ألف ليلة و ليلة د. أبو زيد بيومي - شهرزاد بين مرجعية الضمير الجمعي والمرجعية الذاتية

لم تكن شهرزاد مجرد فتاة قررت بكامل إرادتها أن تقدم نفسها لشهريار، في مهمة يمكن وصفها بالخطيرة، لتضع حدّاً للرغبة الانتقامية لذلك الملك المَوتور. وإنما كانت قناعاً صنعته الجماعة الشعبية، يحمل عنها عبء التعبير عن آلامها وآمالها، من خلال حكايات ذات دلالات بعضها مباشر، وبعضها الآخر غير مباشر. ظاهرها السمر والتسلية، وباطنها الترويض والتربية.

انطلاقاً من ذلك يمكن النظر إلى (ألف ليلة وليلة) إلى أنها حكايات ذات مرجعية تسير في اتجاهين: أولهما: المرجعية العامة أو الشعبية، أو مرجعية الضمير الجمعي. حيث إن قصص ألف ليلة وليلة تصنف كأدب شعبي، وذلك لأنها تعد انعكاساً لإسهام الفكر الإنساني في تكوينها عبر عصور مختلفة، من خلال ترجمات متعددة، بعضها أضاف إليها، وبعضها الآخر حذف منها. وهو ما جعلها تنتشر على مَرّ الزمان.

وسواء أكانت الحكاية في (ألف ليلة وليلة) ذات صبغة واقعية أبطالها لهم جذور في عالم الحقيقة. أو ذات أحداث خيالية، فإنها على كل حال لا تخلو من دلالاتٍ تلقي بظلالها على أحداث الواقع المعيش، حيث يتمكن المتلقي من الخروج بعبرة تسمح له بالتعامل من خلالها مع مواقف حالية.

أما الاتجاه الثاني لمرجعية (ألف ليلة وليلة): فيتمثل في أن الضمير الجمعي، في مراحله التاريخية المختلفة، دائماً ما يكون في حاجة مُلحّة إلى بطل أو قائد أو مُخَلّص، يحمل عنها عبء التغيير، وعناء المواجهة. كعنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي، وعلي الزيبق، والظاهر بيبرس، في نسختهم الشعبية. وغيرهم من الأبطال الذين عبّروا عن ضمير الجماعة. ومن هنا قام الضمير الجمعي بتأطير حكايات (ألف ليلة وليلة) بإطار ذلك البطل الذي يحمل عنه عبء المواجهة ومسؤولية توصيل الصوت، إلى أولئك الذين يناهضون الرغبة الجماعية في ما تريد، سواء على المستويات العليا المعقدة، التي تضم أصحاب القرار أو أصحاب الحل والعقد. أو على المستويات الدنيا المتمثلة في الأفراد العاديين الذين يدخلون في النسيج الاجتماعي في صورته البسيطة. فشخصية البطل الذي يقوم بهذا الدور تُحِيلُ مرجعية الضمير الجمعي، إلى مرجعية ذاتية، تتمثل في هذه الشخصية التي تُسْنَدُ إليها الأقوال والأفعال داخل الحكاية.

وعلى غير عادة الضمير الجمعي في لجوئه إلى بطل من عالم الرجال، فإن الإطار الذي وضعته الجماعة الشعبية لقصص (ألف ليلة وليلة) جاء أنثوياً، متمثلاً في شخصية شهرزاد، حيث كانت حكاية شهرزاد هي المفتتح الرئيس الذي انطلقت من خلاله سائر الحكايات.

إن الوعي الشعبي بابتكاره لشخصية شهرزاد، تلك الشخصية الواعية المثقفة، فضلاً عن كونها أنثى، يُغيِّر حِيَل المواجهة المعتادة. فأبطالُ السير غالباً ما تكون شخصيات تمتلك بنية جسدية قوية، ومهارة تجعلها تحسن الكَرّ والفَرّ في ميادين المعارك، وتلجأ إلى سلاح الحديد في مواجهاتها المختلفة. بينما تلجأ شهرزاد إلى قوة الحُسْن والجَمال جنباً إلى جنب مع المعرفة والخيال، بما يشير إلى اعتراف ضمني من الضمير الجمعي بقوة الفكر والثقافة، كبديل مثالي عن قوة العنف والسلاح.

ففي قصة الجارية (توَدُّد)، على سبيل المثال، والتي تستعرض فيها (توَدُّد) أمام هارون الرشيد معارفها وثقافاتها في الفقه والفلك والطب والحساب والشعر واللغة، وغيرها من العلوم والمعارف. فهذه المعارف التي طرحتها الجارية (توَدُّد) في سياق الأحداث، يردُّها السياق لتصبح معارف خاصة بشهرزاد صاحبة الحكاية الأم. وبالتالي ترتدُّ إلى الجماعة الشعبية التي ألَّفتْ تلك الحكايات، وجمعتها في إطار واحد. وكأن الضمير الجمعي أراد أن يلفت نظر أصحاب النفوذ، من خلال صوت (توَدُّد)، إلى أن الوعي الشعبي يمتلك معرفة تُمَكِّنه من أن يكون في حال أفضل مما هو عليه. فتودد ما هي إلا جارية تباع وتشترى، وليس لها إرادة حرة تُمَكِّنُها من تقرير مصيرها بنفسها. وكأن (توَدُّدَ) انعكاسٌ لذلك المجتمع الخاضع أمام سطوة أصحاب السُلطة. وهو ما يشير إلى إقرار الوعي الجمعي بالقوة الناعمة، متمثلة في نعومة الأنثى (تودد/شهرزاد)، ونعومة الحكاية التي تقصها على الخليفة أو الملك (هارون الرشيد/ شهريار)، صاحب النفوذ والقوة، اللذين استمدهما من كونه صاحب سُلطة.

فحكايات (ألف ليلة وليلة) تقوم بتحويل المرجعية الجماعية العامة أو الشعبية إلى مرجعية ذاتية. حيث صَبَّ الضمير الجمعيّ صوته الذي تحمله الحكايات، في إناء الذاتية. من خلال ذات واحدة، وصوت واحد، هو صوت شهرزاد. وكأنه اتخذ من شهرزاد قناعاً له. وجعل هذه الثقافات والمعارف ثقافات ومعارف تخص شهرزاد وحدها. فهي من قامت بتحصيلها، وهي من قامت بتوصيلها.

حيث يمكن القول إن جموع الأفراد قد عجزت عن مواجهة أصحاب النفوذ، والتي تتمثل في مواجهة شهريار، صاحب الميول الانتقامية، المستندة إلى سُلطة قمعية. فقد فشلت كل الفتيات، وكذلك فشل الظهير المجتمعي الذي ينتمين إليه، في مواجهة سيف الجلاد. أضف إلى ذلك أن تعمية شخصية الفتيات صِفةً واسْماً، يجعل تلك الفتيات جزءاً من الضمير الجمعي، الذي نجهل بطبيعة الحال أسماء وصفات أفراده على وجه الخصوص. ومن هنا فإن القمع الذي تواجهه الفتيات هو القمع ذاته الذي تواجهه الجماعة الشعبية.

وعليه يمكن القول إن حكايات (ألف ليلة وليلة) تعكس رغبة الضمير الجمعي في طرح بديل مثالي لمجابهة فكرة الاستبداد، وذلك عن طريق فتح نوافذ معرفية وثقافية ينظر من خلالها المستبد إلى بدائل تحل محل القهر والظلم والاستعباد. وكذلك يمكن القول إن الستار الشفيف الذي تمثله شهرزاد يكشف على استحياء عن رغبة أخرى للضمير الجمعي في التحول من سلبية الاستسلام إلى إيجابية المواجهة. فهو «شفيف»، لأن وعي الجماعة لم يكشف عن ذاته بصورة مباشرة. لأن المواجهة المباشرة تعني الدخول إلى ساحة معركة لا يمتلك مقوماتها، وهو ما يعني مزيداً من الخسائر، ومزيداً من القمع. أما كونه «على استحياء» لأن ما أراد الضمير الجمعي قوله هو ما قالته شهرزاد من خلال الحكايات. وبهذا تكون شهرزاد أمام أصحاب النفوذ هي من قامت بهذا التحول الإيجابي. بينما تستتر الجماعة الشعبية خلفها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى