مياسة علي عبده النخلاني - أوراق الخريف.. قصة قصيرة

تحت شجرة الصفصاف العجوز، افترشت الأوراق اليابسة، وفرشت كل أحزانها ودموعها على الأرض المتعطشة لقطرة ماء ولو كانت مالحة. ظلت تحدق في كل شيء ولا شيء، متسمرة النظر والجسد إلا من أنفاس متحشرجة تنبض نبضاً خافتاً بين رئتيها العازفة عن الحياة.
ارتعشت شفتاها ارتعاشة خفيفة، قبل أن تطبقهما مجدداً، وتركت دموعها المالحة تنحت أخاديد عميقة على خديها اللذين أنهكهما البكاء الطويل. وحين تعبت من البكاء مسحت بظهر كفيها ذينك الدموع واستندت على الجذع العجوز، تنظر للأعلى، تراقب خيوط الشمس المتسللة من بين الأغصان البرتقالية المصفرة:
(إنه الخريف) همست بصوت واهٍ، وهي تتبع مسار سقوط بعض الأوراق اليابسة من أعالي الشجرة، وحين استقرت بقربها احتضنتها وربتت عليها كما تربت على طفل صغير:
(لا عليك فأنت جميلة في كل حالاتك).. خاطبت الورقة برقة قبل أن تودعها قبلة طويلة وتعيدها مجدداً إلى حيث قررت أن تموت.
هب نسيم بارد حرك أوراق الشجرة المحتضرة، لتعزف الأخيرة موسيقاها المحببة إلى قلبها، أغمضت عينيها واستمعت للأوراق اليابسة وهي تغني بشجن.
(آه) أخيراً شعرت بوجوده قربها، يداعب شحمة أذنها بأنفاسه الدافئة، رغم أنه اجتاز الممر الطويل المغطى بالأوراق والأغصان اليابسة لكنه لم يدس على أي منها، فكأنما حمله النسيم إليها، كما حمل أنغام الموسيقى.
وهي بين يديه نست دموعها، وحزنها المخبوء، واستمتعت بكل لحظة تقضيها معه.
وعلى إثر صوت تكسر الأوراق اليابسة تحت وطأة خطوات ثقيلة، جفل وابتعد مسرعاً قبل حتى أن يلقي عليها كلمة وداع واحدة، باستثناء قبلة حملها إليها النسيم البارد.
وحين ربتت يد حانية على كتفيها شهقت وهي تتمتم: (يا إلهي هل حان الوقت!) اعتصرت القلادة المعلقة على رقبتها براحة يدها، وغاصت في هذيان مبهم، فتحت عينيها، نظرت إلى الجاثي على ركبتيه بجانبها:
(ثمة موسيقى كانت تعزفها الأوراق في الأعلى، وكنت أرقص معه، وحين سمع صوت خطواتك ابتعد) بادرته باكية
ضغط على كتفها برفق، ظل يحدق فيها دون أن ينبس بكلمة
(هل أستطيع المكوث هنا أكثر) سألت بصوت مرتعش
هز رأسه نافياً، اعتدل واقفاً، ماداً يده لها ليساعدها على الوقوف. تبعته بخطوات ثقيلة، قبل أن تتوقف وتلتفت نحو شجرة الصفصاف، حيث كانت رقصتهما الأخيرة.
شعرت بذراعي والدتها تحيط بها، أشارت للشجرة وسألت بصوت واهٍ: (لكن ستبقى هي، أليس كذلك؟!)
(نعم يا ابنتي ستبقى، هيا بنا تأخرنا كثيراً)..
هذه المرة لم يدعها تلحق به، بل أمسك بها وقادها برفق.
مرت دقائق ثقيلة بطيئة قبل أن يصلا للمقبرة، حيث ستلقي النظرة الأخيرة على جثمان زوجها قبل أن يوارى بعيداً، بعيداً جدا، تحاشت النظر ناحية التابوت الجاثم على الأرض، دارت عيناها حولها، لكن أرهقتها النظرات الزائغة والدموع، أثقل كاهلها السواد المتوشح الأجساد والقلوب، وحين حدقت ملياً في التابوت تأكدت بأنه سيذهب دونما عودة، وستعود لشجرة الصفصاف وحدها، بين الحين والآخر قد ينسل طيفه من قبضة الموت ليرقص معها رقصة إضافية على وقع غناء أوراق الخريف.
أعلى