عابد إسماعيل - ت. س. إليوت وأثره العربي.. تلك " الأرض الخراب" التي غيـرت مفهوم الشعر

تمثّل عبارة"نيسان أقسى الشّهور"التي تفتتح قصيدة"الأرض الخراب " للشاعر الأميركي ث. س. إليوت النواة التي تنطلق منها رؤيا الشاعر للعالم، والقائمة على انزياح مجازي، يتمثّل في تقويض العلاقة التقليدية بين الدالّ والمدلول. فالرّبيع يرمزُ للخصب والانبعاث، لكنه في رؤيا القصيدة يدلّ على موات بطيء، وقسوة تفتك بالطبيعة. وتقنية الانزياح هذه تكاد تنسحب على المعمار الكلّي للقصيدة، إذ يكاد لا يخلو سطر من سطور القصيدة الأربع، من رجّة تنقلُ المعنى إلى سياقٍ آخر، منزاحاً عن مركزه، في قراءة تضادّية antithetical قوية للموروث الشعري برمّته، يعزّزها افتتانُ إليوت بدمج أساليب أدبية وشعرية ودرامية متناقضة، تتأرجح بين الموغل في سمّوه البلاغي والمسرف في تقشّفه اللّفظي. ويجمع النقّاد أن هذه الرؤيا الجديدة للغة الشعرية ساهمت، إلى حدّ بعيد، في بلورة حساسية شعرية جديدة غيّرت جذرياً مفهومَنا لماهية الكتابة الشعرية.

إنّ تمجيد إليوت لقيم التضادّ والتقابل والمقارنة juxtaposition في قصيدته، واعتباره الشعر هروباً من الأنا الرومانطيقية، وليس تكريساً لها، شكّل نقطة تحول كبرى في تاريخ الشّعرية الحديثة. وإذا علمنا أنّ إليوت كتب قصيدته، متأثّراً بمناخات الحرب العالمية الأولى، التي لا تغيب صورها المرعبة عن أجزاء القصيدة الخمسة، فإنّ فلسفته الشعرية ذاتها هي الأكثر حسماً في تقديم نصّ صادم، مدهش في بنيته المتشظّية، وإحالاته المنفلتة من كل سياق، والتي تقوم على نتف من أحاديث غير مكتملة، ومشاهد مسرحية مبتورة، ومنولوغات خاطفة، وتأملات فلسفية لا تخلو من التهكم، وانبجاسات غنائية صوفية، ترثي موت البارئ في الزّمن الحديث. وعلى رغم أنّ إليوت يصف نفسه بالمحافظ أو الملكي في السياسة، والأنغلو كاثوليكي في الدّين، والكلاسيكي في الأدب، إلا أنه أبدع واحدة من أكثر القصائد جنوناً في القرن العشرين. إذ تكاد لا تخلو استعارة من إحالة إلى نص سابق، أو نسق رمزي أو أسطوري أعلى، أو استحضار لحكاية رمزية، أو أدبية أو دينية أو شعبية.

يصوّر إليوت في قصيدته شخصيات معطوبة، ومأزومة، تشعر بعجز جنسي ونفسي وذهني، وتسكن عالماً خاوياً يفتك بها، ويعتريها قفرٌ عاطفي رهيب. ولأنه طوّر شعوراً قوياً تجاه الماضي، أو ما يسمّيه الحسّ التاريخي، تمرّد إليوت على المدرسة الرّومنطيقية، واتّجه إلى الشعر الميتافيزيقي جون دن، كراشو، مارفيل كمصدرٍ للإلهام. لكنّ الثيمة المركزية التي أضاءت وعي إليوت بالخراب، أتته من كتابين يعترف بفضلهما عليه هما كتاب جيسي ويستون"من الشّعائر إلى الرّومانس"، 1920، وكتاب جيمس فريزر"الغصن الذهبي"، 1915، حيث يحلّل المؤلفان أساطير البعث القديمة، ورحلة البحث عن الكأس المقدّسة، وفك لغز الخراب في تلك الأرض التي أُصيب ملكها بجرح أفقده القدرة على الإنجاب، فمات الشجر في مملكته، وجفّت الينابيع، وتحجّر كلّ شيء. أما العمل الذي صقل وعي إليوت الجمالي والأسلوبي فهو كتاب آرثر سيمون"الحركة الرّمزية في الأدب"1899، وقد قرأه إليوت في ريعان شبابه، ما جعله يتأثر بالرّمزيين الفرنسيين، ويكتب بعض القصائد بالفرنسية، خلال عام أمضاه في السوربون، 1910-1911، ليحضر بودلير بقوّة في"الأرض الخراب"، صوتاً داكناً يهجو قيم المدنية الحديثة.

ويمكن، باختصار، تلمّس مراحل ثلاث في تطور إليوت الشعري، الأولى بدأت مع ديوانه"بروفروك وملاحظات أخرى"، 1917، وهنا يبرز جلياً تأثّره بالمدرسة الرمزية، وحتىّ الصورية imagism، ويركز على مأزق الوعي الفردي في عالم يضيق باستمرار، بحيث يشعر بطله دائماً بأنه يقبع خارج العالم، منبوذاً، لا لمنتمياً ، لكنه، وعلى رغم هشاشته، تجده يشعر بتفوق أخلاقي وجمالي على قيم مجتمعه، ما يجعله يخترق الحجب الاجتماعية.

في المرحلة الثانية تبرز قصيدة"الأرض الخراب"، 1922، بأجزائها الخمسة، مشكّلة نقلة نوعية في رؤيا إليوت الموشورية، القائمة على تعدّدية الأصوات وتبعثرها، حيث الوعي هنا مشروط بظروف الحضارة الحديثة، ما يجعل الشّاعر يهرب إلى الأسطورة، ليدمج رموزاً مشرقية وغربية، ويصهرها في بوتقة واحدة، ويتجاور بوذا مع القدّيس أوغسطين، للتدليل على كونية التجربة الرّوحية التي يسبر أغوارها. في المرحلة الثالثة، تبرز قصيدتان مفصليتان هما"أربعاء الرماد"، 1930، وپ"الرّباعيات"، 1944، واللّتان تطغى عليهما النزعة التأمّلية، الفلسفية، حيث نجد الفرد الإليوتي معزولاً، وحيداً، لكنه يحلم بالاتحاد بالمطلق. ويبحث إليوت عن صمت صوفي، وفصاحة تقترب من رهافة الموسيقى، تتيح له الذوبان في عالم روحي أسمى، وقد اتجه إلى الدراما الشّعرية، ذات الطابع الكنسي، لمسرحة تلك العلاقة الرّوحية كما في مسرحيته"جريمة في الكاتدرائية"، 1935.

ونظرة سريعة على بنية القصيدة تظهر التعقيد الكبير الذي اعتمده إليوت في نسج شرنقة استعاراته، حيث يقوم بإحالات إلى نصوص مفصلية تبدأ من هوميروس، وسوفوكليس، وفيرجيل، وأوفيد والقدّيس أوغسطين، ودانتي، وشكسبير، وتنتهي عند نيرفال، وكونراد، وميلتون، وبودلير، وهيسه، ووويتمان، كما أنه يتكئ على الكتابات التوارتية والإنجيلية، وعلى النصوص الهندية القديمة. ومن أجل أن يمنح نكهة كونية لصرخته يضمّن القصيدةَ جملاً بالفرنسية والألمانية والسنسكريتية، واليونانية، والإيطالية. وتتألّف القصيدة من أجزاء خمسة، يحيل كل منها رمزياً إلى عنصر من العناصر الكلاسيكية الإغريقية للوجود، وهي التراب والهواء والنار والماء والأثير.

إليوت ... بين السياب وأدونيس

< إن أثر"الأرض الخراب"على الشعر العالمي بات حقيقة لا تقبل الجدال، إذ لم ينج شاعر حديث من لعنتها، على رغم ان التأثر بها، وبخاصة في شعرنا العربي، ظل محصوراً بالرؤيا التي تطرحها، وليس بتقنيتها الجديدة في توظيف الأسطورة، وبنيتها المجازية التي تقوم على انزياح الدلالات، وتعدد الأصوات الشعرية، وزئبقية أدوارها. وعلى نقيض ما يراه جبرا ابراهيم جبرا، الذي ربط بين التأثر بها ونكبة فلسطين، فإن حضور القصيدة في قصيدة الحداثة العربية ظل محصوراً بمقولة اليباب ذاتها كفكرة جاهزة، وليس كرؤيا أو فلسفة متكاملة. ويمكن القول انه قلما نجد نصاً واحداً استشرف قوتها المجازية، وحاكى بينتها الأسلوبية، واستثمر قراءتها التضادية للموروث الشعري. حتى السياب في قصيدته الشهيرة"أنشودة المطر"، اكتفى برموز إليوتية برّانية، سطحية، محافظاً على أنا رومانسية غائرة، لطالما نبذها إليوت، دعياً الى ضرورة الهروب من الذات، والبحث عن معادل موضوعي objective correlative تكون فيه القصيدة مسرحاً تتقاطع في محرقة ثقافات وأزمنة مختلفة، تماماً مثل رواية"عوليس"لجيمس جويس، التي اعتبرها إليوت نفسه أنموذجاً للنص الحداثي الجديد، الذي يحاول ان يمنح"شكلاً ودلالة للبانوراما الهائلة من العقم والفوضى التي تشكل ماهية التاريخ المعاصر". وقد يكون أدونيس من أكثر الشعراء العرب تمثّلاً لدرس إليوت الجمالي، وبخاصة في قصيدته الهجائية"قبر من أجل نيويورك"1971، حيث حاول سبر فلسفة اليباب في الزمن الحديث، موجهاً نقده القاسي للحضارة الحديثة. وقد لامس أدونيس لحظات مفصلية في شعرية إليوت، على رغم انه ظل وفياً لبلاغته الرؤيوية، ووظف أكثر من رمز إليوتي، وبخاصة العرّاف تيريزياس، الذي يصفه إليوت بالصوت المحوري الذي يمثّل وعي القصيدة لذاتها وللعالم.

ويظهر تيريزياس لدى أدونيس في ديوانه"تنبأ أيها الأعمى"2005، في مقطع يقول:"وكانت نبوءات تيريزياس/ في ما بعد ملأت عيني هوميروس بظلمة تنحدر". تيريزياس الأعمى، لدى كل من إليوت وأدونيس، يرى ما لا يراه المبصرون، ويلجأ إليه الشاعران ليكون عيناً لهما في ظلمة مطبقة:"عين بلورية تقرأ لمن يريد ان يصغي". وتيريزياس في"الأرض الخراب"، يظهر في القسم الثالث، كما رأينا، جالساً عند جدران معبد طيبة، يناجي نفسه:"انا من مشى بين أكثر الأموات انخفاضاً"، للدلالة على دوره الكهنوتي في تلك المنطقة المظلمة من الوعي الإنساني. ومع انه مجرّد شبح أو متفرّج، وليس"شخصية"، كما يصفه إليوت، لكن صوته يظل الأكثر أهمية في نبوءة اليباب، إذ"إن ما يراه تيريزياس، في الحقيقة، هو جوهر القصيدة". لدى أدونيس، يظهر هذا الأعمى قارئاً للغد، لابساً وجه"قايين"في القصيدة المسمّاة"سجيل". لكنه يفترق عن رائي إليوت في انه لا يأتي من عالم الأموات، بل الأحياء، ويعتلي مسرح الجريمة، شاهداً ورائياً على تراجيديا اليباب.

وتجدر الإشارة الى انه، وعلى رغم الجهود الجبّارة التي بذلها نقّاد كبار من أمثال لويس عوض، وإحسان عباس، وعبدالواحد لؤلؤة، ويوسف سامي اليوسف، في ترجمة قصيدة"الأرض الخراب"الى العربية، وشرح رموزها، وسبر دلالاتها، كل على طريقته، إلا انها ظلت قصيدة شبه مقفلة امام الشعراء العرب، الذين اكتفوا كما نوّهنا، باستعارة روحها المتشائمة، ونبرتها الهجائية، وموقفها النقدي، من دون تمثل درسها الجمالي الفذ. ويجب الاعتراف بأن القصيدة صعبة المنال، وتجيد إخفاء أسرارها، والنأي بنفسها عن إغواء الشرح والتأويل، وما الهوامش الاثنين والخمسين التي ضمّنها إليوت في القصيدة، والتي باتت أكثر شهرة من القصيدة نفسها، سوى دليل على إمكانية تعدد القراءات وتنوعها، واختلاف الاجتهادات وتناقضها، وبخاصة ان النقد الحديث بات يعتبر هذا النص الحداثي من كلاسيكيات القرن العشرين، ولا يقلّ تأثيره في وعينا الجمالي والنقدي والشعري عن تأثير شكسبير في المسرح، وبيتهوفن في الموسيقى، وبيكاسو في الرسم، ونيتشه في الفلسفة.
أعلى