ألف ليلة و ليلة د. محمود الضبع - "ألف ليلة وليلة" إعادة نظر

إن تراثنا العربي يحمل الكثير مما يمكن الاستعانة به في إنتاج المعرفة والمعلوماتية، فقط لو نظرنا إليه بمنظور مختلف عما تم تصديره إلينا من أحكام متعجلة لم نبحث في مصادرها، وقد تخيرت هذا النص تحديدا من بين نصوص عربية كثيرة مشابهة، ذلك لأنه أكثر النصوص التي تم الحكم عليها بأنها أبعد ما تكون عن الإنتاج الفكري، وهو حكم جائر يحتاج إلى إعادة نظر، مثله مثل كثير من الأحكام المتعجلة التي نحيا بها.


تبدأ شهرة ألف ليلة وليلة عالميا، عندما عثر المستشرق الفرنسي أنطوان جالان، على مخطوطتها العربية وترجمها إلى الفرنسية عام 1704م، ومن بعده ترجمت إلى عدة لغات أخرى، وصارت الحكايات الأكثر قراءة في العالم أجمع منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم.

ولم تتوقف الثقافة الغربية عند استيعاب ألف ليلة قراءة، وإنما ظهرت عبر التاريخ محاولات لتقليد حكاياتها وبنيتها القصصية، فقد وضع "جيوفاني بوكاتشيو" مجموعة قصصية بعنوان "الديكاميرون" تشتمل على مائة حكاية، يعتبرها الأدب الإيطالي إحدى روائعه الخالدة، وقد استلهمت حكاياتها من ألف ليلة العربية وحملت الكثير من أوجه التشابه معها، سواء في قصة الإطار أو في مضمون الحكايات.

كما وضع الشاعر الإنجليزي "جيفري تشوسر" حكايات "كنتربري"، متأثرا بألف ليلة في عالم الخرافات والأساطير، مثل المدن المسحورة، والجن، والجبال المتحركة والأشياء الطائرة، وغيرها، ولعل أوضح نموذج لهذا التأثر يتضح عبرحكايات الطحان والتاجر والعمدة والملاك والفارس ورجل القانون، التي تميل في إجمالها إلى الحكمة والوعظ والتعلم.

كما يعد أكثر نموذج ظهر فيه ذلك هو الملحمة الإنجليزية The Seven Seers of Romeوتشابهها مع القصة الأولى من ألف ليلة وليلة في الفكرة والخيانة والتهمة نفسها، وهو ما يشير إليه "هاملتون جب": "إن ما وصل إليه الولع بالقصص الشرقية من نشاط أثر في القرن الثامن عشر وغض الطرف عنها مؤرخو أدبنا بقصد وبعمد".

وفيما بعد أثرت ألف ليلة العربية في أعمال دانييل ديفو (روبنسون كروزو ١٧١٩م)، وجوناثان سويفت (رحلات جلفر ١٧٢٦م)، وهانز أندرسون ١٨٣٥م، ومونتسكيو في روايات الرسائل الفارسية، وأعمال ديدرو (تج والحلى غير المتحفظة)، وفولتير (كاندمير)، ورحلات جول فيرن، ومؤلفات ويلز، وأعمال هرمان ملفل، وبخاصة "موبي ديك" التي تعد إحدى الملاحم المعاصرة، وغيرها كثير مما تلاه.

كذلك تجلى هذا الحضور في عناوين الأعمال الأدبية الغربية، مثل ألف سهرة وسهرة، وألف ساعة وساعة، وفي مضامين كثير من الأعمال التي لم تزل حتى اليوم تشتبك في نصوصها مع ألف ليلة بشكل أو بآخر.

ولم يقتصر تأثير ألف ليلة على الأدب الغربي فقط، وإنما امتد حضوره في الرسم والموسيقى والمسرح والسينما ( في العديد من الأفلام التي حملت عنوان Arabian nights)، وقصص الأطفال، وربما كان آخر استلهام لها ما قام به أديب نوبل 2010م الإسباني ماريو بارجاس يوسا في تجربة مسرحية قدم فيها وجهة نظره بشأن شهرزاد على وجه الخصوص.

أما في الأدب العربي، فقد كانت الطبعة العربية الأولى لها هي طبعة "برسلاو" في ألمانيا عام ١٨٢٤م، وتلتها عدة طبعات حتى ١٩١٠م ، ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف حضور ألف ليلة وليلة قديما وحديثا: في المسرح والرواية والقصة والشعر، بل تأتي البدايات الأولى للمسرح العربي معتمدة على حكايات ألف ليلة على يد مارون النقاش 1849م في مسرحيته الثانية "أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد" والمأخوذة من حكاية "النائم واليقظان" الواردة في الليلة الثالثة والخمسين بعد المائة من ليالي ألف ليلة.

ثم يأتي حضور ألف ليلة في الإذاعة والتليفزيون وإنتاج السينيما المصري على وجه الخصوص، إلى الدرجة التي ارتبط فيها شهر رمضان المعظم بحلقات درامية، وأعمال يستمر عرضها طوال الشهر الكريم، يعيش خلالها المشاهد أجواء الحياة العربية القديمة.

وتتنوع أشكال حضور الليالي – كذلك - عبر الأنواع الأدبية، باعتبارها هي النص الأكثر مقروئية، والأكثر تأثيرا في وجدان المتلقي، ولعل أشهر أشكال هذا الحضور محاولة الروائي العالمي نجيب محفوظ محاكاة هذا العمل، وجرأته القصوى على التحدي باختيار عنوان روايته "ليالي ألف ليلة" الصادرة عام 1982م، مقتربا من العنوان الأصلي، وكتابته لنص نسج فيه حكايات متنوعة الزمان والمكان على غرار الحكايات الأصلية، وإن كانت الأبعاد الفلسفية والسياسية لا تخلو منها حكايات محفوظ.

وعلى الرغم من كون ليالي نجيب محفوظ عملا صغير الحجم (أربعة عشر قصة)، لكنه معقد البناء، يحتمل إمكانات متعددة من التأويل، فيشير إلى معاني القهر والتسلط والظلم التي لا يخلو منها زمان أو مكان، ويشير إلى الواقع المعاصر، ويشير إلى عامة الشعب وموقفهم من الجماعة الحاكمة وعملهم الدائب من أجل هذه القلة.

وبعد نجيب محفوظ، يمكن تتبع أثر ألف ليلة في كثير من الأعمال القصصية والروائية، وحضور عالم الليالي، وحكاياته فيها، حتى يومنا هذا، ولعل آخره رواية عمرو عافية "عربيد عشق آباد"، التي يتكئ فيها على قصة ابن طفيل "حي بن يقظان" ويمزجها مع بعض حكايات العشق والغرام في ألف ليلة، مضمنا الكثير من أبيات الشعر الواردة في الليالي بنصها وموظفا لها في النص الروائي الجديد.

ولعلنا اليوم في حاجة لإعادة قراءة ألف ليلة وليلة، ليس من باب متعة الحكي وكفى، وإنما من باب استقراء الواقع الفكري والاجتماعي للعقلية العربية، وما يشغلها، وكيفية تداولها للحياة، لعلنا نقف في ذلك على الأبعاد التي نتلمسها في رصد مسيرة حياتها.

ولعلنا أخيرا نعدل بأنفسنا ذلك الحكم المتعجل الذي صنف الليالي على أنها فقط للتسلية والمتعة وكفى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى