تيسير النجار - شفق.. قصة قصيرة

كانت ساعات معدودة، لكن تبدلت فيها بشكل لا يوصف، دخلت مثقلاً؛ محني الظهر، خرجت لا أشعر بوقع قدميّ على الأرض. هبطت الدرج، تلقتني الشمس بأشعتها الحمراء؛ مازالت مستديرة رغم ميلها نحو الغروب. نز العرق من كل جسدي، ضقت بالمعطف؛ كان الجو باردًا قبل معرفتي بالأمر. اعتقدت أني سأنتقل بالتاكسي إلى الفندق حتى استرح؛ لكن كل شيء تغير الآن، ضيعني صدقهم؛ عبرت الشارع؛ ناداني مقهى عند الناصية، لبيت؛ خلعت معطفي وجلست. لو جئت في الصباح لطلبت سحلب، أحبه بل كنت أحبه فما عدت أشعر بشيء، سألني الصبي عما أريد، همست "شيشة وشاي ثقيل"، لا شيء يوقف الألم؛ شاي مر أو قهوة سادة، طغى الوجع على كل المرارات، طوى الذي بجواري جريدته؛ قال "شكلك غريب"، يحلم بحديث طويل يقتله به ملله أو فراغه؛ لو يدري ما بي لصمت، كرر ظنًا أني لم أسمعه "من فين؟"، قلت "من الصعيد"، استكمل "منين هناك؟"، أخبرته بأن صداعًا يفتك بعظام جمجمتي. تقمص دور الطبيب؛ راح ينصحني، جاء الصبي بالشيشة والشاي، تناولتها ولم أنتبه لثرثرته. عاد إلى جريدته خائبًا؛ عبأت صدري بالدخان لتزيد السموم داخلي. لمحت أطفالاً يلعبون بالكرة؛ على الرصيف يجلس طفل يبدو عليه الحزن؛ لم أتبين ملامحه؛ يضع كفه على رأسه، ينظر إلى أسفل، شعره غزير يشبه شعر رامز الذي توقفت عن التدخين منذ حملت زوجتي به. الآن أعود لعاداتي فهو ليس معي وأظن لن أعود إليه. الكثير من الأوراق على الطاولة؛ بجانب كوب الشاي، تنظر إليّ بوقاحة. أنا صاحب الأحلام الكبيرة؛ صرت رقمًا في تسلسل المرضى، عبثت بالأوراق؛ أرغب في تمزيقها وتمزيقي؛ وقعت عيناي على الروشتة التي بها الأدوية التي تمكنني من النوم، يتكالب الألم على رأسي في المساء، يلوذ النوم بجسد آخر؛ لم يجرِ سكين القدر به. اتجهت نحو الصيدلية؛ وضعت أمام الشابة كل ما طلبت من أموال؛ أموالي التي سقيتها بدمي حتى تنمو، لتجنب غدر الزمان، هاهو الزمان ذاته يغادرني، يطردني خارجه. عدت إلى المقهى؛ لم أجد صاحب الجريدة، طلبت كوب ماء؛ تجرعت المسكنات، لماذا تخذلني شجاعتي ولا استطيع ضرب رأسي اللعين بالحائط؟ أو الوقوف أمام سيارة مسرعة لتخلصني من هذا العذاب.
حياتي ما هى إلا مراحل، لكل مرحلة وجع مختلف؛ طفولتي عكرها اليتم؛ شبابي ضاع مني لتوفير حياة أفضل، فاصل سعيد كما الحلم مع أم رامز، حب أعاد لي الروح؛ أزال ندوب اليتم، لم يمهلني المرض. استنشقت الحياة؛ سلبها مني، نوبات الصداع أفسدت لحظاتي؛ تعجلت الإنجاب، وهبني الله إياه، ليته ما جاء، سيغرق في بئر اليتم مثلي، يظل حبلاً يجرجرها نحو ذكراي؛ له الكثير من ملامحي وحركاتي أيضًا. أعرف شخصيتها لن تتزوج بعدي، ستربيه وكأني موجود بل أفضل مني، ستعلق صورتي قبل الشحوب؛ واختلاس البسمة مني في غرفته، تخبره بمعاناتي وتزيدها بريقًا ليحترمني أكثر. ألمتني قدميّ من الجلوس؛ سرى الخدر في ظهري؛ حملت معطفي؛ شعرت بهاتفي في جيبه، تذكرت أني أغلقته قبل الدخول، متيقن أن زوجتي اتصلت كثيرًا؛ إن فتحته بماذا سأجيبها؟ مضيت؛ نظرت نحو الشمس لم أجدها؛ سحبتني خطواتي نحو شارع مظلم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى