ناصر الجاسم - لوحة صباح ضبابي.. قصة قصيرة

هضاب ضبابية راكضة على الطريق الندي. تطمس معالمه.. تطعن صدور السيارات المتحفزة لقطعه ولا تموت.. السائقون مستسلمون للموت المندس في الهضاب ينتظرون الشمس الكسولة تصطاد الهضاب بشبكاتها.. نبضات الخطر التي تحرس السيارات من هجوم بعضها على بعض تشكل للسائقين مسافة أمن.. أيقن السائقون ضعف التكنولوجيا أمام الطبيعة.. سافر ترّاك في صدر النهار والشمس لم تلقِ شبكة واحدة.. غادرني إلى بلد آخر ليرى شفة لمدة خمس دقائق ويعود.. ترّاك ذو الوجه البسام والقلب المثقوب يصارع الطبيعة من أجل شفة وأنا جالس خارج جسمي أرسم شفاهاً متباعدة يصلها ببعضها جرح متعرج.. حاولتُ تذكر شفتي تراك فلم أقدر.. كان يخفيهما بغبار التبغ.. تذكرته طفلا حاد التفكير لا يعرف اللعب.. كنتُ طفلاً أقيس حزن طفل.. قياسُ الأطفال أحزان بعضهم ظاهرةٌ تلازمهم حتى كبرهم. قال ترّاك قبل المغادرة في لحظة ضبابية: سأدخن في الطريق حتى لو ركض الضباب على قلبي.. إنه الآن يهوى التدخين تحت ضباب الشتاء كبيراً، وكان يهوى البكاء تحت ضباب الصيف صغيراً..
رسمتُ غمامة من التبغ والضباب تظلل الشفاه المتباعدة.. لم يكن من بين الشفاه التي رسمتُ شفاهاً تدخن.. ما زلت خارج جسمي وترّاك داخل الضباب والمدينة بيننا والشفة تفصلنا.. كتب ترّاك بإصبعه على زجاج سيارتي الخلفي المعتم بقطرات الندى ونبضات الخطر مشتعلة: حاذر أن تحب شفة فحبّ الشفاه إذا ابتدأ لا يعرف كيف ينتهي!!..
فكرتُ أن أرسم صوت ترّاك الضاحك فلم أعرف.. محاولة رسم الأشياء الجميلة صعبة عليّ منذ رأيك ترّاك يبكي تحت ضباب الصيف.. أجبرني على ملء غرفتنا برسومات شفاه حتى يستطيع النوم على رؤياها.. يوقظني من النوم ويساومني إما أن أرسم أو يسافر فأوثر بقاءه معي وأرسم.. لم ينجح ترّاك في فكّ عقدتي فلقد فشلتُ في رسم الشفة التي رآها وأحبَّها وسافر باحثاً عنها.. لو استطعتُ العودة إلى جسمي لرسمتُ الشفة التي يريد وأوقفتُ سفره.. متى خرجت من جسمي؟!.. ترّاك هو الوحيد الذي يستطيع الإجابة على سؤالي.. كيف خرجتُ من جسمي؟ تراك هو الوحيد الذي يحدد السبب.. بدأتُ أخاف .. هل سيهوى تراك الموت تحت الضباب؟ ماذا سيفعل لو وصل ولم يجد الشفة؟ من سيرسم له في الغربة؟ هل ستكفيه خمس دقائق للرؤيا؟ هل يصدق في تحديده؟ طال مكوثي خارج جسمي وأطلتُ في رسم الجرح المتعرج.. أخذتِ الألوان تتداخل وتضيع حدود الشفاه.. قويتْ عندي مهارة رسم الأشياء البشعة.. سيطر اللون الأحمر على جميع الألوان.. كان غبار التبغ والخوف يقفان على كل شيء في الغرفة.. الكتب والرسومات وملابسي وملابس ترّاك.. أحذيتي وأحذيته.. صوري وصوره.. لقد كنتُ أحاول بالرسم العودة إلى جسمي..



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى