكلّ جهدي أن أكبح جماح نفسي في التطلّع إلى لقمة مشتهاة ليلة ذلك اليوم . كانت والدتي ماهرة في تحضير وجبتنا اليوميّة الرئيسيّة ، ولكن متى ماكان أحدنا يشعرُ بالجوع فإنّ أفضل المتاح أمامه هو أن يجد شيئاً ، أيّ شيء ، يشغلُ باله و يبعدهُ عن التفكير بأمر الطّعام ، وذلك بالضبط ما كنتُ أفعله في العادة وقت الغداء في المدرسة عندما كان الأطفالُ الآخرون يتناولون طعامهم الّذي جاءوا به من بيوتهم وكان ثمّة قلّة قليلة من الأطفال الساكنين قريباً من المدرسة ممّن كانوا يتسلّلون خارجها نحو بيوتهم لتناول الغداء أثناء فترة استراحة الظهيرة . كنتُ أتظاهرُ أمام الأطفال بذهابي إلى مكانٍ ما ولكنّي في حقيقة الأمر كنتُ ألتمسُ الجلوس تحت ظلّ شجرة أو غصنٍ وارف الظلّ بعيداً عن الأطفال الآخرين وبحثاً عن خلوة تعينني على قراءة كتاب ، أيّ كتاب ، رغم ندرة الكتب آنذاك ، وكانت ملاحظات كراريسي الصفّيّة توفّرُ لي بديلاً مرحّباً به و ملاذاً آمناً مغلّفاً بعزلة محبّبة تستطيبُ لها روحي . قرأتُ في خلوتي نهار ذلك اليوم النيسانيّ مقاطع من النسخة المختصرة لرواية ديكنز ( أوليفر تويست ) و كان ثمّة مقطعٌ يرسمُ صورةً لأوليفر وهو يحملُ وعاءً في إحدى يديه وينظرُ إلى الأعلى نحو شخصيّة تبدو مترفّعة وذات سطوة ، وراح أوليفر يخاطبها : “أرجوك ، سيّدي ، هل يمكنني تناول المزيد ؟ ” ، وبالنسبة لي فإنّ سؤالاً مثل سؤال اوليفر لم أكن لأطرحه على كائنٍ من كان عدا والدتي : المتفضّلة و صاحبة الكرم التي أبدت أريحيّة روحٍ فائقة نحوي ولم تكن لتبخل عليّ بشيء متى ماوجدت سبيلاً لتحقيق ذلك .
كان سماعُ القصص والحكايات من الأطفال الآخرين نوعاً آخر من الإلهاء المهدّئ لي وبخاصّة أثناء رحلة العودة من المدرسة إلى البيت والتي كانت محنة أقلّ سطوة من رحلة الصّباح حيث لم يكن ثمّة بديلٌ عن الرّكض ونحن حفاةٌ طول الطريق والعرق يتصبّبُ من ذقوننا تجنّباً للتأخير وما ينجمُ عنه من عقاب حتميّ يناله المتأخّر بجلد ظهره ، وبالتأكيد كانت رحلة عودتنا إلى البيت أكثر إمتاعاً لنا ولم يكن أيٌّ من الأطفال مستثنىً من تلك المتعة فيما خلا هؤلاء الذين توجّب عليهم العودة إلى قرى ( نديّا ) أو ( نغيكا ) اللتين تبعدان ما يزيدُ على العشرة أميالٍ عن المدرسة ، وفي الحقيقة كان من الأفضل لنا دوماً قتل الوقت في رحلة العودة بدل المكوث انتظاراً لوجبتنا المسائيّة من الأكل – و التي ماكانت أبداً منتظمة أو مؤكّدة – ، أو التسكّع هنا وهناك حول مجمّع البيوت الّتي نسكن فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

القسم الثاني

كنّا أنا وكينيث – صديقي في الصفّ الدراسيّ – بارعين في قتل الوقت وبخاصة عندما كنّا نتبارى في صعود التلّة الواقعة أمام بيتنا ونحن نتلاعبُ بكراتٍ هي في الغالب ثمرات من التفّاح . ولم تكن طريقة لعبنا بتلك الثمرات بالطريقة الأكثـر يسراً وسرعة في الوصول إلى قمّة التلّة ، ولكن كانت لها فضيلةُ جعلِنا ننسى العالم من حولنا . كنّا في ذلك اليوم النيسانيّ أكبر من الإقدام على ذلك النّوع من الألعاب الطفوليّة إلى جانب أنّ تلك الألعاب لم تكن تتخلّلها أيّة حكاياتٍ يمكن لها أن تحوز على انتباهنا.

كان من عادتنا تلك الأيّام أن نتجمهر حول كلّ من يستطيعُ قصّ حكايةٍ على مسامعنا ، وكان البارعون وحدهم من رواة الحكايات يغدون أبطال اللحظة في أنظارنا ، وغالباً ماكان يحصلُ أثناء تدافعنا للحصول على مكان قريب من راوي الحكايات أن كان هذا الراوي يترنّحُ يميناً وشمالاً بفعل الدفع والدفع المقابل من المجموعات المتزاحمة فكان يبدو مثل خروف تائه !! .

لم يكن مساء ذلك اليوم النيسانيّ ليختلف كثيراً عن باقي المساءات فيما عدا الطّريق الّذي سلكناه رجوعاً من المدرسة نحو بيوتنا : كان طريق عودتنا يبدأ من ( كينيوغوري ) حيث تقع مدرستنا باتّجاه قرية ( كوا نغوغي ) أو ( كغامبا ) وماجاورها من القرى ، وكنّا في العادة نجتازُ طريقاً يخترقُ التلال و النتوءات الصخريّة التي لم نكن نعيرها – هي وحقول الذرة والبطاطا و البازلاء والفاصولياء – أدنى انتباهةٍ منّا وبخاصّة في الأوقات التي كنّا نستمعُ فيها إلى حكايةٍ ما . كان كلّ حقلٍ من الحقول التي نمرّ بها في طريق عودتنا محاطاً بأشجارٍ عالية تمتدّ فروعها المعرّشة بعيداً . وكانت ثمّة أطواقٌ من الأغصان الشوكيّة المائلة إلى اللون الرماديّ تتشاركُ مع الأشجار المعرّشة في حماية تلك الحقول ، وكان طريقنا في العودة يقودُنا نحو منطقة كيهينغو قريباً من مدرستي الإبتدائيّة القديمة ، ثمّ نمرّ ببلدة مانغو ، وبعدها كنّا ننحدرُ أسفل وادٍ عميق ثمّ نتسلّقُ تلّة معشوشبة تنمو فيها الأشجار المعرّشة الداكنة ، ولكن حصل ومضينا في ذلك اليوم في تتبّع خطى قائدنا راوي الحكايات المدهشة – مثلما تفعل الأغنام مع راعيها – فسلكنا طريقاً آخر غير ذلك الطريق الّذي ألفناه من قبل . كان طريقنا الجّديد هذا أطول قليلاً من سابقه ويمرّ حول سياج مصنع باتا للأحذية في ليمورو حيث كان ثمّة موقعٌ لطمر مخلّفات المطّاط والجلود غير الصالحة ، ومضينا في طريقنا نحو تقاطع السكك الحديديّة مع الطرقات البرّية الرئيسيّة في المنطقة وكانت إحدى تلك الطرق تقودُ إلى السوق الرئيسيّة ، وفي تلك التقاطعات وجدنا تجمّعاً لجمهرة من الرّجال والنساء – ربّما كانوا عائدين من السوق – وهم منخرطون في مناقشة حامية ، ثمّ سرعان ماصار الجّمع أكبر عدداً بعد أن انضمّ إليه عددٌ من عمّال مصنع الأحذية القريب . تمكّن واحدٌ أو اثنان من الأولاد معرفة بعضٍ من أقاربهم في ذلك الحشد ، ورافقتُ الأولاد في الاقتراب من الحشد و الإصغاء إلى ما سيُقال .

” ألقي القبض عليه ويداه مخضّبتان بحمرة الدم” كان يردّد بعض الحشد .

” تخيّلوا ، رصاصاتٌ بين يديه ، وفي وضح النّهار ” ،،،،

كان الجميعُ يدرك – بمن فيهم نحن الصّغار – أنّ الإفريقيّ سيوصمُ بجرم الخيانة لامحالة متى ما وجدت رصاصاتٌ ( أو حتّى أغلفة رصاصات فارغة فحسب ) بين يديه ، وسينتهي به الأمر حتماً جثّة مدلّاة من حبل مشنقة .

” سمعنا صوت إطلاق عيارات ناريّة ” قال البعض

” رأيتهم يطلقون النار عليه بأمّ عيني”

” و لكنّه لم يمُت !! “

“يموت ؟ هممممممممممم ! الرّصاصات تطايرت على من كانوا هم يطلقون عليه النار”

“لا ، لقد طار نحو السّماء و اختفى بين الغيوم” ……………..

ساهمت اختلافات الرأي الجليّة بين ناقلي الحكايات بشأن ما حصل في تفريق الجّمع إلى جماعات صغيرة تضمُّ كلٌّ منها ثلاثة ، أو أربعة ، أو حتّى خمسة افرادٍ ، وتحلّقت تلك المجاميع الصغيرة حول السّارد الرئيسيّ للحكاية الذي روى وجهة نظره الخاصّة بشأن ماحصل عصر ذلك اليوم . وجدتُ نفسي أتجوّلُ بين مجموعة وأخرى وأنا أجمعُ شذراتٍ من المعلومات هنا و هناك ، وصار ممكناً شيئاً فشيئاً ربط حلقات السلسلة التي شكّلت حقيقة الحكاية : شخصٌ مجهول الهويّة ألقي القبض عليه في موضعٍ قريب من الحوانيت الهنديّة .

كانت الحوانيت الهنديّة قد شيّدت على حافّة نتوء صخريّ بهيئة صفوف من الأبنية التي يقابلُ أحدها الآخر على نحوٍ أوجدَ في نهاية الأمر مساحة مستطيلة واسعة الأرجاء تسعُ العربات والمُتبضّعين معاً ، وكان ثمّة منفذ لها نحو الخارج عند كلّ ركنٍ من أركانها . كان النتوء الصخريّ ينحدر نحو الأسفل حيث تنبسط أرضٌ سهليّة أقيمت عليها أبنيةٌ مملوكة للأفارقة على الهيئة ذاتها التي شيّدت بها الأبنية الهنديّة ، وكانت ثمّة فسحة واسعةٌ فيها تستخدمُ كسوقٍ شعبيّة أيّام الأربعاء والسبت من كلّ أسبوعٍ : كانت الخراف و الماعز المعروضة للبيع في ذينك السّوقين تُقادُ بحبالٍ مربوطة بأعناقها في مجموعات كبيرةٍ عبر المنحدر الرابط بين مُجمّعي الأبنية . كانت تلك المنطقة هي ذاتها التي انقلبت مسرحاً لما حصل وتجمّع فيها الرّواة والمستمعون الذين أجمعوا على أنّ الرّجل المجهول ذاك قد اقتادته الشّرطة بعد أن قيّدت يديه بالأصفاد وطوّحت به في مؤخّرة عربتها الضخمة ، ثمّ حصل أن قفز الرّجل على نحوٍ مفاجئ من تلك العربة وهرب بعيداً فما كان من أمر الشّرطة إلّا أن تطارده في كلّ مكان وأسلحتها مصوّبةٌ نحوه . اختفى الرّجل المُطارَدُ بين جموع المتبضّعين ثمّ وجد له منفذاً بين حانوتين للهرب بعيداً نحو الفسحة الواسعة الممتدّة بين الحوانيت الهنديّة والإفريقيّة ، وفي تلك الحالة لم يكن أمام رجال الشّرطة مفرّ من إطلاق النار وكانت النتيجة أن أصيب الرّجل وسقط أرضاً لكنّه عاود النّهوض والهرب بين جهة وأخرى ثمّ اختفى بين قطعان الاغنام والماعز حتّى انتهى به المطاف قريباً من شركة باتا للأحذية في ليمورو ثمّ اختفى عن الأنظار تماماً وهو غير مُصابٍ – على ما يبدو – بين مزارع الشّاي الخصبة المملوكة للأوربيّين ، وهكذا انتهت تلك المطاردة على نحوٍ جعل رجلاً مُطارَداً مجهول الهويّة يبدو أسطورة تتداولها الألسن وتروى عنها حكاياتٌ عديدة في معرض الإطراء على بطولتها وسحرها بين المجاميع التي شهدت حقيقة ما حصل بذاتها أو بين هؤلاء الّذين استمعوا إلى الحكاية من آخرين .

كنتُ قد سمعتُ حكاياتٍ مثل هذه عن مقاتلي حركة الماو ماو* وبخاصّة عن ( ديدان كيماثي ) ، ولغاية ذلك اليوم المشهود كان السحر الملازم لحكاياتٍ كهذه يسمَعُ عنه في مناطق بعيدة عنّا في ( نيانداروا ) أو سلسلة جبال كينيا و لكنّ تلك الحكايات لم تكن تُروى أبداً من قبل شاهد عيان ، وحتّى صديقي ( نغاندي ) الذي كان الأكثر دراية وبراعةً بين قصّاصي الحكايات لم يقل أبداً يوماً ما أنّه رأى بذاته أيّاً من تلك الأفعال التي كان يحكي لنا عنها بكلّ حرفيّة ودقّة ، وعلى الرغم من أنّني أميلُ بطبعي إلى الإستماع للحكايات أكثر من روايتها فإنّ حكاية ذلك اليوم ملأتني لهفة وتشوّقاً لروايتها على مسامع من أعرفُ قبل تناول وجبتنا من الطعام أو بعد الفراغ منها بقليل .

كانت العوارض الحديديّة ذات شكل x قد رُفعت بمواجهة الطريق المتقاطع مع مسار السكّة الحديديّة ، وتناهى إلى أسماعنا صوت صافرة القطار ثمّ مرّ القطارُ سريعاً عبر التقاطع مذكّراً إيّانا بأنّ ثمّة أميالاً أمامنا حتّى نبلغ بيوتنا . كنّا أنا وكينيث نتتبّعُ أثر مجموعتنا وعندما لم نكن رفقة أحدٍ من تلك المجموعة كان كينيث يفسدُ الأجواء بمحاولته اختبار صحّة الحكايات التي كنّا سمعناها أو في الاقلّ التشكيك في الطريقة الّتي رُوِيت بها ؛ إذ لطالما أحبّ كينيث رسم حدٍّ فاصلٍ شديد الوضوح بين الحقيقة والخيال ولم يكن يرغبُ في شيء من الخلط بينهما – ولو بمقدار جدّ ضئيل مثلما تفعل التوابل في تحسين نكهة الطّعام – ، و كنّا في العادة نفترقُ قريباً من موضع سكنه ونحنُ لمّا نتّفق على درجة المبالغة التي خالطت ما سمعناه من حكايات.

هوامش المترجمة

* الماوماو Mao Mao : حركة سرّيّة ضمّت الأفارقة الذين رغبوا في إنهاء الحكم الكولونياليّ البريطاني في كينيا ، وكان معظم من تعاهدوا على الاتحاد هم قبائل الكيكويو التي تقطنُ مناطق ذات كثافة سكّانية عالية. بدأت الحركة في أواخر الأربعينات من القرن العشرين وشرعت القوات البريطانية في شن هجمات لقمع الحركة بعد سلسلة من الاغتيالات والأحداث الإرهابية الأخرى التي قامت بها الحركة عام 1952 ، وقد حُوكم جومو كنياتا – الذي أصبح رئيساً لكينيا فيما بعد – بتهمة قيادة الحركة الثورية ونُفي في منطقة نائية حتى عام 1961 ، وأسفر القتال الذي توقف عام 1956 عن مصرع 10,000 شخص من الكيكويو وما يقرب من 2,000 إفريقي آخرين مع 95 أوروبياً و 29 آسيوياً من المؤيدين للحكومة الكولونياليّة .

______

[SIZE=26px] (3)[/SIZE]

بلغت رحلة عودتي من المدرسة إلى البيت ختامها عندما دلفتُ إلى الداخل ووجدتُ والدتي وانجيكو ، وأخي الأصغر نجينجو ، وأختي نجوكي ، وزوجة أخي الأكبر تشاريتي قد تحلّقوا جميعاً حول موقد النار ، وبخلاف كينيث كنتُ لا أزالُ أعاني من دوار لازمني منذ سماعي بحكاية الرجل المُطارد مجهول الهويّة الذي رأيتُ فيه واحداً من الشخصيّات التي لطالما قرأتُ عنها في الكتب ، ولكنّ قرقرة بطني الخاوية أعادتني إلى عالمي الأرضي . كان الوقتُ آنذاك قد تعدّى الغسق بقليل ولم يتبقّ الكثير من الوقت لتناول الطّعام ، وتناولت تلك الليلة طعامي في إناءٍ مصنوع من خشب الكالاباش ( calabash : خشب يؤخذ من ثمار خشبيّة كبيرة تشبه القرع الجبليّ تنمو على أشجار استوائيّة دائمة الخضرة وموطنها الأصليّ هو القارّة الأمريكيّة ، المترجمة ) وسط أجواء من الصمت المطبق الّذي عمّ المكان حتّى أنّ أخي الأصغر الّذي اعتاد الحديث عن إخفاقاتي الكثيرة – مثل عودتي إلى البيت متأخّراً بعد حلول الغسق – لزم الصمت وبقي هادئاً طول الوقت . ألحّت عليّ فكرة توضيح السّبب وراء عودتي المتاخّرة ولكن كان عليّ أوّلاً و قبل كلّ شيء تسكين قرقرة أمعائي المتضوّرة جوعاً ، ولكنّي وجدتُ أنّ الأمر لم يكن على قدر معقول من الضّرورة فلازمتُ السّكون مثل الآخرين . كسرت والدتي حاجز الصمت التام عندما أخبرتنا أنّ أخي الأكبر ( والاس موانغي ) الذي يُكنّى بين العامّة بِـ ( والاس الطيّب ) قد نجا ذلك العصر من موتٍ وشيك ، وصلّينا جميعنا لأجل سلامته بينما كانت والدتي تتمتم “هذه هي الحرب ،،،،،،، ” .
وُلِدتُ عام 1938 قبل وقت قصير من اندلاع حربٍ أخرى – الحرب العالميّة الثّانية . والدي هو ثيونغو وا نغوكو ، ووالدتي هي وانجيكا وا نغوغي ، ولست أعرفُ لليوم أين يقعُ ترتيبي – من حيثُ سنوات العمر – بين الأطفال الأربعة والعشرين الّذين أنجبهم والدي من زوجاته الأربع ولكنّي كنتُ بالتأكيد الطفل الخامس في ترتيب أخوتي بمنزل والدتي : فقد سبقَني في الولادة كلٌّ من أختي غاثوني ، وأخي الأكبر والاس موانغي ، وأختاي نجوكي وَغاسيرو ، أمّا أخي نجينجو فكان الطّفل السّادس والوحيد الأصغر منّي الّذي أنجبتهُ والدتي .
ذكرياتي المبكّرة عن منزلنا تحوي صوراً عن فناءٍ فسيح وخمسة أكواخٍ مشيّدة على قوس نصف دائريّ . كان أحدُ هذه الاكواخ يعودُ لوالدي و اعتادت الماعزُ أن تشاركنا النوم فيه ليلاً ، وكان كوخ والدي يمثّلُ الكوخ الرئيسيّ في المجموعة لا بسبب عظم حجمه بل لانّه أقيم على مسافاتٍ متساوية من الاكواخ الأربعة الأخرى ، وكان مثلُ هذا الكوخ يدعى ( ثينغيرا ) ، و كانت العادة المتّبعة آنذاك هي أن تتناوب زوجاتُ والدي – أو امّهاتنا كما كنّا ندعوهنّ – على إعداد الطّعام وَإحضاره إلى كوخ والدي حسب الترتيب .
كان كلّ كوخٍ من أكواخ زوجات والدي مقسّماً إلى فضاءات لها وظائف مختلفة : فثمّة موقد نارٍ يرتكزُ على ثلاثة أحجار تتوسّطُ الكوخ ، وهناك مساحةٌ مخصّصة للنوم وتخدمُ كمخزن مؤن في الوقت ذاته ، ويوجد فيه ايضاً جزء مقتطعٌ يأوي إليه الماعز ليلاً ويحوي في العادة قفصاً لتسمين الأغنام أو الماعز التي كانت تنتظرُ الذبح في مناسبات خاصّة ، كما احتوى كلّ كوخٍ على صومعة حبوب وكشك صغير دائري الشكل مثبّت على ركائز وتحيطه جدرانٌ مصنوعة من عيدان صُفّت معاً بقوة محكمة . كنّا في العادة نستخدمُ صومعة الحبوب كمقياسٍ للوفرة أو الشحّة : فبعد موسم حصاد وفير الغلال كانت الصومعة تمتلئُ بحبوب الذُرة والبطاطا والبازلّاء والفاصولياء ، وكان في مقدورنا أن نحدس فيما لو كانت ثمّة أيّام مجاعة تقتربُ منّا بمراقبة كمّ الغلال الموجودة في الصّومعة . احتوى الفناء الفسيح على زريبة أبقار كبيرة تدعى ( كراال Kraal ) مع أماكن أصغر للعجول ، واعتادت النسوة على جمع روث الأبقار ومخلّفات الماعز وتخزينها في موقعٍ قريب من المدخل الرئيسيّ للفناء . ومع السنوات تحوّل ركام الروث والفضلات إلى تلّة يغطّيها نبات القرّاص الشوكي Nettles ذو الرائحة اللاذعة ، وقد وجدت في تلك التلّة الكبيرة أعجوبة محيّرة لي كلّما كنتُ أرى اليافعين يتسلّقونها ثمّ يعودون هابطين بسهولة مفرطة . كانت أمام فناء الاكواخ مساحة مليئة بالاحراش تمتدُّ قبالة تلّة الروث واعتدتُ وأنا لمّا أزل طفلاً غير قادر على المشي بعدُ أن أتابع بناظريّ أمّهاتي وأشقّائي الكبار وهم يجتازون البوّابة الرئيسيّة باتجاه الأرض المزروعة بالأحراش وبدا الأمرُ لي كما لو أنّ تلك الأرض كانت تبتلعُ أمّهاتي وأشقّائي في وضح النّهار وبطريقة غامضة للغاية ، وكانت بذات تلك الطريقة الغامضة تلفظهم خارجها من غير أن تؤذي أحداً منهم ، ولم يكن بوسعي معرفة أنّ ثمّة طرقا بين الأشجار إلّا بعد أن كبرتُ قليلاً وغدوتُ قادراً على المشي وبلوغ مناطق أبعد قليلاُ من محض بوّابة الفناء وحينها علمتُ أنّ وراء الغابة تقبع بلدة ليمورو ، وكانت تمتدُّ من الجهة المقابلة للسكة الحديديّة مزارع خضراء مملوكةٌ للبيض حيث اعتاد أشقّائي الكبار العمل هناك في قطف أوراق الشّاي لقاء أجرٍ يوميّ .
تغيّرت الأحوال بعد ذلك ولستُ أدري اليوم هل حصل هذا التغيير على نحوٍ متباطئ أم فجائيٍّ و لكنّ المؤكّد أنّ الأمور تبدّلت في نهاية الأمر: اختفت الابقار والماعز من المشهد أوّلاً تاركة وراءها زرائبها الفارغة ، ولم يعد موقع تجميع الروث وفضلات الماعز يستخدم إلّا لتجميع القمامة لذا صار ارتفاع تلّة الروث القديم أقلّ تهديداً لي وبات في قدرتي ارتقاؤها والهبوط منها بسهولة ، وتوقّفت أمّهاتنا عن تهذيب الأرض التي بجوار الفناء و تحويلها إلى أراضٍ مزروعة واكتفين بالعمل في مزارع بعيدة عن موقع سكننا ، ولم يعد كوخ أبي في عداد أكواخ ( ثينغيرا ) كما كان من قبلُ وصار لزاماً على أمّهاتنا قطعُ مسافة طويلة لإيصال الطّعام إليه . كنتُ أعلمُ آنذاك أنّ الأشجار باتت تقطعُ وتُتركُ جذوعها في الأرض ثمّ كانت الأرض تحفرُ قليلاً تمهيداً لزراعتها بنبتة البايريثروم Pyrethrum ( فصيلة من بين عدّة فصائل نباتيّة تنتمي لعائلة البابونّج ، تستخدم للزينة بسبب جمال أزهارها ، كما يستخدم مسحوق الازهار المطحون كمبيد حشرات طبيعيّ ، المترجمة ) ، و كان من الغريب رؤية الغابة القريبة من سكننا وهي تتراجع منهزمة أمام زحف نبات البايريثروم ، والاكثرُ جدارة بالملاحظة أنّ أخوتي واخواتي شاركوا في ذلك الزحف عندما دأبوا على العمل فصليّاً في مزارع ذلك النبات – الذي التهم أجزاء كبيرة من غاباتنا – بعد أن كانوا معتادين على العمل في مزارع الشّاي المملوكة للأوروبيين والواقعة عبر الجهة الثانية من السكّة الحديديّة .
حصلت التغيّرات في كلّ من البيئة الطبيعيّة والنسيج الاجتماعيّ على نحوٍ لا يمكن إدراكه بسهولة بل تمازج الاثنان وخلقا وضعاً مربكاً بعض الشّيء ، ولكن مع الوقت بدأت خيوط اللعبة تتكشّفُ وبدت الأمور أكثر وضوحاً لي كما لو كنتُ خارجاً من غشاوة ضبابٍ كثيف وصرتُ مدركاً منذ ذلك الحين أنّ الأرض التي لطالما افترضناها ملكاً طبيعيّاً لنا لم تكن كذلك ، و أنّ المجمّع الّذي كنّا نسكن فيه كان بعض ملكيّة أحد لوردات الأرض الأفارقة : اللورد المحترم ستانلي كاهاهو ، الذي كنّا نسمّيه نحن ( بوانا كاهاهو) ، و علمتُ أيضاً أنّنا لم نكن بأكثر من مستأجرين منه ، ومضيتُ أتساءلُ : كيف ترتّبت الأمور بحيثُ صرنا محض مستأجرين لأرضٍ نعلم جميعنا أنّها أرضنا ؟ هل خسرنا أرضنا المملوكة تقليديّاً لنا وفاز بها الأوروبيّون ؟
لم تكن غشاوة الضّباب حينذاك قد انجلت تماماً عن أفكاري بعدُ.

_______
[SIZE=26px] (4)[/SIZE]

أبريل 13, 2016





48653_1.jpg

48653_2.jpg

48653_3.jpg

*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي





نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والانثروبولوجيا الثقافية وحتى أدب الأطفال ، وهو من المرشحين المهمين لنيل جائزة نوبل في الأدب . سأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو (أحلام من زمن الحرب: مذكرات طفولة) الذي يعدُّ وثيقة أدبية مهمة في شكل سيرة حياتية تكشف عن الواقع الاجتماعي السائد في معظم المجتمعات الأفريقية في حقبة الهيمنة الكولونيالية .

المترجمة



كان والدي شخصاً متحفّظاً وصموتاً للغاية وقد أباح بالقليل جدّاً عن ماضيه ، وفي الوقت ذاته بدت أمّهاتنا – اللواتي تمحورت حياتنا حولهنّ – متردّداتٍ في البوح بأيّة تفاصيل عمّا يعلمن بشأن ماضي والدي ، ولكن رغم كلّ ذلك فإنّ شذراتٍ من ذلك الماضي كانت قد تراكمت لدينا من وراء الهمسات والملاحظات العابرة وحتّى الحكايات التي كنّا نسمعها والتي أضحت بالتدريج سرديّة شفاهيّة تختصُّ بحياة والدي ودوره في عائلتنا .

كان جدّي من جهة والدي طفلاً نشأ في بيئة شعب الماساي* Maasai ، وحصل أن وجد نفسه ذات يومٍ ضمن قبيلة غيكويو في مكانٍ ما من مورانغا إمّا كفدية حرب ، أو كأسير ، أو قد يكون استبعِد من قبيلته الأصليّة بسبب أهوال المجاعة . لم يكن جدّي ذاك عالماً بلغة غيكويو وكانت بضع الكلمات التي يتمتمُ بها والعائدة لشعب الماساي تبدو غريبة وذات وقع يبعث على الاندهاش لدى الغيكويو لذا أطلقوا عليه اسم ( ندوكو ) وهو مايعني “الطفل الذي يردّدُ لفظة توكو دوماً” . مُنِح جدّي بين أفراد قبيلته الجديدة اسماً تشريفيّاً هو ( موانغي ) ، ويُحكى عنه أنّه تزوّج بامرأتين كلٌّ منهما حملت اسم ( وانغيسي ) ، ورُزق بطفلين من إحدى هاتين الزوجتين سمّي الاوّل نجينجو ( أو بابا موكوني كما كان يدعى في العادة ) ، أمّا الثاني فكان والدي ثيونغو ، كما رُزِق جدّي بثلاث بنات : وانجيرو ، كارويثيا ، وايريمو ، أمّا بالنسبة للزوجة الثانية لجدّي فقد كان له منها ولدان : كاريوكي ، و موانغي كارويثيا الّذي كان يدعى موانغي الجرّاح لأنّه أصبح لاحقاً متخصّصاً في عمليّة ختان الذكور التي كان يمارسها بين أفراد قبيلتي ( غيكويو ) و ( ماساي ) معاً .

لم يُقَدّر لي يوماً أن ألتقي جدّي ندوكو أو جدّتي وانغيسي : فقد ابتُلِيت المنطقة بجائحة مرضيّة وبائيّة غامضة وكان جدّي في عداد الأوائل ممّن غادروا الحياة بسبب تلك الجائحة ثمّ سرعان ما لحقته زوجتاه وأعقبتهما الابنة وانجيرو ، وقيل أنّ جدّتي كانت متيقّنة قبل وفاتها أنّ عائلتها وقعت فريسة لعنة قديمة قاتلة أو أصابها تأثير سحر مميت من بعض الجيران الحسودين ؛ إذ لم يكن بوسع أيّ أحد أن يصدّق كيف يمكنُ أن يموت بالغٌ بسرعة بعد نوبة حمّى قصيرة للغاية ، وتسبّب هذا الوباءُ في دفع والدي و أخيه إلى طلب الارتحال مع أقربائهم الذين كانوا ارتحلوا من قبلُ إلى كابيتي التي تقعُ على مبعدة بضعة أميالٍ ، وكان بين من ارتحلوا آنذاك أختاهم نجيري وَوايريمو ، وقد طُلِب إليهم جميعاً قبل الرّحيل أن يقسموا بألّا يعودوا ثانية إلى مورانغو أو يبوحوا بأصل جذورهم لذرّيتهم من بعدهم حتّى لايظلّ إغواء العودة إلى القبيلة الأولى الأمّ والمطالبة بحقوق أرض العائلة يتلاعبُ بمخيّلة أحفادهم ، وقد وَفى الصبيّان بما وعدا به أمّهما وغادرا مارانغا .

بدت لي تلك الجائحةُ المميتة – التي وأدت جدّي وجدّتي ودفعت بولديهما إلى اختيار حياة المنفى – منطقيّة نوعاً ما عندما قرأتُ بعد سنواتٍ لاحقاتٍ عقب بلوغي حكاياتٍ توراتيّة من العهد القديم تحكي عن الجّوائح الفتّاكة التي أبادت مجتمعاتٍ محليّة بعينها ، ودفعتني مخيّلتي إلى تصوّر أنّ والدي وأخاه كانا مثل هؤلاء الّذين اختبروا الخروج Exodus وغادرا الأرض التي ضربها طاعون فظيعٌ كما نقرأ عن ذلك في ذلك السّفر التوراتيّ بحثاً عن أرضٍ موعودة ، ولكن عندما كنتُ أقرأ عن العرب المُتاجرين بالعبيد ، أو روّاد البعثات التبشيريّة ، أو اللاهثين وراء مغامرات الصيد الكبرى – مثلما فعل تشرشل الشاب عام 1907 ، وثيودور روزفلت عام 1909 وقائمة أخرى من الأسماء سأوردها في سياق حديثي اللاحق – كانت تلك القراءات مدعاة لإعادة تخييل رؤية ماحصل لوالدي وعمّي فأراهما مثلاً بهيئة مغامِرَيْن مزوّدين بالسهام والأقواس يجوبان المناطق ذاتها التي جابها المغامرون الّذين كنت أقرأ عنهم ويسلكان مسالكهم ذاتها بل وحتّى يراوغانهم وينطلقان لمصارعة الأسود الجامحة ويتملّصان من لدغات الأفاعي المميتة ثمّ يغيبان في جوف الغابات القديمة عابرين التلال والنتوءات الصخريّة حتّى ينتهي المسير بهما إلى أرض سهليّة منبسطة وحينها يجلسان على الأرض وإمارات الخوف والصّدمة مرتسمة على محيّاهما ، ثمّ سرعان ما ينتبهان لتلك البنايات الحجريّة ذات الارتفاعات المتباينة التي تنتصبُ أمام ناظريهما ، وكذلك الطرقات الملأى بعرباتٍ من شتّى الأشكال وأناسٍ ذوي سحنات مختلفة تشمل كلّ الطيف اللونيّ من الأسود حتّى الأبيض . كان بعضُ البيض يجلسون داخل عرباتٍ يجرُّها رجالٌ سود ، وكان لابدّ أن يسودهما شعورٌ آنذاك أنّ تلك هي الأرواح البيضاء ( ميزونغو Mizungu ) ولا بدّ أن تكون تلك اللوحة الجميلة لِـ ( نايروبي ) التي سمعا عنها حكاية من قبل تقولُ أنّ الأرض قد تقيّأت تلك المدينة من باطن جوفها !! ولكنّهما ماكانا على قدر كافٍ من الاستعداد لتصديق رؤية تلك السكك الحديديّة وذلك الوحش الميكانيكيّ المرعب الذي يبعثُ اللهب والدخان إلى الأعلى كما يبعثُ أحياناً صوتاً يجعل الدماء تجمدُ في العروق .

يعودُ الفضل كلّه إلى ذلك الوحش المرعب في خلق نايروبي ودفعها إلى الوجود : خدمت نايروبي في الأساس كورشة تجميع ضخمة للمواد الثقيلة التي تسهم في بناء السكك الحديديّة – إلى جانب الخدمات الكثيرة السّاندة لتلك الصّناعة – وهكذا تحوّلت نايروبي إلى مركز يضمُّ آلاف الأفارقة و مئات الآسيويّين وحفنة من الأوربيّين العدوانيين المشاكسين الذين بسطوا هيمنتهم على تلك الصّناعة . في عام 1907 زار وينستون تشرشل – الذي كان يعمل آنذاك مساعداً لوزير الخارجيّة لشؤون المستعمرات – مدينة نايروبي التي لم يكن قد مضى على إنشائها أكثر من تسع سنواتٍ فحسب ، وبعد زيارته كتب تشرشل يقولُ “إنّ كلّ رجل أبيض في العاصمة نايروبي كان سياسيّاً وأنّ أغلب البيض كانوا قادة أحزابٍ سياسيّة ” ** ، وأبدى شكّه وامتعاضه من قدرة “مركز حديث التكوين على إنتاج كلّ هؤلاء السياسيّين ذوي المصالح المتضادة والباعثة على التقاتل ، وكيف أنّ مجتمعاً صغيراً كان قادراً على منح مثل هؤلاء السياسيّين قدرة قويّة على التعبير وإنْ كانت تعبيراتهم أحياناً لا تخلو من عنفٍ بيّن ” ** .

أثّر مرأى البيوت الفارهة المُشيّدة في السهول المنبسطة على كلّ من الشقيقين بطريقة مختلفة : فبعد أن مكثا مع عمّتهما يوثيرو لفترة ما غادر عمّي المدينة القاسية المليئة صخباً وفضّل البحث عن رزقه في المناطق الريفيّة من نيديا وَليمورو واضعاً نصب عينيه الاستقرار عند عائلة آل كاراو ، بينما افتتن والدي – على النقيض من أخيه تماماً – بالمركز الحضريّ للمدينة وساكنيه السود والبيض معاً وقرّر المكوث هناك ، ولحسن حظّه وجد له عملاً منزليّاً في أحد البيوت الأوربيّة ، وكعادة والدي مع كلّ ما يتعلّق بحياته الشخصيّة فإنّ الحكاية الخاصّة بذلك الطّور من حياته لا تزال شحيحة للغاية ماخلا حكاية يتيمة تخصّ عزوفه عن التجنيد والخدمة في الحرب العالميّة الأولى .



هوامش المترجمة
* الماساي Maasai : مجموعة عرقية تستوطن قرب بحيرة توركانا التي تُعَدُّ ضمن الامتداد الجغرافي الطبيعي للبحر الأحمر والذي يمتد من شمال كينيا ويشمل تنزانيا أيضاً . تعيش قبائل الماساي – التي تعتبر طبقاً للتقسيمات الأنثروبولوجيّة من القبائل النيلية لوقوعها جغرافياً في مناطق منابع النيل ولهجتها المقاربة لمثيلاتها من القبائل النيلية المستوطنة – في الكونغو مرورا بأوغندا وكينيا وتنزانيا ، وفي تلك القبائل المنغلقة على نفسها يكرّس الفرد حياته فقط لرعي وتربية الأبقار ، ورغم أنّ الماساي قبائل مسالمة إلا أنّهم قوم محاربون ذوو بأس شديد عند الحاجة للدفاع عن أبقارهم لذا يخشاهم جيرانهم الرعاة من قبائل الزامبورو والغيكويو و الباري ولا يدخلون معهم في صدام وبخاصة عند مناطق الرعي السهلية الواسعة التي تعرف بِـ ( الساڤانا ) .
** ونستون إس. تشرشل : رحلتي الأفريقيّة ، ( ليو كوبر ، 1968 ) صفحة 18 .
Winston S. Churchill : My African Journey , ( Leo Cooper , 1968 ) , P. 18

_______





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة ، وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والانثروبولوجيا الثقافية و حتى أدب الأطفال . اعتاد واثيونغو على الكتابة باللغة الإنكليزية ولكنه أحجم عنها في مرحلة ما من تطوره الثقافي وانبرى للكتابة بلغة (Gikuyu) المحلية .

ولد واثيونغو في قرية من قرى كينيا عام 1938 وعُمّد باسم (جيمس نغوغي) جريا على تقاليد الكنيسة التي تخلع أسماء قديسين على أسماء المواليد تيمناً بهم وطلباً لبركة مرجوة ، ثم أكمل دراسته وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية محلية في العاصمة الأوغندية كمبالا ، وحصل خلال فترة تعليمه الجامعية أن عُرِضت مسرحية له بعنوان “الناسك الأسود The Black Hermit” عام 1962 . نشر واثيونغو روايته الأولى “لا تنتحب يا طفلي Weep Not , Child” عام 1964 عندما كان يكمل دراسته الجامعية العالية في جامعة ليدز البريطانية وكانت الرواية الأولى التي تنشَرُ بالانكليزية لكاتب من شرق أفريقيا ، ثم نشرت روايته الثانية “النهر الذي بيننا The River Between” التي يحكي فيها عن تمرد قبائل الماوماو ، وقد وصفت الرواية بأنها حكاية رومانسية حزينة للعنف الذي ساد بين المسيحيين وغير المسيحيين في تلك الأصقاع الأفريقية النائية ، وقد اعتمِدَت هذه الرواية ضمن مناهج الدراسة الثانوية في كينيا . جاءت رواية “حبة قمح A Grain of Wheat” لتؤشر تعلق واثيونغو بالماركسية الفانونوية ( نسبة الى فرانز فانون ) ، وبعد نشر هذه الرواية تخلى واثيونغو عن كل من اللغة الإنكليزية والديانة المسيحية وعن اسم ( جيمس ) الذي ألحِقَ به عند العماد معتبرا هذه كلها رموزا كولونيالية . واعتمد منذ ذلك الحين اسم ( نغوغي وا ثيونغو ) وابتدأ يكتب بلغة الكيكويو واللغة السواحلية . كان العمل المسرحي الذي كتبه واثيونغو ( سأتزوج عندما أرغب ) وقدَم عام 1977 رسالة سياسية واضحة دفعت نائب الرئيس الكيني آنذاك ( دانييل أراب موي ) الى سجن واثيونغو في سجن يخضع لحراسة مشددة وقيود صارمة ما دفع واثيونغو إلى الكتابة داخل السجن على ورق التواليت !! . بعد اطلاق سراحه من السجن تم فصل واثيونغو من عمله كأستاذ في جامعة نايروبي و كان للمضايقات الوقحة التي تعرضت لها عائلته بسبب نقده الحاد للحكومة الديكتاتورية أثر بارز في خروجه مع عائلته الى المنفى ولم يعودوا الى كينيا إلا عقب 22 عاماً و بعد أن تمت إزاحة ( أراب موي ) عن السلطة .
تضم أعمال واثيونغو عناوين كثيرة نذكر منها : ( معتقل Detained ) عام 1981 وهي يومياته عندما كان رهن الاعتقال ، ( التخلص من استعمار العقل : السياسات اللغوية في الادب الافريقي Decolonizing Mind : Politics of Language in African Literature ) عام 1986 وهي محاولة في الدعوة الى أن يكتب الافارقة بلغاتهم المحلية بدل اللغات الاستعمارية الاوربية ابتغاء لبناء هوية محلية في الادب الافريقي ، ( ماتيكاري Matigari ) عام 1987 وهي واحدة من اهم اعماله وتتبنى أسلوب هجاء صارخ مؤسس على حكاية فلكلورية كينية . نشر واثيونغو عام 1993 كتابه المهم ( زحزحة المركز : الكفاح من أجل الحريات الثقافية Moving the Center : The Struggle for Cultural Freedoms ) وهو الكتاب الذي وضعته على قائمة الأعمال التي أطمح لترجمتها قريباً .
عمل واثيونغو عام 1992 أستاذا للأدب المقارن ودراسات المسرح في جامعة نيويورك ويشغل اليوم منصب أستاذ اللغة الإنكليزية و الأدب المقارن ومديرا للمركز العالمي للكتابة والترجمة في جامعة كاليفورنيا في إرفين Irvine . نشر واثيونغو سيرته الذاتية في عملين : ( أحلام في زمن الحرب : مذكرات طفولة Dreams in Time of War : A Child Memoirs ) عام 2010 ، واتبعها بعمله الثاني والمكمل ( في بيت مفسر الاحلام : مذكرات In the House of the Interpreter : Memoirs ) عام 2012 . ينبغي الإشارة أن واثيونغو من المرشحين الساخنين لجائزة نوبل في السنوات الأخيرة .
سأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو ( أحلام من زمن الحرب : مذكرات طفولة ) والتي أطمح من ورائها إطلاع القراء الكرام على جانب من التراث الكولونيالي الأفريقي كما دوّنه أحد كبار الكتّاب الذي صار علماً من أعلام الحقبة مابعد الكولونيالية ولطالما دعا إلى زحزحة المركز الكولونيالي والدفاع عن الحريات الثقافية في العالم ، بل وذهب الأمر به إلى حد اعتماد اللغات الأفريقية المحلية بديلاً للغات المركز الكولونيالي القديم .
المترجمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى