عبدالجليل سليمان عبي - الشتاء والرحيل.. قصة قصيرة

كانت أحلى البلحات في سبيطة المدينة، قابلتها والزمان مختل... كانت تعرف كيف تصنع الفرح، إبتسامتها تسلبك تجذر الأشياء في أعماقك السحيقة، حتى نظراتها بذات القدر من العمق [ليس العمق المجازي، عمق القاع إلى السطح..] .. دافقة في غير إبتذال، مدمنة للفرح.. ذات مساء .. وحين كانت تغني:

آه بارنتو

وآه من [عيون] الصبايا..

والقوام الأبنوسي..

وإنسراب العشق في عمق النفوس..

وكؤؤس الراح والعشق/التجني..

كان صوتها كما العشق/الهوس، ينسرب داخلي .. كنت أحس حينها بنفسي يتعالى .. شهيق فقط .. [هل جربتم أحادية التنفس] بدأت أذوب رويداً .. رويداً أتلاشى في ذبذبات صوتها .. فأصير ذبذبة، وكنت عندما أتحول إلى ذبذبة من صوتها .. أردد، بصوت كورالي:

النيات هنا حقاً صبايا..
والعيون الدعج تسري في الحنايا..
[أقرع الطبل وغنى]
آه بارنتو جنان ناضرة
وصدور نافرات؛
وعيون جائعة
وكؤوس مترعات..
ورماح مشرعة...
فيأتيني صوتها تلك التي أربكتني حتى صرت لا أدري، هل أنا قادم أم رائح ... هل أمامي خلفي .. أم خلفي أمامي..
كان يأتيني ذلك الشجن الدافق مثلها..
والخلاخيل وجه ضاحكة..
وقلوب واجفات
وشفاه مطبقة..
ورجال كالأسود
وجلال .. و...و
وغبت بعدها إتحدت مع صوتها فصرنا واحداً .. كنت أصرخ مع صوتها فصرنا واحداً ... كنت أصرخ، أهتف بالرغم من الوهن الراعف ومرارة النظر إلى واجهات المحلات الأنيقة ..[كانت بين الركام شمعة ورزهرة]...

شارع (الكمبوشتاتو) يستفزني.. حاولت ذات مرة تهميشه فهاجتمني الشوراع الجانبية ـ هربت.

قالت فاطمة: إن أكثر ما يؤرقها هنا ... شكل المدينة الدائري، الشوارع الدائرية،، الدائرة عندي تعني عدم الإستقامة، عدم الوضوح.. ضبابية الرؤى.. رمادية الأشياء.

رد عليها أحد زوار المدينة .. [المراهقون بها] بل حسناوات المدينة إقتحمتهن الدوائر لماذا أجسادهن ممتلئة بالدوائر .. عجبي [سلبتنا هذه المدينة].

أطلق عباراته وذهب .. بخطوات نصف مشلولة..

كنت حين يقتحمني صوت فاطمة .. أشعر بأنني ملاك منتقاة يتأرجح بين الصوت والصدى ونكهة الوحي.. وتداعي بقايا الروعة في تخم الحياة..

كتب لي أخي ذات مرة ، يعتذر عني عدم رده على رسائلي ، قائلاً:

[بأن الكتابة عندي لها طقوس معينة فالكتابة شتاء عندي، ففي الشتاء كان ميلادي وفي الشتاء تلمست طريق المعرفة.. والشتاء عندي فترة إبداع تهب نسماته الباردة فأبحث عن دفء أجده في طفولتي وبداياتي الأبجدية.

ثم إستطرد قائلاً:

[إنني أبحث عن الضوء وعن الأوراق التي ينتهي فيها المداد.. ولا تنتهي فيه.. عن نهضة الدواخل وإن كانت موشكة على الإختفاء..].. نزفت حين قرأت عباراته..

هل هي دقيقة عبارات أخي أم صوت فاطمة؟.. إرتبطت حين خطر لي هذا السؤال ... والشتاء هو الشتاء .. وأنا ذبذبة من صوتها تتلاشى في نسماته الباردة..

ردت مقاطع لدرويش .. وأنا أتصبب خوفاً [من هذا البيان الشتوي/الهاجس]..

ماذا سأفعل بعد جسمك..

والشتاء هو الشتاء..

(عسل عنيف يرشد الأنثى إلى ذكر.. ويرشدني إلى عبث الكلام).

قلت إن فاطمة ستدفئ شتاء هذي المدينة بصوتها الملائكي الرخيم، وستهشم واجهات المحلات الزجاجية الأنيقة بجلال نيرانها...

عندها سيرقص صعاليك المدينة فرحاً بتطعيم آخر دوائر الإستفزاز في المدينة.

قال لي، أخي .. في معرض رسالته:

[أخاف عليك من الإستلاب..]

وقالت فاطمة:[فليعد إلأى الأشياء بعض رحيقها..]

[تسقط الأشياء اللزجة] هتفت أنا .. بقوة، حتى إهتز عرش الكلام في نبرات صوت فاطمة .. إذدادت سرعة نبضاتي...

ضحك أحد السابلة: وقال مامعناه مجنون بلغة التجرينية..

عندما إكتشفت معزى هذه العبارة .. دخلت أقرب البارات إلى شهوتي .. وحين أردت الشروع في تناول قدح البيرة،،، وجدت فاطمة عنده تركت القدح وقبلتها قبلة أجلت بزوغ فجر المدينة.

والليل يحتضر .. وفاطمة تقتسم مع الفجر الآتي أشياؤه القصوى والمدينة الدائرة تعلن قرب يقظتها.. والشعراء الغاوون يكتبون آخر مقاطع من عروضهم وتفعيلاتهم المرعقة. في تلك اللحظات بدأت دواخلي في النهوض .. إقتحمني صوت فاطمة، فتلاشيت فيه حتى نهاية مداه..

لملمت أشيائي .. وقررت الرحيل..



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى