أدب السجون يونس أباعلي - أعكاو: ونحن نموت تباعا سمعنا السياسيين من زنازننا وهم ينفون أمام منظمة دولية وجود تازمامارت (الحلقة 5)

تفاصيل الموت البطيء والنجاة بأعجوبة من معتقل تازمامارت ماتزال مختبئة رغم القصص التي رويت على لسان الناجين، منهم ضيف حلقاتنا عبد الله أعكاو (كان برتبة رقيب ميكانيكي متخصص في الذخيرة) الذي مازال لم ينشر بعد مذكراته على غرار جل الذين نجوا بأعجوبة، وهو الذي كُتب له العيش بعد قضائه 17 سنة داخل المعتقل الرهيب بتهمة محاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني.. في هذه الحلقات سنتذكر معه ماضيه الأليم منذ محاولات العيش وسط القبر إلى العودة لحضن العائلة وتلمس الطريق نحو الإدماج والإنصاف..



بدأنا بتنظيم أنشطة شعرية وفنية بشكل متناوب، وتسلسلنا في حكي قصصنا وأحلامنا وتخيلاتنا، وحددنا أوقاتا للراحة والنوم والقيلولة، والتزمنا بمراعاة حرية كل معتقل، وشرعنا في حفظ وتلاوة القرآن. كما أننا ابتكرنا كما يعلم الجميع أشياء بدائية لكنها ساهمت في التخفيف من معاناتنا (مقص، إبرة، مرآة)… كنا نترك أجسادنا في زنازيننا الموحشة ونسافر بذواتنا إلى خارج تزممارت.

سيرُنا بنجاح في هذا النظام لمسه الحراس، لذلك تغير تعامل بعضهم معنا ولانت سلوكاتهم ولمسنا فيهم الإرادة في مد يد العون، حتى استطاع صالح حشاد استقطاب ابن منطقته بنواحي بني ملال المساعد أول الحارس محمد الشربادوي، كما تمكن النقيب بلكبير من كسب المساعد أول مزيان وبعده نال تعاطف حارس كان يشتغل في ضيعة والده نواحي فاس.

لن أنسى كيف كان الشربادوي يخاطر ويتعمد ترك أبواب بعض الزنازين دون إقفالها، بشكل متناوب، ليفسح المجال لأصحابها للتحرر من فظاعتها والتواصل مع أصدقائه في غياب الحراس، شريطة أن يعودوا إلى حجراتهم المظلمة ورد القفل عليها قبل عودتهم كي لا يكتشف من لم تتحرك فيهم العاطفة ويشفقوا لحالنا هذه المؤامرة الإنسانية.
إعادة إحياء العلاقة مع بعض الحراس أدت إلى تمكن الطيار صالح حشاد من تجديد التواصل مع عائلته، بعدما أرسل إليها رسائل كانت مرفقة برسائل بعض المعتقلين، عن طريق ملاك تزمامارت الشربادوي، وهي ثالث عملية تواصل بعد الأولى التي كانت في الأسبوع الأول من مجيئنا إلى المعتقل شيء الذكر والثانية التي انكشف فيها أمر خربوش بسبب وشاية بندريس لمدير المعتقل الذي دبر له كمينا في مدينة الريش وأخبر الحراس في ما بعد بأننا موجودون هنا لنموت.

كان لدينا أمل في أن تتحرك الأحزاب السياسية للمطالبة بالإفراج عنا لكن ستمر الانتخابات ويتم توزيع المناصب الحكومية وسينصب المعطي بوعبيد وزيرا أول ووزيرا للعدل

شخصيا كنت أحرص على أن أبقى متمسكا بأمل انعتاقنا من هذا الجحيم، خصوصا وأننا كنا نحرص على متابعة ما يجري في خارج تزمامارت عبر مذياع كان بحوزة الملازم السعودي (كنا نقتصد في استعماله حفاظا على بطاريته). في هذه الفترة من التاريخ كان يهيأ لإجراء انتخابات تشريعية وجماعية وذلك في إطار رفع حالة الاستثناء التي كان أعلنها الحسن الثاني، وبالتالي كان لدينا أمل في أن تتحرك المعارضة والأحزاب السياسية وأن تطالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، من ضمنهم نحن. لكن ستمر هذه الانتخابات ويتم توزيع المناصب الحكومية وسينصب المعطي بوعبيد وزيرا أول ووزيرا للعدل، فخاب ظننا لأن الجميع تنكر لنا وخانونا خاصة أن بوعبيد كان قد ترافع في قضيتنا بل قال حينها إن محاكمتنا مهزلة. وما زاد من حنقنا أنه عندما حل وفد من منظمة “أمنستي” للاستفسار عن مصير المعتقلين السياسيين تنكر ونفى وجود معتقل اسمه تزمامارت.

نادرا ما كان مدير المعتقل يأتي إلى الثكنة، فقد فضل الاستقرار في مدينة مكناس، حيث كان لصيقا بحانة لا يغادرها ليل نهار يحتسي الخمر ويأمر الحراس عبر الهاتف. وعندما يحضر إلى المعتقل فإنه يأتي للسطو على الميزانية المخصصة للسجناء والحراس في الثكنة ويترك لنا فتات الفتات، بل كان يتاجر حتى في الحطب والبنزين. وأتذكر أننا كنا قد التجأنا إلى حيلة لكسر السلك الذي كان يشد به الحراس النويفذة الصغيرة في باب الزنزانة، فيعيدون وضعه فنكسره، ولما علم بالأمر دخل علينا ذات يوم وصرخ في وجهنا قائلا “هرستو السلك ديال الشرجم دابا تشوفو شكون اللي يتهرس”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى