عبدالرحيم التدلاوي - مغامرة الكتابة، وكتابة المغامرة، قراءة في مجموعة " الشمس لا تصنع المواقيت" للقاص توفيق بن حنيش..

صدرت عن دار زينب للنشر والتوزيع المجموعة القصصية " الشمس لا تصنع المواقيت" للقاص التونسي توفيق بن حنيش، في طبعتها الأولى سنة 2019، وتضم بين حنايها تسعا وثلاثين قصة، انبسطت على مساحة نصية تقدر بمائة وست وثلاثين صفحة. مشفوعة بتقديم هو بمثابة قراءة نقدية جادة للعمل؛ اتخذتها خارطة طريق في مقاربة المجموعة.
العنوان:
يمارس عنوان مجموعة القاص توفيق بن حنيش إغراء بمقاربته بالرغم من كونه يبدو جملة بسيطة وتقريرية؛ إذ خلف هذا المظهر الخادع يقبع المسكوت عنه، يزاول لعبة الظهور والتخفي؛ لعبة البوح والصمت، لعبة القول والسكوت؛ الأمر الذي يدعو إلى فعل الحفر بغاية بلوغ الإشارات الخفية، وملامسة ما تقوله رمزا وإيحاء.
من خلال مظهر العنوان كما يتجلى يمكن القول إنه جملة اسمية ممتلئة التركيب، لكنها ناقصة الدلالة، خفية المعنى.
فــ " الشمس لا تصنع المواقيت" جملة تامة، تشتمل على المبتدإ والخبر الذي أتى جملة فعلية في المضارع، مسبوقا بأداة نفي قاطعة وجاءت هذه الأداة بلون أحمر للفت الانتباه، وتأكيد النفي. مما يستوجب طرح السؤال: إذا كانت الشمس لا تصنع المواقيت، فمن يقوم بذلك؟ يتم نزع الفاعلية عن الشمس كعنصر طبيعي؛ هي المشحونة بالدلالات والمكتنزة بالمعاني، بجعلها غير قادرة على صنع الوقت مفردا وجمعا، ليتم إلحاق الفاعلية بعنصر آخر غير طبيعي، فما هو أو من هو؟
لا يقدم العنوان الإجابة، بل يستحثنا على البحث في المتن المتنوع بغاية الحصول على إجابة محتملة، وحين تقليب القصص، وقراءتها بتمعن، يبدأ الجواب بالاشرئباب والتجلي، لندرك أن الإنسان هو الفاعل الحقيقي في صنع المواقيت. وهو ما يؤكده الأستاذ الحبيب المبروك في تقديمه/ قراءته النقدية بقوله:
إن المعنى الأخفى معطوف على فكرة الإنسان خلاق المواقيت. ولم تنشأ هذه الفكرة في موسوعة القراءة بضرب من التزيد والشطط في التأويل الجامح بل قادنا إليها منطوق النصوص في أقاصيص مختلفة وسياقات سردية متباينة. ومن آياتها ما جاء في خاتمة " طوفان" " وكنت وحدي ابحث عن العرش على الماء المتغير". ذات مفردة مريدة تبغي عزة العرش نحتا لسعي الكيان. ص8.
المتن؛ مغامرة التجريب، وتقنيات الكتابة:
إن عبور العنوان إلى المتن القصصي سيبين مزاولة القاص حرية البحث عن أشكال كتابية جديدة، جعلت النصوص تتباين من حيث البناء وتتكامل من حيث التجريب، إنها باقة نصوص متنوعة الأشكال، عميقة المضامين، بعيدة الأهداف والمرامي.
نصوص تتوزع بين قصص شديدة حضور الذات المتكلمة حتى لتكاد تبلغ القصيدة الغنائية، قصة " مرثية الهزيع الأخير" ص75. وبين القصص الموضوعية التي تبدو كأنها لحظة تسجيل ما تشاهده العين، بيد أن غورها يظهر عدم ابتعادها عن الذات، وتلويناتها، فهي ليست تسجيلية كونها تحمل بعدا سخريا مما التقطته، حيث يتم وضعه تحت مجهر العين الفاحصة والناقدة والساخرة، نص " الخريطة" ص125.
قصص المجموعة تنتمي إلى أنواع مختلفة تبدو الفواصل بينها، كما لاحظ ذلك صاحب التقديم، ميهة رفيعة.
تجدر الإشارة، ونحن في مجال بسط الحديث عن التجريب، أن المجموعة نحت باتجاه توظيف بعض الأشكال من مثل شبكة الكلمات، والقصص القرآني، والشعر الغنائي، وقصص الحيوان، "كليلة ودمنة"، وغيرها لبناء جديد وقول ساخر.
كما اتخذت القصص الرمزية قناعا لها. ومما يحسب للقاص كونه غامر بتوسيع أطر القصة القصيرة باستدعاء ما يعد جورا الأدب الوضيع وأنزله منازل جديرة باهتمام القارئ.
فكل نص من نصوص هذا العمل القصصي يؤسس منطلقاته الدلالية، وبعده الرؤيوي بالاعتماد على تقاطع تيمي وجمالي مع تلك الأشكال التعبيرية أعلاه.
وهي بذلك، تنحو إلى السخرية من البناء الفني الموروث ومن الفطرة الراسخة ومن المحيط الموغل في الموت.
ففي نص " الخريطة" ص125، نجد السارد ينقلب على الذاكرة الشعبية ومن ثمة يخرجها على المألوف والمعتاد، فبالإضافة إلى اجتراح الجديد من رحم القديم، نجد النص يقوم بتسريد النكبة، وحكي تاريخ فلسطين الجريح.
من خلال ما سبق، يتبين أن القصة القصيرة لدى القاص توفيق في الغالب توحي بانتمائها إلى قصص الحيوانات والحكي الشعبي، لكنه لا يلبث أن يعلن عن حداثته السردية توليدا لمعان ذات ارتباط باللحظة الراهنة.
- من بين الأساليب التي تم اعتمادها، نجد الحلم."سمّني" ص19، وفي الحلم محاورة للمقدس في الإنسان ولكن هذا المقدس ليس دينيا فقط بل يمتدّ بمداه إلى السياسيّ.. يعقد النص حوارا بين الشخصية القصصية وكائن عالي متسام حول فعل التسمية. وكأنه حوار بين الله والإنسان يطلب منه أن يخلع عليه المناسب من الأسماء. غير أن المحاور تتعطل آلة بيانه فيعجز عن تملك الذات العلية بالتسمية.
"قال: أنا مبثوث في السماء والأرض وفي ذرات الوجود. سم نفسك تسمني"
ويستيقظ في نهاية النص وعي الشخصية السارد على الحلم في صورة تدهش القارئ وترميه بلا هوادة في عالم الفانتستيكي. التقديم، ص 11.
ولم تكن الغاية من نهاية القصة، ونهاية قصص أخرى، خلق الدهشة لدى القارئ ومنحه فرصة الالتذاذ بالمفاجأة، فقط، بل لإثارة قضية من قضايا الإنسان في الوجود كيف يبلغ العرش إن رامه؟ وما مدى القدرة على تسمية الكائنات نزوعا إلى الأرقى؟
وفي "مقتل الذّئب" ص 23، قراءة رمزية تمتاح من قصص الحيوان ما به يطرق الإنسان باب السياسيّ ( الماكر المتلبس بالديني) ... إنها إعادة إنتاج الديني في بعده لقصصي لفهمه في الواقع. ...
وفي نص " خرافة" ص63، نجد الأحداث فيه قد تنزلت في سياق مفارق للواقع حيث يتحول الإنسي إلى ظبي ويثمر النخل عسلا وسمنا. وتلتقي الفتاة المسكينة بأمير يعشقها فيتخذها حليلة، كصاحبة الحذاء.
في "طوفان" ص27، يعود القصص الحلمي ليستعيد قصة الطوفان؛الخلق الثاني بما له من أبعاد نفسية ... إنه الوحي في ثوبه البشري...
في نصّ " الساحر" ص31، استعادة لواقع يوظّف في السرد والحكي. ولكنه يوظّف للتعبير عن رفض الكاتب للسياسيّ الملوث بالمصلحة.
في " الشمس كما لم تكن أبدا" ص37، تم اعتماد القص العجيب وفي ذلك إعادة قراءة لتاريخ العرب في علاقتهم بالمنجزات العلميّة التي غيّرت العالم.
والحلم فيها كان مجازيا حكم عليه بالاندثار. فبعد أن كانت الشمس تشرق في أرض الجماعة متوهجة عظيمة تلميحا إلى دور المعرفة ومضاء العقل، من جهة، وإلى دور الأمة العربية والإسلامية ماضيا، تنزاح إلى الضفة الأخرى:
يقول السارد: في جزء من الثانية انتهى الحلم وتحولت الشمس فجأة عن مكانها. ص40.
فما الذي جعل الأمة بعد إشراق تتردى في الظلام؟
إنه استكانة الجماعة إلى الخرافة والأوهام وفتاوي القاضي الشرعي، وابتعادها عن الأطباء والعلماء وغيرهما بل محاربتهما. و تفضيلها اتباع السكير بدل الرجل النير.
فالقصة، هنا، تنتقد ما حل بشرقنا من تخلف وجهل كبل العقول وجعل عجلة التاريخ تدور باتجاه الغرب.
وفي نص " ورفرف روحي" ص77، نشعر بالانتعاش بفعل سحر البعد الصوفي وما ينفثه في أرواحنا من نفحات العشق والوجد، ففي النص مصطلحات من قبيل " العشقة الفانية" و" البرزخ" و" العروج"، نص يرتحل بالقارئ إلى أفاق واسعة تنتعش فيها الروح، وتصفى النفس من مرارة الوجود وشقوته. نص يزاوج بين الإيقاع والتخييل بفنية عالية قربته من الشعر بل كان الشعر فيه صاحب السلطة.
في نصّ "يقظان يحلم" ص42، وفي نص "عقل للبيع" ص107، إعادة ساخرة لتاريخ حديث في علاقتة بأزمات العرب في تمثلهم للحرية والاستبداد والعدوان الأجنبي..تتجلى في النص تقنية الحلم كذلك....
في نصّ " في البدء كانت القصة" ص106، وفي نص "الملاحقة" ص110.. وظف الميتا قصّ أي الكتابة على الكتابة، أو الكتابة وهي تفكر في ذاتها، تتعرى أمام مرآة نفسها. وكذلك الشأن في "البطل والحكاية". تصير الكتابة في مثل هذه النصوص نوعا من البوح ومكاشفة الذات، وتطرح الكتابة نفسها على سرير النقد، بما يمكن تسميته النقد الذاتي. إن الكتابة تزاول حضورها وانكتابها أمام القارئ لتؤكد له أنها مجرد لعبة لكنها ذات متعة وفائدة، يقول السارد في نهاية قصة "لننس الأمر" ص79. محاورا القارئ: سأعتبر هذه القصة القصيرة نزوة عابرة لا قيمة لها. ولذلك أدعوكم لنسيان الأمر. ص80. وفي هذا التدخل المباشر للسارد تكسير للإيهام بالواقع.
وفي نص "عطش" ص98، و"مرثيّة الهزيع الأخير" ص75، تم توظيف الأسطوري لمواجهة ما ترسخ في الذهنية العربية من وثوق في النصّ الدّيني. والنص الأخير قام على أقصصة الأبجدية، حتى ليكاد يقترب من قصيدة النثر، فالنص زاوج بين القص والشعر في وحدة متماسكة.
وفي " حظك اليوم" ص49، و" ذات صيف" ص59، حضر القص النفسي المعبّر عن أزمة الراوي العاطفية وأزمة الشخصية الرئيسية. والملاحظ أن القاص قد تعمد تشغيل نص هو أبعد ما يكون عن القص، واستطاع بقدرة وحنكة جعله ينضبط للفن القصصي وإخراجه من دائرة الوضاعة إلى دائرة الرفعة والسمو.
الارتحال بين الواقعي والعجائبي:
يحضر نص " الموتى يزورون" ص73، كدليل على هذا الارتحال حيث نجد شخصيات واراها الثرى تخرج من القبور فجرا، كالزومبي، لتتفقد أحوال الأبناء والأحفاد؛ وبعد الاجتماع في ساحة الحي تتبادل الأرواح الأخبار وتروي ما اطلعت عليه، وتعود في النهاية إلى مثواها. وبهذا يسكن السارد المفارق في عالم المشاكل خاصة أن الشخصيات تحمل أسماء من معهود الأسماء كخديجة وآمنة ومريم، والأماكن من الواقع كالبستان والمستشفى والحي. فهذا الارتحال بين العالمين يحقق متعة القراءة، ويولد الدهشة لدى القارئ.
وعلى منوالها سارت أقصوصة "هذه جثتي" ص84، حيث يخبر الميت عن جثته وقد انفصل عنها مثنى وثلاث: بعد حادث مريع وإثر انتحار شنقا إلى شجرة فغرق في لجج الأعماق.
تشكل شخصيات القصة القصيرة أو لأقصوصة عند القاص أفكارا وليست بالضرورة كائنات حسيّة.إنها أفكار تتصارع لتحقق الحبكة.

على سبيل الختم:
المجموعة تصدر عن تصور جمالي وفني قوامه إغناء الفن القصصي بأطر هامشية، وموقف فكري عميق قوامه الإنسان صانع المعنى، ومحدد المواقيت؛ مجموعة استدعت في حوار بناء أجناسا أدبية مكنت من إرفاد القصص بطاقة على التدلال.
ولأن المجموعة اعتمدت المغامرة في كتابتها، فإنها تدعو المتلقي إلى تجربة القراءة والتأويل بشكل متجدد ومستمر. كما تدعوه إلى التنبه لمسألة مهمة؛ وهي أنها لا تهفو إلى تمثيل الواقع، بناء على المشاكلة، بل تنحو باتجاه إنشاء عوالم ممكنة مرجعها فعل الكتابة نفسه، وسيرورة الخلق الأدبي.



توفيق.jpg



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى