محمد أديب السلاوي - الصناعة الثقافية والإبداعية في زمن الألفية الثالثة..

-1-

تعرف منظمة اليونسكو "الصناعة الثقافية" بأنها الصناعات التي تنتج وتوزع النتاج والخدمات الثقافية، أي التي يتضح عند النظر إليها، إنها تجسد أشكالا للتعبير الثقافي بغض النظر عن قيمتها التجارية.

وتشير الصناعات الثقافية في منظور منظمة اليونسكو،إلى المجال/المجالات التي تشمل إبداع وإنتاج وتسويق المواد والخدمات ذات الطابع الثقافي، المحمية غالبا بقوانين الملكية الفكرية وحقوق المؤلفين. وتتمثل هذه الصناعات في النشر والطبع والوسائط المتعددة والصناعة السينمائية والوسائل السمعية والبصرية، وكذلك الصناعات التقليدية والهندسة والفنون التشكيلية والموسيقى وفنون العرض والرياضة وصناعة الآلات الموسيقية.

وليس بعيدا عن منظمة اليونسكو، قام العديد من الفلاسفة بتعريف هذه الصناعة كمصطلح لغوي. أولهم الفيلسوف النقدي الألماني تيودور ادورنو، وبعده الفيلسوف هور كهايمر في كتابه جدل التنوير( الذي نشر سنة 1944) والذي عرف الثقافية القابلة للصناعة بأنها هي ذلك الكل الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والعادات وأي قدرات اكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع.

تاريخيا، بدا مصطلح "الصناعة الثقافية" في الاستعمال والانتشار، مباشرة بعد ظهور ما يعرف بالإنتاج الصناعي للمصنفات الفنية (سنة1970) والذي أصبح يشمل مجموع النشاطات الثقافية ذات الصلة بالنشاطات الاقتصادية القائمة على الطبع والنشر والموسيقي والمسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون والأزياء.

وانطلاقا من مطلع الألفية الثالثة بدا مفهوم الصناعة الثقافية يتبلور و ينطبق على كل الصناعات ذات الطبيعة الثقافية التي تجمع بين ابتكار المضامين وإنتاجها والمتاجرة بها وأصبحت هذه الصناعة تستند على ركائز قوية، وهي: ،المنتجون لعناصر الثقافة / المنتجات الفنية والثقافية / المستهلكون للإنتاج الثقافي والفني.

-2-

اليوم، والعالم يطل على العقد الثالث من الألفية الثالثة، أصبحت الصناعة الثقافية والإبداعية تمتد على رقعة اقتصادية واسعة في أوروبا وأمريكا واسيا، تمتد هذه الصناعة من صناعة الأفلام والورق والأدوات التقنية، إلى أقراص وأشرطة وأجهزة وبرمجيات، تتوسع باتجاه إنتاج المواد الثقافية، مرئية ومسموعة ومقروءة والكترونية.

للتعرف على أوضاع هذه الصناعة اقتصاديا في العالم الراهن، نرجع إلى تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لعام2010 الذي يقول أن الاقتصاد الإبداعي للصين تخطى وبشكل كبير كافة اقتصاديات الإبداع العالمية،حيت هيمن على ما نسبته (21.6%) من السوق الدولية لمنتجات الصناعة الثقافية خلال الفترة)(2002_2008) تم جاءت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الثانية، حيت استحوذت على (8.4" %) من هذه السوق.وأوروبا على الرتبة الثالثة،(حوالي 6%).

و حسب الخبراء في هذا المجال، يعد النموذج الفرنسي من انجح التجارب العالمية في الصناعات الثقافية والإبداعية، حيت يؤكد هذا النموذج للعالم شرعية تدخل القطاع الحكومي في هذه الصناعات، وذلك استنادا إلى عدم القدرة على الاستجابة لتنميتها في مواجهة قوانين السوق وقوة العرض، وهو ما جعل فرنسا (سنة 1918) تؤسس أول وزارة للفنون من اجل تطوير الصناعة الثقافية والإبداعية في رعاية الدولة، من خلال تدخلها في التأهيل الفني والحفاظ على التراث ورعاية المبادرات المبدعة، تاركة الإنتاج الثقافي للقطاع الخاص.

كان الحدث الأكبر الذي عرفه العالم خلال هذه الفترة من الألفية الثالثة، هو تحول الصناعة الثقافية والإبداعية إلى مصدر هائل للثروة بالعديد من الدول في أوروبا وأمريكا واسيا، إذ لم تعد القيمة تأتى من تصنيع الأشياء، وإنما أصبحت تعود إلى المعلومات، وانتقلت السيادة من الشركات الكبرى إلى شبكة الانترنت وشبكات الاتصالات، وأصبح الإبداع في هذه المرحلة احد أصول السوق في العالم الحديث. خاصة بعدما ارتبطت هذه الصناعات مع خدمات أخرى كالسياحة والنقل والشحن والطاقة والمالية والتامين والاتصالات والمحاسبة والإعلان والتصميم وغيرها من الخدمات.

-3-

السؤال الذي تطرحه هذه الصناعة ،أين موقع العالم العربي منها... ؟

تقول كل التقارير الدولية حول هذا الموضوع ،إن الاهتمام بهذه الصناعة في العالم العربي يكاد يكون منعدما في العديد من المناطق ومهمشا في الكثير منها :

يقول تقرير لمؤسسة الفكر العربي ،أن العوائد المتتالية من مخرجات هذه الصناعة قليلة جدا ولا توجد أية إحصاءات أو بيانات دقيقة عن مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية، وهو ما يعني بلغة الأرقام، إنها لا تمثل قيمة تذكر في الدخل القومي العربي، وهو ما وضعها في مؤخرة الترتيب على الصعيد العالمي

احد الكتاب العرب( احمد سراج/القاهرة) يرى أن الوقت لم يتأخر على دخول العرب في عوالم الصناعات الثقافية، إذ تحتاج فقط إلى الموارد البشرية المدربة، والبرمجيات المتخصصة، وان الكلفة المالية لهذا النوع من الإنتاج متدنية بالمقارنة مع ما تدره من أرباح، أو بالقياس إلى كلفة الصناعات الأخرى.

ويرى كاتب آخر (هيثم السيد/الرياض) أن مفهوم الصناعة الثقافية والإبداعية شبه منعدم في الاقتصادات الوطنية والقومية العربية ،كما أن الاستثمار في المجال الثقافي لا يكاد يذكر بالمقارنة مع مجالات أخرى، وهو الواقع الذي يقود إلى ضعف احتمال تحقيق متطلبات واستحقاقات الثقافة ، فضلا عن عدم القدرة على مجابهة تحديات الأمن الثقافي القائمة على صناعة تنمية في هذا المجال.

المتخصصون في قضايا التنمية يؤكدون أن الأرض العربية تتمتع بالخامات الأولية للصناعات الثقافية والإبداعية، غير أن العالم العربي لا ينتج احتياجاته من المواد والسلع والأجهزة فضلا عن عدم امتلاكه التقنية والمهارة للتصنيع والصيانة،وهو ما يجعله خاضعا باستمرار لمزاج السوق العالمية

في المناظرة الأولى للصناعات الثقافية والإبداعية (الرباط/ يومي رابع وخامس اكتوبر2019) اتفقت أوراشها الخمسة والمتحدتين بها على أهمية هذه الصناعة بكل أصنافها ومستوياتها ، وأكدت على ضرورة قيام المغرب والعالم العربي بالاستثمار في المجالات الثقافية والإبداعية المختلفة لتحقيق خدمة الفكر والأدب والعلوم والفنون والتقنيات المرتبطة بها، وهو ما من شانه دعم مجالات الابتكار والإبداع والإنتاج الثقافي المتعدد الأهداف، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة،بما في ذلك تطوير الأسواق المحلية .للمنتجات الفنية والثقافية، وفتح أسواق العالم أمامها بجدارة ومسؤولية.

السؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم بقوة، ونحن في قلب الألفية الثالثة: متى نبدأ...؟
هل تأخر الوقت على التحاقنا بعالم الصناعة الثقافية، أم أن الأمر مازال يحتاج منا إلى قفزة /إلى قفزات في الاتجاه الصحيح؟.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى