ادورد وليم لين - 39 - المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر - تابع الفصل الثاني عشر

- السحر والتنجيم والكيمياء

تحدث الساحر إليّ وسألني إذا كنت أرغب في أن يرى الصبي شخصاً ما غائباً أو متوفى. فذكرت اللورد نلسون؛ ومن الواضح أن الصبي لم يسمع عنه أبداً لأنه نطق اسمه بصعوبة كبيرة بعد محاولات. وأمر الساحر الصبي أن يقول للسلطان: (إن سيدي يحيك ويطلب منك إحضار اللورد نلسون. أحضره أمام عيني حتى يمكنني رؤيته سريعاً) فقال الصبي ذلك وأضاف في الحال: لقد ذهب رسول وعاد وأحضر رجلاً يلبس ملابس أوربية سوداء والرجل فقد ذراعه اليسرى. ثم وقف لحظة وقال وهو ينعم النظر عن قرب في الحبر: لا، إنه لم يفقد ذراعه اليسرى وإنما وضعها على صدره. وقد جعل هذا الاستدراك بيان الصبي أكثر تأثيراً مما لو كان بدونه، لأن اللورد نلسون كان يعلق كمه الخالي إلى صدر سترته، ولكنه فقد ذراعه اليمنى لا اليسرى. فسألت الساحر دون أن أبين أنني أتهم الصبي بالخطأ، إذا كانت الأشياء تبدو في الحبر كما لو كانت أمام العين فعلاً أو كما لو كانت تنعكس في المرآة التي تظهر اليمين يساراً. فأجابني إنها تبدو كما في المرآة. فجعل هذا وصف الصبي صحيحاً.

وكان ثاني من دعوتهم مصرياً أقام في إنجلترا بضع سنوات فاتخذ الملابس الأوربية. وكان المرض قد ألزمه الفراش طويلاً قبل إبحاري لمصر، فرأيت أن أسمه وهو شائع في مصر، قد يحمل الصبي على الخطأ في وصفه؛ مع أنه حدث في زيارتي السابقة للساحر أن وصف صبي آخر هذا الرجل ذاته بأنه يلبس ملبساً أوربياً مثل ذلك الذي رايته به آخر مرة. أما الآن فقد قال الصبي لها هو ذا رجل لف في ملاءة وجيء به على نعش.

هذا الوصف على أن الشخص المذكور لا يزال ملازماً فراشه أو أنه مات. وقال الصبي إن وجهه مغطى، فقال له الساحر أن يأمر برفع الغطاء. ففعل ثم قال (إن وجهه شاحب، وله شاربان ولا لحية له) وهذا صحيح.

وقد استدعيت عدة أشخاص آخرين على التوالي ولكن أوصاف الولد لهم كانت ناقصة وإن لم تكن جميعها غير صحيحة. فكان كل وصف يبدو أقل وضوحاً عن السابق كما لو كان بصره يغشى شيئاً فشيئاً. فكان يلبث برهة أو أكثر قبل أن يستطيع أن يصف من يراهم. فقال الساحر إن من العبث إجراء التجربة معه؛ فجئ بصبي آخر ورسم المربع السحري على يده إلا أنه لم يستطيع رؤية شيء؛ فقال الساحر إنه فوق السن المناسبة.

أدهشتني هذه الأعمال تماماً، غير أنها خيبت ظني قليلاً لفشلها مرات في حضور بعض أصدقائي ومواطني. وقد سخر منها في إحدى هذه المناسبات إنجليزي من الحاضرين وقال: لا شيء يقنعه غير وصف صحيح لهيئة أبيه إذ كان على يقين من أن أحداً من الجالسين لا يعرف عنه شيئاً. فدعا الصبي والد الإنجليزي باسمه، ثم بين أنه يلبس الملابس الإفرنجية ويضع يده على رأسه، ويلبس منظاراً ويقف على قدم واحدة ويقيم الأخرى وراءه على نحو ما يفعل النازل من المقعد وكان الوصف دقيقاً من كل الوجوه. فقد كان وضع اليد على الرأس ناشئاً من صداع دائم، ووضع القدم من تصلب الركبة لسقوط الرجل عن ظهر حصانه أثناء الصيد. وقد أكد لي الحاضرون في هذه الجلسة أن الصبي أحكم الوصف في كل دعوة. ووصف الصبي مرة شكسبير شخصه وملبسه وصفاً دقيقاً. ويمكنني أن أضيف إلى ذلك عدة أحوال أخرى أثار فيها الساحر ذاته دهشة معارفي الرزناء من الإنجليز. وفي يوم آخر جهز الساحر، بعد أن قام بالتجربة بواسطة الصبي كالعادة، المرآة السحرية في يد إنجليزية شابة، فلم تكد تنظر فيها لحظة حتى قالت إنها ترى مكنسة تكنس الأرض دون أن يمسكها أحد. وتملكها الفزع فرفضت استئناف النظر

قررت هذه الوقائع بعضها من تجاربي الذاتية والبعض الآخر مما وصل إلى علمي عن قوم محترمين. وقد يظن القارئ أن الصبي كان يرى في كل مرة صوراً تنعكس في الحبر، أو أنه كان متفقاً مع الساحر، أو أنه يرشد بطريق الأسئلة. كل ذلك لم يكن. أما أنه لم يكن هناك اتفاق فقد تحققت من ذلك تحققاً مرضياً باختيار الصبي الذي قام بالعمل من بين المارين بالشارع، علاوة على رفضه رشوة عرضتها عليه فيما بعد لحثه على الاعتراف بأنه لم ير حقاً ما كان يقرر رؤيته. وقد امتحنت صدق صبي آخر في مناسبة لاحقة وبالطريقة نفسها، فكانت النتيجة واحدة. وكثيراً ما تخيب التجربة تماماً، ولكن عندما يصيب الصبي القائم بالعمل مرة يستمر في النجاح على العموم، وعندما يخطئ بادئ الأمر يصرفه الساحر تواً قائلاً إنه كبير السن. وقد يفترض البعض أن البخور أو الخيال المتأثر أو الخوف يؤثر في نظر الصبي؛ ولكن لو كان الأمر كذلك لما أبصر تماماً ما كان يطلب من أمور لا يمكن أن يكونّ عنها معلومات خاصة سابقة. ولم استطع أنا ولا غيري اكتشاف طريق ما ينفذ بنا إلى السر. ورجائي من القارئ إذا كان مثلنا عاجزاً عن إيجاد الحل ألا يدع البيان السابق يثير في ذهنه ريبة فيما يتعلق بأجزاء الكتاب الأخرى.

الفصل الثالث عشر

الأخلاق

إن طباع المصريين المحدثين تتأثر إلى درجة كبيرة بالدين والشرع والحكومة، كما تتأثر بالمناخ وأسباب أخرى. ومن ثم يصعب جداً أن نكون رأياً صحيحاً عنها. غير أنه يمكننا أن نقرر بثقة أن المصريين يمتازون أكثر من الشعوب الأخرى ببعض الصفات الذهنية العظيمة، وبخاصة سرعة الإدراك وحضور الذهن وقوة الحافظة. وهم في حداثتهم موهوبون على العموم بهذه الصفات وبقوى عقلية أخرى. غير أن العلل السابقة الذكر تحط منها تدريجاً

وليس في أخلاق المصريين الأصلية ما يستحق الاعتبار مثل الكبرياء الدينية. فهم يعتبرون كل من خالفهم في الدين هالكين. وقد ذكر القرآن في سورة المائدة في الآية الحادية والخمسين: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم)

ومن بواعث الأدب أو الصالح الذاتي أن يتحدث المسلم أحياناً إلى المسيحي، وخاصة الأوربي، بلهجة كريمة، وقد يصرح بصداقته وهو يضمر الازدراء له. ولما كان المصريون المسلمون يحكمون على الفرنج بمقتضى ما يظهر من الذين يسكنون مدنهم، وأكثرهم من شذاذ الآفاق ونفاية البلاد، فمن الصعب لومهم على ازدرائهم. ويعامل أهل مصر المسيحيين مع ذلك بلطف فالمسلمون قد عرفوا بالتسامح كما اشتهروا باحتقار الكفار.

ويعتقد المسلم أن التقي يرفع صاحبه، إلا أن رغبة الظهور بالتقوى تفضي بالكثيرين إلى الرياء. وكثيراً ما يلهج المسلم ببعض الأدعية إذا لم يكن مشغولاً بعمل أو تسلية أو حديث، وإذا أقلقته فكرة أثيمة أو ذكرى شر أرتكبه يصيح متنهداً (استغفر الله العظيم). وكثيراً ما يشغل التاجر نفسه في حانوته بتلاوة القرآن أو بالتسبيح إذا فرغ من مساومة حرفائه أو من تدخين شبكه

(يتبع)

عدلي طاهر نور


مجلة الرسالة - العدد 476
بتاريخ: 17 - 08 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى