محمد صابر عبيد - اعترافات نرجسية لقط شركسي أعزل

كان ذلك الفجر العازف أكثر إدهاشاً من الدهشة ذاتها، فاللحظات التي حفّته جعلت منه كرنفالاً تخجل من نضارته الألوان، وتستحي من بهجته الفصول. اقتحم كياني، وأنبت في سهول وجداني قمح المسرّات، وضخّ لساني بقدرة جبّارة على تحويل الأفعال إلى عصافير، والأسماء إلى شقائق النعمان، والحروف إلى مسلاّت للنور والوجد. تُرى كيف سأجمع سرباً من العصافير، وحقلاً من سنابل ذهبيّة الثراء، ومسلّة من إشراق، في قارورة واحدة. أيّ عطر ذاك الذي يمكن أن يستيقظ من هذا القلب، وهو يجيد التحدّث بلغات العالم كلّها، ليمسح من زجاج الكرة الأرضيّة ما علق بها من شرور وآثام .

لم يكن فجراً جديداً آخر حسب، بل كوّة أطللتُ منها على البشر كلّهم وقد تجمّعوا بعناق خرافيّ لا يستوعبه بصر ولا يحيط به إحساس. ما هذا الذي يحدث؟ كيف تحوّلت المنضدة البائسة أمامي إلى "صوفي مارسو" بابتسامتها الفيحاء وجسدها الصاعق؟ وكيف تحوّلت النافذة المتربة إلى لوحة "عذراء الصخور" لدافنشي، والسرير الذي أضطجع عليه إلى حصان أشهب يفترع الريح، وجهاز الهاتف في يدي إلى عزف أوركسترالي يزرع الفرح حتى في مسامات الصخر؟
ما هذا الذي يحدث؟ لماذا تبدّلت الأشياء هكذا فجأة؟ فالعربات تسير إلى الوراء، والشوارع معلّقة لا تستقرّ على شيء، وجدران المنازل تشترك جميعها في رقصة شعبيّة تمتدّ في صدر الأفق إلى ما لا نهاية، والرمل الذي كان عالقاً أمس بأوراق الشجر تحوّل إلى ضحكات، والشحوب الذي كان يرتسم على وجوه أطفال (الحارَة) صار قشطة تزيّن الوجوه ببياض الحليب وحمرة العافية.
ما هذا الذي يحدث؟ وكيف يمكن لي أن أحتمل جسدي وقد تفجّرت فيه عيون الرغبة والحبّ، على نحو يستطيع ابتلاع نصف ما في الكون من أنوثة في أوّل لحظة اتّصال؟ وكيف يمكن أن أحتمل روحي إذ تدفّقت بفيضان عارم لا يُصد؟
أين سأضع صباحي هذا في قائمة الصباحات، وأشعة الشمس افترشت متن الغرفة ورسمت فيها دروباً ضوئيّة تحكي؟ وأين هو الزمن الذي يفرد لهذا العطاء صورة حيّة للانتماء؟
صفاؤها يملأ وجود الأشياء ويحاول مسح وجه الفجر وقلب صفحته، لكنّه فجر صادق عصيّ على المسح، أكاد أشمّ رائحته وأتذوّق طعمه، وأبصره ولداً مصنوعاً من بنفسج وشعر وحجر كريم، ينطّ بفرح عجيب ويخرج لي لسانه ويأبى مغادرة إحساسي فيه. إنه يملأ عليّ المشهد مستهتراً بقوانين المعرفة وحسابات الفلك، يقف مثل تمثال أبي تمّام بين عقارب الساعة ويمنعها من المضي إلى أمام حيث دورة النهار الأزليّة، ويبعثر الأرقام، لتصبح العاشرة مكان الثانية، والسادسة على حافّة الحادية عشرة، والتاسعة معلّقة بعناد في صدر الميناء بلا مصير.
هكذا يتلبّث عشقاً أخّاذاً يشكّ لبّ الحياة في المسافة الضيّقة بين السادسة والثامنة. ساعتان من عمر فجر فكّ اللغز، وجرّب لعبة الزمن، وركض خلف ظلّه بلا ضجر، حتى بدت الساعتان مثل طيف لا تلتقطه أذكى الحواس لفرط سرعته وخطفه، وأصبح السؤال بلا طائل. كيف يتسنّى لي تركيب السؤال، وهذا الفجر ما زال غارقاً في مثوله وهيمنته وسطوته، حيث تتكسّر نصال الأسئلة على جدران الإجابات الصلدة، وتتناثر على أديمه شظايا حروف مهزومة أمام إزعاج اللفظ وغموض المعنى؟
الدقائق اللعينة تزحف. تزحف، تاركة ظلام الغرفة الشفيف نهباً لضياء غاشم نفذ من السطوح بكبرياء، ساحقاً جبروت الزجاج، ليقطّر فوق أصابعي المنهمكة بأكثر من عمل زئبقاً يتطاير بمجرّد اللمس.
هكذا تنفصل اللغة عن وليدها لمحة لمحة، ونقطة نقطة، وفاصلة فاصلة، وتضع وقتها المقطّر باللذة والدمع والعرق والوعد الجميل في مهبّ الريح، إذ ما تلبث الكائنات أن تتفتّح أسرارها وحيواتها، حتى يتسمّر آخر الكلام على شفاه الأثير، وتكفّ جنان الظلمة عن درّ العنب والرطب الجني والمشمش والفراولة، لنمضي مأخوذين بسلطة الضوء، نجد الأشياء رمليّة كما هي، وجافّة كما هي، وتفتقر إلى أبسط أشكال المعنى كما هي أيضاً .
وبما أنه لا بدّ من معنى، أيّ معنى، فسأذهب فيك بعيداً وأقتطع من أطيافك كلّها، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، ومن الأعلى إلى الأسفل، ومن، إلى، حتى تغيب المساحات، ويتحوّل الأفق في راحة يدي إلى حبّة مسك أفركها فيشتعل الكون برائحة زكيّة.
وماذا بعد؟ فها هو الصوت يخرج من الصورة برشاقة ويسر، ويكمن في أكثر المناطق إرهافاً وضيقاً ووجدانيّة، تاركاً لها حريّة التصرّف بظروف المشهد.
الصورة ما تلبث ألوانها أن تهتزّ، وتتخلخل خطوطها، وتذبل ضربات الفرشاة فيها، حين تعي أنها فقدت روحها لحظة غادرها الصوت، ذلك الصوت الذي كان يبعث فيها إحساساً عالياً بالحياة، ويبعثر على أديمها مكعّبات المعنى .
وإذن، لنقطف عناقيد الغيم معاً، ونكتب على صفحات المواسم بشرى القصائد، ونفرّق ماء السماء على رؤوس الأشجار العاشقة بالتساوي، أملاً في أغصان هيفاء تتراكض في الشوارع بحثاً عن وجه سومريّ يترك بصماته على الأرصفة أنّى مشى، وثمّة ما يدلّ عليه أبدا.
ما أرحم أن أكون علاجك الوحيد! وما أقساه! سأترك الحبال على غواربها، وأفتح صدري للريح تلعب بشجيراته نصف الكثيفة كما تشاء، وأرهف سمعي لأيّة نأمة تقصدني لأسلّم لها ما تيسّر من الأعلام والرايات، وأنعم بدفء أحلم به وأسير إليه بعزّ تاريخي ورعونتي وطاقتي المستديمة على نسج عناكب الأخطاء عنكبوتاً إثر عنكبوت، لأمكث كما أشتهي تحت ظلال سعف عشتار، أصنع من ماء وتراب بيتاً طينياً وطريقاً نيسميّاً يصله بذلك النهر القائم في كياني بلا كلل أو ملل، بانتظار الموجة المائيّة التي تغيّب بيتي الطينيّ، وتأتي على طريقي النيسميّ، ثم ما ألبث أن أعيد الكرّة بإصرار سيزيفيّ قاهر، يثق في خاتمة المطاف أن البيت الصغير يوماً ما سيكون أصعب على الموجة، وسترتفع فيه كنوز الطبيعة عالياً، وسيصبح الطريق الواهن شارعاً جبّاراً يسخر من قوّة الموجة، وهي تتحطّم على أرصفته المبتسمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى