صالح محمد المطيري - أدب البحر في التراث العربي..

يقصد بأدب البحر في دراسات الأدب تلك الأعمال والنصوص الأدبية التي تعرض لوصف أحوال السفر بالبحر وأهواله ولما يرتبط به من موضوعات أو معلومات أو مدارك وثيقة الصلة به، ولما يتعلق به كذلك أو ما يثير في النفس من مشاعر وما يضطرب فيها بسببه من لواعج وأحاسيس وانفعالات، لا سيما وأن البحر هو من آيات الخالق المبدع العظمى وأعلامه الكبرى، ففي خضم هذا الملكوت البحري العظيم، تجد هذا الإنسان المغتر بقوته وبحيلته يستحيل هو وما كانوا يعرشون إلى ذرة من الهباء لا تكاد تذكر، وللنظر مثلا في قوله تعالى عن سفينة نوح (وهي تجري بهم في موج كالجبال) لنلمس بعضاً من ملامح الصورة التي يستحيل إليها الإنسان هو ووسائله في خضم ذلك الملكوت الهائل.

وقد سادت لوهلة من الزمن، مقولة مفترضة حول فقر الأدب البحري أو أدب البحر في عالم اللغة العربية، وأن متن اللغة القديم -أعني جماع مفرداتها وتراكيبها القديمة كما سجلت من أفواه الأعراب القدماء- ليس فيه كثير غناء عن عالم البحر والسفينة والسمك والأمواج وما شابه،، أي فقر مزعوم في مادة البحر في اللغة العربية،، وقد روج لهذه المقولة أو سوق لها -إن صح التعبير- نفر من نقدة العقل العربي واللغة العربية المعاصرين، ولعل أبرزهم المفكر المعروف محمد عابد الجابري في مواضع من كتابه «نقد العقل العربي»، وقد ربط هذا المفكر كذلك بين مفهوم «الانفصال» في الثقافة العربية وبين ما يناظره في البيئة العربية الطبيعية من انفصال حبيبات الرمل في الصحراء عن بعضها البعض (وإن كانت تبدو للرائي متداخلة)، فالعلاقة بين الأشياء هنا -في أفق الثقافة العربية البيئي- علاقة تجاور لا علاقة تداخل، بينما تخالف هذه الحال مفهوم الاتصال وهو السائد -حسبما يرى الجابري- في ثقافة الشعوب المدنية والبحرية، وهو ما تتوافر عليه مثلا البيئة البحرية، من اتصال أمواج البحر ببعضها البعض، أي أن الصحراء العربية هذه لم تكتف بتجفيف حياة العرب وتعطيش سمائهم وتسخين هوائهم، بل جففت أيضا متن اللغة العربية، وصوّحت بأفانينه وعقمت أجواءه، فأين منهم هواء البحر ونسيمه؟ وأنى للعربي -واحسرتاه- بنافذة بحرية يروم منها ترطيب أجوائه؟
غير أن بعض النابهين من المفكرين، ومنهم جورج طرابيشي، قد تنبه إلى خطل هذا الافتراض وبين ما فيه من جرأة على سرعة الطرح وعدم الاستقراء للمصادر اللغوية من أساتيذ ينظر إليهم الناس نظرة إكبار وإجلال، فالزاعمون لهذه المقولة مهما بلغ شأنهم هم في واقع الأمر كمن يلقي القول على عواهنه؛ فهل بنوا ذلك على فحص وتمحيص للمادة اللغوية التي تشتمل عليها المعجمات؟ فلو فعلوا لتبين لهم إذن غناء مادة البحر وما يتعلق به في متن العربية، فلو أخذنا معجما لغويا، كالمخصص لابن سيده مثلا، وهو كما نعرف معجم مرتب حسب الموضوعات، لوقفنا على أبواب عديدة متفاوتة في الطول عن البحر والسفن والمراكب وأنواعها الكثيرة، ناهيك عن فصول عدة عن السمك وأنواعه وعن الموج والعواصف والأنواء البحرية، إلى مادة ثرة متفرقة في الأبواب الأخرى عن هذه المادة قد تغافل عنها من حملوا كبر تلك المقولة المتسرعة، ولي أن أضيف إلى هذا الرد أن المادة البحرية العربية ليست محصورة فقط بين دفتي المعجم، ولا هي حبيسة في أبواب «المخصص» أو فصول «العباب» أو مجلدات «التاج» أو غيرها من المعجمات القديمة والحديثة، والمعروف أن المعجم هو من بعض الوجوه كالمتحف الخاص بالأوابد والأحافير: تحفظ فيه الكلمات «محنطة» أو عرياً من الحياة، فإذا ما أردنا أن نراها وهي تدرج على قدميها، وفي كامل حيويتها ونشاطها فلنطلبها في استعمالاتها في بطون الكتب، فهاهنا نراها في سياقاتها الطبيعية، وفي مواضعها المقسومة من نظم اللغة، فمن هنا فالمادة اللغوية البحرية الحيوية (أي المستعملة في سياقات لغوية طبيعية) لن تسعفنا بها على نحو شاف معاجم اللغة التي شأنها الجمع والتبويب والتصنيف فقط، وإنما ستجد هذه المادة البحرية الحيوية الحقيقية في تلك الكتب المدونة عن الأسفار والرحلات.
فتلك الكتب -كتب الأسفار والرحلات- قد عني أصحابها بتفصيل القول عن أحوال البحر، وأفاضوا في الكلام عن مشاق السفر على السفن بين البلدان وأهواله، وأنواع المراكب والفلك التي تقل الناس من ساحل إلى ساحل، ومن ضفة إلى أخرى،وما رأوا من أطعمة ومأكولات بحرية، وما يوجد من أنواع السمك والحيوانات البحرية، إلى موضوعات أخر جمة عن مادة البحر وما يتعلق به.
ومنذ القديم ظهر في مدونات العربية نصوص أصيلة من أدب البحار، على أنها في أصل الأمر تعد من أدب الرحلة والأسفار، فمن تلك المدونات البحرية القديمة تلك (رحلة التاجر سليمان)، وهي رحلة بحرية مخطرة في المحيط الهندي، والبلدان الآسيوية المصاقبة له، قام بها الرحالة البحار التاجر سليمان، فجاس فيها خلال الجزر الواقعة في شرقي المحيط، وصولا إلى سواحل الصين الجنوبية الشرقية، ويقدر زمان تلك الرحلة في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وهذا هو المستشرق كراتشكوفسكي الذي عني عناية فائقة بالتأريخ للأدب الجغرافي العربي يقول عن التاجر سليمان: إنه خير مثال للتجار العرب والفرس الذاهبين إلى الصين»، وقد دون رحلة هذا التاجر المخطرة تلك وقيد قصصها وأحداثها رجل آخر ممن التقوه وأخذوا عنه، وهو أبوزيد الحسن السيرافي من أهل البصرة، وهو -أعني السيرافي- الذي أعطاها شكلها المعروف، وكانت هذه الرحلة القديمة مخطوطة وحيدة محفوظة في متحف باريس، وقد توافر على دراستها المستشرق الفرنسي فيران،الذي صرف جل اهتمامه نحو بحث وتحقيق الملاحة العربية في أنحاء المحيط الهندي وبحر الصين.
وأما السندباد وأسفاره فهي مدونة ذائعة الصيت في تراث العربية، وقد حُفظت هذه الأسفار إلى يومنا هذا ضمن قصص الكتاب العجيب المثير للجدل «ألف ليلة وليلة»، وتدور تلك المدونة على وصف ممتع لرحلات السندباد السبع، التي قام بهن الرحالة البحار في مياه الهند والصين إبان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
وأما الشخصية الثالثة التي أرى أنها ممن قدم خدمة جلى لأدب البحر في العربية وأسهم فيه بحظ وافر فإنها لشخصية ذات شأن عظيم في أدب الرحلات، وشهرة هذه الشخصية أو هذا العلم تقوم على انتشار كتاب رحلته ببن قراء العربية منذ قرون، لاسيما وقد كتب رحلته بأسلوب أدبي رائق ممتع، قد حاز تقدير الأدباء منذ كتب رحلته إلى يوم الناس هذا، إنه العلم الأندلسي القدير محمد بن أحمد بن جبير الكناني، المتوفى عام 614هـ.
ولعل الأحوال والقصص والحوادث التي قيدها ابن جبير في رحلته، لم تشد قراء العربية المتذوقين بقدر ما شدهم أسلوبه النثري البديع الذي دون به تلك الرحلة وسجل به أخبارها وأحوالها ووصف ما مر به من مدن وقرى وصحارى وبحار.
ونظراً لطول النصوص في رحلات ابن جبير البحرية الثلاث، فإني سأجتزئ هنا بقطع يسيرة من تلك النصوص تدل على مجموعها، وتنبئ عن مضمونها، فمن تلك المواقف النثرية التصويرية المفعمة بالحركة والحياة، وصف ابن جبير المؤثر للعواصف البحرية التي كانت تعترض سبيل السفينة، والأنواء التي كانت تثير الأمواج وتتقاذف السفينة في قبضتها حتى تصبح هذه كالريشة في مهب الريح، أو كالورقة يلعب بها التيار، وتكثر هذه الأحوال والمواقف البحرية الحرجة في رحلة العودة إلى بر الأندلس، على متن المتوسط، وهي -والحق يقال- نصوص بحرية فريدة تجمع بين الإثارة القصصية والأسلوب الفني الآسر، فقد نظر ابن جبير ذات مرة فإذا هو ورفاقه من ركاب السفينة قد أمسوا في قبضة البحر، وإذا هو هائج مائج يريد أن يبتلع السفينة ويطويها في غمراته، وإذا البحريون يتنادون من كل جانب للحفاظ على سلامة المركب والسيطرة عليه والحفاظ على مساره، هنالك ابتلي الرحالة فغدا نهبا للهواجس والمخاوف والظنون، ولننظر إلى واحدة من تلك الأحوال العاصفة التي رسمتها ريشة ابن جبير أو بالأحرى قلمه الفنان، يقول:
وفي النصف من ليلة الأحد الحادي عشر منه انقلبت الريح غريبة، وكشف النوء من الغرب، وجاءت الريح عاصفة فأخذت بنا جهة الشمال. وأصبحنا يوم الأحد المذكور والهول يزيد، والبحر قد هاج هائجه، وماج مائجه، فرمى بموج كالجبال، يصدم المركب صدمات يتقلب لها على عظمه تقلب الغصن الرطيب، وكان كالسور علواً فيرتفع له الموج ارتفاعا يرمي في وسطه بشآبيب كالوابل المنسكب.
ويواصل ابن جبير وصفه ذاك في أسلوب بلاغي جميل، ولنلحظ أنه إذ يحتفل بالصورة الظاهرية للأزمة والكرب -اعني هذه العاصفة البحرية- فإنه لا يغفل أبداً عن تصوير المشاعر والخلجات والانفعالات النفسية حيالها، يقول ابن جبير:
«فلما جن الليل اشتد تلاطمه، وصكت الآذان غماغمه، واستشرى عصوف الريح. فحطت الشرع، واقتصر على الدلالين الصغار دون أنصاف الصواري ووقع اليأس من الدنيا، وودعنا الحياة بسلام؛ وجاءنا الموج من كل مكان، وظننا أنا قد أحيط بنا، فيا لها ليلة يشيب لها سود الذوائب، مذكورة في ليالي الشوائب، مقدمة في تعداد الحوادث والنوائب!»
إلى أن يقول ابن جبير:
فاستسلمنا للقدر، وتجرعنا غصص هذا الكدر، وقلنا:
سيكـون الـذي قضــي سخط العبـد أو رضـي
ويقول عن عاصفة أخرى بينما كانت السفينة تمخر عباب البحر المتوسط بين جزيرة صقلية وسواحل البر الأوروبي، ولنلحظ هنا أن ابن جبير يتدثر على نحو بيّن بعباءة وأسلوب الأديب القصاص المترسل أو الكاتب المتأنق، بينما يتخفف على نحو رائق من الأسلوب «الوقائعي» الفج المباشر للمؤرخ أو الراوية، يقول:
«فلما كان مع نصف ليلة الأحد الثالث للشهر المبارك، وقد شارفنا مدينة مسينة من الجزيرة المذكورة، دهمتنا زعقات البحريين بأن المركب قد أمالته الريح بقوتها أحد البرين وهو ضارب فيه، فأمر رئيسهم بحط الشرع للحين، فلم ينحط شراع الصاري المعروف بالأردمون، وعالجوه فلم يقدروا عليه لشدة ذهاب الريح به، فلما أعياهم مزقه الرائس بالسكين قطعاً قطعاً طمعاً في توقيفه، وفي أثناء هذه المحاولة سنح المركب بكلكله على البر، والتقاه بسكانيه، وهما رجلاه اللتان يصرف بهما، وقامت الصيحة الهائلة في المركب، فجاءت الطامة الكبرى، والصدعة التي لم نطق لها جبراً، والقارعة الصماء التي لم تدع لنا صبراً، والتدم النصارى التداماً، واستسلم المسلمون لقضاء ربهم استسلاماً، ولم يجدوا سوى حبل الرجاء استمساكاً واعتصاماً».
وأنت إذ تقرأ ابن جبير تجده قد غدا هنالك بين حالين: حال اليائس المشفق من هذا الكرب الذي ألم، وحال الرجل المؤمن الجسور الذي يستقبل الخطب برباطة جأش ويقول ما هي إلا الغمرات ثم ينجلين، فمتى سلم الركب من غوائل البحر أو وعثاء السفر؟
إنها لمواقف مخطرة وتجارب متأزمة يصورها قلم هذا الكاتب الفنان ابن جبير، وإنها لـ«لوحات» بيانية قد لا تقل روعة ولا تحريكاً لمشاعر المتلقي عن تلك المواقف الحرجة واللحظات المتأزمة التي نجدها مصورة بيد كبار الرسامين، ومن يدري، لعل ابن جبير بهذه اللوحات البحرية التي يعرضها بقلمه يضاهي من بعض الوجوه لوحات فنية تعد من كلاسيكيات الفن العالمي، خذ اللوحة التي تعرف بـ «واطسون والقرش» مثلا، وهي عمل فني عظيم يصور حادثا حرجا أشد ما يكون الحرج، يظهر فيها طائفة من البحارة على قارب صغير وهم يحاولون بجهد شديد استنقاذ صاحبهم من بين عدوين صعبي المراس: قرش هائج مندفع وموج عال مضطرب،،
ومواضع المخاطرة البحرية متعددة في رحلة ابن جبير، وليست مقصورة على المواضع التي ألمعت إليها أعلاه، وأقدر أن يكون وصف أسفاره البحرية -بما فيها سفره على مراكب النيل بين الإسكندرية وقوص- قد استغرق منه زهاء الربع من مادة الرحلة.
وهكذا يمدنا ابن جبير الأديب الرحالة بمادة قيمة من أدب البحر في اللغة العربية، كما أنه يصوغ تلك المادة البحرية في أسلوب أدبي قصصي جذاب، مفعم بالحياة ومليء بالإثارة وروح المخاطرة، وناهيك عن أسلوبه النثري الفني الشائق الذي كتب به رحلته، وصور كل ما مر في تضاعيفها من أحداث، وما عانى خلالها من مشاعر وأحاسيس. وبعد، أليس في طوقنا إذن أن نعد ابن جبير سيد الأدب البحري في تراثنا العربي؟ فعساه أن يكون كذلك.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى