عبد علي اليوسفي - رمي الغريزي

فوجئت.. والمفاجآت لا تفارق حياتي.. وهي كثيرة ولا يمكنني سردها اما حالتي فيما سبق هذه اللحظة هي النقل الى جبهة أخرى.. يعني مدينة أخرى ومواضع أخرى وحشود آخر وآمرين وعدو آخر.. وقصف آخر لكن هذه المرة قد توقفت الحرب. ولا داعي للخشية من الموت الذي يهددنا دائماً. طيلة تلك السنوات.

.. المفاجأة (ان طلبك الآمر) هذا الأمر الذي تواريت عنه سنوات ولم اقترب منه. رغم انه يراني كل يوم من خلال نقشاتي وحروفي في يريده اليومي. كانوا قد ملوا من مشاكساتي في الأفواج المتقدمة بعد ان سجنوني وحلقوا شعري صفراً. اقترحوا ان أكون في قلم اللواء بشرط إعلان توبتي من الغيابات والسكر والكبسلة وتزوير الإجازات. وجلب الكتب الممنوعة للمواضع.

.. انا لم ادخل غرفة الآمر قط. حتى انه عندما سأل مسؤول القلم (هل ان هذا الخط الجميل والواضح. له؟ وهو يقرأ الطلبات المقدمة إليه من قبل الجنود الذين يبغون فيها المساعدات وإجازات الزواج والسلف وغيرها. تلعثم كثيراً قبل أن يذكر له(اسمي) لكن الآمر تجاهل ذلك لأنه لا يحتاجني كثيراً في هذا المجال. وإذا أراد ان يكتب شيئاً ما سيطبع على الآلة الكاتبة. الحرب متوقفة منذ أشهر وجدول التسريح قد بدأ للتو. والفرحة تعتلي الوجوه. وتسرح رئيس العرفاء ونائب الضابط وطباخ اللواء. والحلاق، والجنود القدماء ولم يبق الا المتطوعون وهم قلائل قد حصدت الحرب الكثير منهم.

الوجل والخوف لا يزالان يتسيدان قلبي. يداي معروقتان، وقلبي ينبض، وكانما حرب جديدة ستبدأ. وسأكون أول من يتقدم ولكن لماذا؟ لا ادري وقد انتهى كل شيء مخيف. ولا يوجد بعد تلك المعارك آمر يتحسب المرء حدوثه.

ادخلني حرس الآمر بود. وهم غير مبالين بالآمر مثلما كانوا في السابق يقدمون الجندي. وهم في حالة التأهب والرهبة. انا في أتم استعدادي قياطين بسطالي محلولة ومقطعة ومعقودة في أكثر من مفصل وقميصي العسكري لا يطابق لون بنطالي الخاكي ذي اللون الفاتح.

نظر الي ثم ضحك غير مبال بمظهري لكنه أيد أهبة استعدادي له.

•- نعم سيدي!

•- أشكرك!! انا عرف كل شيء في اللواء، وخاصة أنت ذو الخط الجميل وانك تمتلك خدمة طويلة. وأمانة في المشجب والقلم.

نحن بحاجة الآن الى خدماتك بتولي منصب ر-ع- الوحدة وأنت جدير بتلك القيادة ولا تصعب عليك لا سيما ان القدماء قد سرحوا كلهم وأنت الآن الأقدم..!!

كان نائب الضابط المدعو (احمد محمود) يشغل منصب رئاسة عرفاء الوحدة. يقف بجانبي بجسمه القصير الضامر. وهو يضحك بنشوة. كاشفاً عن الأسنان السود الخربة الآيلة للسقوط.

كنت اسميه بداخلي (العرجون القديم) يشيد بي أمام الآمر وهو يغمز بعينيه (ما يعني يساعدك الله سيدي كيف ستقضي بقية الأيام مع شلة من أمثالي من الجنود) وعندما نظرت اليه وهي آخر نظرة لي استطلع بها قامته التي ستختفي الى الأبد لا سيما وهو يقدم أوراق تسريحه الى الآمر. وهمست له (من قلة الخيل شدوا..) طفق يضحك ضحكة ماجنة تكاد لا تميزها بين السعال الذي اجتاح صدره من جراء التبغ الردئ. مما جعل الآمر يتدخل:

•- ما كل هذا التدخين؟ سومر طويل، سومر قصير، سكائر لف.

قدم أوراقه وهو يقول بجرأة واعتزاز بالنفس لم أشاهده قط يتحدث بها أمام آمر سرية. بل حتى مع ملازم ذي نجمة واحدة او موس. فكيف به أمام آمر اللواء (كافي خلصت عمري في الخدمة اما الآن سأزور (الأمام) كل خميس؟ يقصد مرقد الإمام علي -ع- لأنه من أهالي النجف رغم إني لم أره يصلي او يصوم يوماً واحداً. وطيلة السنوات الخمس التي أمضينها معه، وعندما لكزتة بخاصرته ضحك وهمس لي (ان صمت) وهو يضع سبابته على فمه مهدداً إياي بنظراته الابليسية. ان لا يفي بوعده لي الذي تعهد به على نفسه عند تسريحه وعندما وجه له الآمر سؤالاً حول الألغام التي كلف بإزالتها من الساتر القديم ان يوكل أمرها لي للقيام بها لكنه هز يده مصحوبة بضحكته المتحدية قائلاً:

(لم يبق منها الا القليل. وسأنجزها قبل ان استلم كتابي) وأردف بوجه بشوش (وحياتك سيدي) ثم اقترب من الآمر وطبع قبلة على كتفه ولما رأى الآمر متواطئاً مع مشاعره طبع قبلة على رأسه ثم على خده وكانه يحقق رغبة عمرها ثلاثون سنة ثم ابتعد وجلا فقال الآمر.. وعيناه تلمعان بمعنى لم أدركه. (ونعم المقاتلين للحظة الأخيرة معنا) ثم طلب منه اصطحابي ليدنلي على ما تبقى من الألغام ويسلمني ملفات رئاسة عرفاء الوحدة وأسماء الحرس الشخصيين للآمر والسيطرات الأخرى المحيطة بالمعسكر وإجراءات ساحة العرضات والتدريبات الصباحية للجنود الجدد الوافدين الى الوحدة.

وبعد خروجنا مشى مسرعاً وهو يتقد منا نحو تلة تبعد مئتي متر تقريباً عن حدود المقر تبعة ثمة جنود قد ساهموا في إزالة تلك الألغام بهمة عدا احدهم اخذ يتبادل معي أطراف الحديث ونسير بتؤدة ونحن نعتلي التلة لا داعي للسرعة وهناك مدة طويلة تنتظرني ساملاها.

قال (هؤلاء معجونة العسكرية بدمهم) وقبل ان ينتهي من كلامه (دوى انفجار) وتعالت صرخات الجنود فأسرعنا راكضين نحوه، فوجدناه ممزقاً بالشظايا. وساقاه القصيرتان ممددتان بارتخاء فوق الأسلاك الشائكة.

فقال الجندي:

•- لقد تسرح تماماً.

فما كان علي الا أن اهيئ نفسي واعدها لقيادة سرية المقر. اذ صرت بين ليلة وضحاها لم احتسب لها ولم اخطط لها او اطمح بها من الشخصيات المهمة في هذا المقر. اصدر تعليماتي وأوامري.. جدول الواجبات، والغيابات، والعودة الى القوة والقزان.

او الإنزال من القوة والقزان. وغيرها من المساعدات السرية. للجنود والزمنيات الى المدن القريبة وأدركت معنى القيادة ومتى تكون قاسياً ومتهادناً إزاء بعض الحالات، يمكن ان يسوق لك الزمن القيادة من غير أي تخطيط او جهد معين. تجد نفسك ازاءها فحسب. وما عليك الا ان تسير بالدرب.

في الليلة الأولى. لم انم قط وأنا أتخيل نفسي أسير في ساحة العرضات، ثم أقف أمام الآمر وأنا أقدم له الموجودين والغائبين وعدد المجازين.. أؤدي التحية بحركة رشيقة، ثم أهرول مسرعاً لأقف وراء الارهاط فاسحاً المجال له بالإيعاز لتفرقة الفصائل او ابداء الملاحظات وتتنازع برأسي الذكريات والهواجس.

من الأحداث التي لا يمكنني نسيانها والى أي مدى وصلت بي الحياة. عندما أدخلنا المقدم الركن ذو القامة القصيرة المشدودة والوجه المحفور دورة تاهيلية للفصيل الإداري. كنت أنا الوحيد الذي يدرك الخسارة والانكسار النفسي الذي يعانيه هذا المقدم لا سيما بعد ان أسقطت عنه رتبتان. فأصبح مقدماً بدلاً من عميد وحسب ما روي لتهوره في القيادة وخساراته المتكررة في الهجومات التي يقودها وضعف ذاكرته.

كان يتجول بين الحضائر الدائرية وهي تفكك وتركب -البندقية الآلية- كلاشنكوف وما كان يصل الى حضيرتنا حتى يتوقف ويسأل احدنا وهو متأهب للانقضاض عليه هجاء وتلويحاً بالضرب. كان الأمر آنذاك متجاهلاً وجوده. لكنه يزجه بين فترة وأخرى في دورة ما لكنه ما يفتأ ان تخفت سورة غضبه فيروي لنا قصته التي لا تنتهي مع الجنرال الروسي -وهو يعلمه- الرمي الغريزي (كنت أزقه مثل العصفور لكؤوس الويسكي الصهباء)... كنا نعود الى ساحة التدريب في المساء، ثم نذهب للمرقص وترن الكؤوس).. رمي غريزي!! من أجود أنواع استخدام السلاح.. سأعلم أحدكم الرمي الغريزي واستدار نحوي واشر بسبابته.

•- انهض.

سقطت الصاعقة على رأسي سأكون الضحية هذا اليوم ونكتة المساء. امسك البندقية بعدما أمر بإحضار الهدف الوهمي، ووجهها نحو الهدف غريزياً (بدون فرضة وشعيرة) وأطلق ثلاث رصاصات أصابت الهدف. ثم طلب مني ان أهدف وأطلق. فطاشت رصاصتي في الفضاء فهاج صائحاً (أي نوع من البشر أنت؟) (الم تر هدفاً بهذا الحجم؟) (أهذا غريزي؟!) ثم سحبني من ياقة قميصي وأمرني بتثبيت قدمي ثم الرمي.. فطاشت الرصاصات مرة أخرى تجاه الغيوم. كنت الهث من الإرهاق.. وبقية أفراد الحضيرة يحشون أفواههم بحمالات الخوذ وقطع تنظيف السلاح المتسخة بالزيت الأسود والتراب. للتغلب على الضحكات المتفجرة في داخل صدورهم. ولما أدرك الآمر ما يقوم به المقدم. أطلق صافرته منهياً ساعات التدريب الأولى.. تنفست الصعداء وهو يخلي سبيلي غير متذكر أي شيء في الساعات التي تلتها.

ما ان انبلج الصبح وانتشر ضياء الشمس خجلاً حتى طرق باب غرفتي طرقات متتالية:

•- أنا فريدون!! يريدك آمر اللواء. ثم أردف:

•- بسرعة

ارتديت ملابسي على عجل وما ان خرجت حتى لقيت الآمر قرب الباب هو يعطي الأوامر للضباط (أن احزموا يطقاتكم) وبعد مسيرة ثلاثة أيام. استقر بنا المقام في صحراء مدينة ما. والكل يتساءل ما الأمر؟ ولا جواب!! وبعد أن أفقنا من وعثاء سفر ثلاثة أيام وتعب نصب الخيم والحفر.. حتى أطلت علينا ذات الوجوه التي سرحناها قبل أيام من القدر لتعيدها إليه ثانية.


عبد علي اليوسفي


عبد علي اليوسفي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى