خالد عثمان - بروستريكا.. قصة قصيرة

واصل حديثة بامتعاض وسخرية باكية و أسنانه العليا تصطك بقوة على السفلى رغم أنفه ، وانشغل بشاله الصوفي يجذبه على انفه تاره ويلفه على رأسه مرة وتارة أخرى عله يجد بعض الدفء والصقيع يتكاثف من حولهما ، وكان يضع مشروبه الذي يحمله بكلتا يديه ليشير الي مواقع كان لديه فيها ذكريات واشجان، ومع كل جرعة من النبيذ الذي ارسلته له أخته من قريتهم الواقعة في الحدود مع رومانيا ، كانت حسرته تزداد وتجري على خده دمعة او ثلاث، واستضاف في الشرح عندما لمح مجموعة من الفتيات يخرجن من مطعم أمريكي على ناصية الميدان الرئيسي للعاصمة ، وقال بعد ان وضع زجاجته التي وصل النبيذ فيها الي النصف ( هنا كانت توجد مطبعة لصحيفتي الحزب، كان لدي الكثير من الاصدقاء يعملون بها، كان كل شيئ مرتبا ويسير كما نريد، تحملنا حافلة من بيوتنا الي هنا، نتجه مباشرة الي مكاتبنا ويتجه معظم الزملاء الي المطبعة، ليستلمو مهامهم من ورديّة الليل والتي تشمل في بعض الاحيان إكمال شحن وترتيب صحيفة الصباح مع بعض المطبوعات الخاصة بمنظمات الشبيبة واتحاد النساء.

وعندما أطرق ليرتاح لحظة من انفعالة الذي بلغ أوجه عند مرور سيارة حكومية تزفها الدراجات النارية، لمح حذائها الايطالي الاسود اللامع والذي صار يباع الآن في سوق “كيشينيف الرئيسي” ، ورفع رأسه ببط الي اعلى متابعا بنطالها الازرق المصنوع من قماش الدينم الامريكي ومن ثم ارتقى بنظره الي كنزتها السوداء المصنوعة بفرنسا، كانت تبدو في حالة جيدة ولاتشعر بأي برد، بل كانت تبدو وكأنها تغازل في الجليد المتساقط وتتسلى بلعب الصبية وهم يتقاذفون الكرات الثلجية، وادرك ان حديثه لم يعد يهمها.

وصمت شاخصا ببصره الي وجه تمثال القديس ستيفن الذي شهد أروع الملاحم في هذه الساحة حيث شهد اندحار العثمانيين وهزيمة الالمان ومظاهرات الفرح بالثورة البلشفية وشهد مسيرات الطلائع والشبيبة والقادة الكبار للدولة السوفوتية وشهد البروستيركا والانزلاق المهين للحزب، انه يحب هذا التمثال لان فيه شبه لينين والي حد ما ستالين ولايمت بصله شُبهة الي غورباتشوف ولا الي يالستين الساقط ، وجاء دورها في الحديث فاوجزت ولم تزد عن رغبتها في ترك هذا المكان وقالت له انها لم تعد تهتم بمن يحكم هذه البلاد، و قالت له ان السيد فلاديمير فرونين وصديقة فاسيل تارليف يتبادلان الحكم كما يتبادلان هدايا عيد الميلاد وزجاجات الفودكا ، وان مظاهر الثراء والنشاط التي تبدو على وجه العاصمة تخفي وراءها بؤسا وفقرا مدقعا في كل انحاء البلاد.وقالت له بانها قد تحصلت على سمة دخول لبريطانيا وكل همها الآن الحصول على بعض المال لتغطية تكاليف الرحلة وما يكيفها لعدة أشهر.

عندها لم يتمالك نفسه ، وغلبت عليه العاطفة فاصبح يهزي ويتمتم بعدة لغات فسب الرأسمالية باللغة الروسية وسخر من امريكا بالفرنسية ونعى نفسه بالرومانية، فرفيقة الكفاح الطلابي التي كانت تهيم حبا بجيفارا تريد ان ترمي نفسها لقمة سهلة مقابل حفنة من الدولارات الملعونة، وخاطبها قائلا:

أخشي ان ينالك ما اصاب ناتاشا في تلك الدولة العربية وان ترجعي الي هنا في تابوت يأنف الحانوتي في التعامل معه، او ان تموتي في دار للعجزة ويعثر عليك بعد ان يفنى جسدك وبعد ان تتحلل عظامك،.

وسارا علي رصيف شارع ميتشفشي وكان عليهما التحول الي الجانب الآخر منه لتفادي الحواجز الاسمنتية التي تحمي السفارة الامريكية وهو يردد بعض اشعار ميهاي امنسيكو الشاعر الوطني الكبير :



لا وجود لهذا العالم سوى لحظات قُبضت في ضوء

في الماضي، في زمن آخر او من قبل

لايبدو غير الليل …..

وتحول الانشاد الي أغنية لفتت انتباه المارة وحرس السفارة، ثم فارقها عند باب منزلها ومضى لسبيله.

وكعادته تجول بين القنوات التلفزيونية ثم توقف عند تلك المحطة الاوربية، وشاهد بانتباه وتهكم ما تعرضه الشاشة عن الثورات المخملية والبنفسجية في بعض دول الجوار المنشقة حديثا ثم عاد مرة أخرى الي القناة المحلية ليشاهد خطاب أمين الحزب الشيوعي الملدوفي بعد ان غير جلده حتى صار مثل أحزاب اليمين الديمقراطي في اوربا الغريبة وبصق على وجه أمينة العام الذي تسبب في انشقاقه مع مجموعة من قدامى المناضلين. وخلد الي فراشه مستجديّا النوم او حتى غفوة وعنما فشل اخذ يقلب في بعض المطبوعات القديمة للحزب وبعض من أشعار تشخّوف.

كان في اول الصف واستطاع اكمال اجراءات سفره بسرعة متناهية ، واخذ مقعده بجوار النافذة مترقبا صعودها ولحسن الحظ جاءت لتجلس بجانبه ، وعندما أخذتها الدهشة والبهجة معا ، شهر لها وثيقة سفرة وبها سمة دخول وإقامة دائمة بامريكا.


خالد عثمان
ملبورن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى