مقتطف مولود بن زادي - فتاة البشعة (مزعوقة).. لقاء في حديقة ريتشموند لندن من رواية "مَا وَرَاءَ الأُفُقِ الأزْرَق" - الجزء الأخير

وأمسكت عن الكلام وراحت تفرك يديها قلقا ثمّ تابعت بصوت حزين: قبل أسابيع شاهدنا جميعاً صور طفل غريق رمت به الأمواج على شاطئ (بودروم) بتركيا.. طفل منذ أن فتح عينيه على الدنيا لم تسمع أذناه إلا دويّ القصف والانفجار والصراخ والعويل.. طفل لم تر عيناه غير الدم والدموع والدمار... طفل حرمته الحياة من فرصة الدراسة بعدما هدّ القصف العشوائي مدرسته، وهدّ معها المسجد والكنيسة والمتاجر ومرافق الحياة المحيطة به.. طفل لا حول له ولا قوة، حملته ويلات الحرب على مغادرة داره ووطنه، فمضى في سبيله بحثا عن برّ الأمان والحياة وهو لا يدري أن الموت الغاصب، الذي تركه في البرّ خلفه، يتربّص به في عرض البحر أمامه!

ورفعت صوتها متنهّدة: واحسرتاه عليه المسكين! تتلاعب الأمواج العاتية بجثّته الصغيرة البريئة على مرأى من العالم، وعلى بعد أمتار من مرافق سياحية فخمة تتعالى فيها أصوات صبية يلعبون ويمرحون!

أطفال يسَّرَ لهم الزمان ظروف الحياة، فإذا بهم يسكنون في أرقى المساكن، ويدرسون في أفضل المدارس، ويجوبون بحار الدنيا على متن مراكب سياحية مجهزة بأحدث وسائل الأمن والراحة والترفيه، ليس كهؤلاء الأشقياء المساكين الذين حكمت عليهم الحياة بالتشرد والضياع وركوب قوارب الموت هربا من نيران الحرب، ومخالب الرُّهب، وخناجر الطوى!

ورفعت المرأة الغريبة بصرها نحو السماء وصاحت متحسرة:

ما أظلم القدر!

أغدق على أطفال من رغد العيش والأمن والارتياح والهناء الشيءَ الكثير،

وابتل آخرين بالفقر والعنف والخوف والعذاب المرير!...

وأمسكت عن الحديث وراحت تتفقد ساعتها ثم قامت من مجلسها متنهّدة وقالت بصوت خافت كأنما تحدّث نفسها: يطول الحديث عن هذه الحياة القاسية المليئة بالتناقضات يا سيدي الكريم، لكن أعذرني لابد أن أذهب الآن فقد تأخّرت.

وبينما كانت تتأهّب للرحيل، أضافت والغيظ يحتدم في نفسها المعذبة: الحياة كلها مبنية على الفوارق والظلم، منذ فجر الإنسانية!.. إنسان يأتي إلى الوجود في أحسن صورة، وآخر يبتلى بأبشع هيئة! أوليس من الحكمة والعدل أن يتساوى كل البشر في ذلك، فلا يشعر أحد بمهانة أو نقص؟!

ما ذنب طفل يولد مشلولا أو أعمى أو أصم أو أبكم؟! وما ذنب والديه ليعيشا في حزن وألم؟!

لا، لا، ليست الحياة عادلة! وأي عدل في الوجود إن كانت الحياة تحسن إلى هذا، وتسيء إلى ذاك؟!.. أو تكرم هذا، وتعاقب ذاك؟! وأي عدل في الوجود وقدرنا يعبث بأشكالنا، ويتسلى بأرواحنا!.. وأي عدل في الوجود والحياة صماء لا تصغي إلى دعاء الضعفاء منا، ولا تبالي بما يصيب الأبرياء منا من شرّ وضرّ!!

سأرحل الآن لكن لا شكّ أننا سنلتقي ثانية وسنواصل حديثنا الطويل هذا، وسأروي لك بقية قصة حياتي المليئة بالأحداث والمفاجآت. ولك الحرية في نشر قصتي ليتبيّن العالم مدى معاناتي، وتستفيد الأجيال من تجربتي.

وفي لحظة الرحيل، التفتت خلفها وردّدت باسمة: طاب يومك سيدي الأديب...

ولأول مرَّة ترتسم على شفتيها ابتسامة مشرقة من روحها الطاهرة الجميلة التي حبستها الأقدار في هذا الجسد الذي أثار سخرية أقرب الناس إليها والمجتمع من حولها وحرمها من فرصة الاستمتاع بحياة كريمة متكافئة مثل كثير من البشر!

مضت المسكينة في سبيلها تجرّ خلفها أذيال الخيبة والبؤس، وتركتني جالساً أتتبع بنظري خطاها مشدوهاً، متألما لحالها، حائراً في أمرها. وإن غابت عن نظري، فإنّ كلماتها لم تغب قط عن بالي. فأجمعتُ أمري على العودة إلى الحديقة والبحث عنها والإصغاء باهتمام وشغف إليها، ومعرفة بقية قصتها.

كانت هذه قصة الفتاة البشعة، يا وفاء، والتي كان لها بالغ الأثر في ذاتي. فحتى اللحظة ما زلت مضطربا، مستاء، لا أدري كيف أكظم غيظي وأضبط نفسي! فصورتها الكئيبة، مذ رأيتها، لم تبرح خيالي، وكلماتها المؤثرة ما برحت تتردّد في أذني، وتسري في أعماق نفسي، فتهز عواطفي وتنكد حياتي!

ما ذنب المسكينة يا وفاء؟! ما ذنبها إن كانت قبيحة المنظر حتى تتعرّض للمهانة والتحقير وتخضع لمثل هذا المصير؟! فهل خلقُ الأجسادِ ونفخُ الأرواح في هذه الأجسام الضعيفة الزائلة بأيدي البشر؟! هؤلاء البشر الذين يسخرون منها، يا وفاء، سيملؤون بعد ذلك أماكن العبادة في أكبر نفاق في الوجود طمعاً في الثواب والخلود في الجنّة!!

إني لعمري مستاء من ظلم الزمان!.. فأي عدل في هذا الوجود إن كانت الأرواح الجميلة الطاهرة تُحبس في أقفاص بشعة لا تفارقها حتى الممات، وقد تنعم الأرواح الشريرة بمناظر جميلة ساحرة تخادع بها غيرها مدى الحياة!!

وإني لمستاء من ظلم البشر!.. فهل نسي الإنسان أنه إنسان حتى يسيء معاملة شقيقه الإنسان ويهزأ به لأنه مختلف عنه في الأصل أو اللون أو الهيئة أو القامة أو الثقافة أو أي شيء آخر؟! وهل نسي الإنسان أنه خرج من الطين وأنه سيعود إلى هذه الطين يوماً، وسيذوق طعم الموت حتماً، آجلا أو عاجلا، سواء كان جميلاً أو قبيحاً، غنيا أو فقيراً، قوياً أو ضعيفاً، وافر الحظ في الحياة ومتاع الحياة أو ميسور الحظ فيها؟!

أسئلة كثيرة ما فتئت تتلاطم كالأمواج العاتية في ذهني، فتعذّبني وتطير النوم عنّي! سأكتفي بهذا القدر، صديقتي العزيزة وفاء، وإني أتطلّع إلى محادثتك قريبا، فقد طال الغياب. سعدت كلّ السعادة بصداقتك التي أتاحت لي فرصة التعبير عما يختلج في نفسي، بمثل هذه الرسائل. تقبلي خالص التحيات.

صديقك خالد"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى