ألف ليلة و ليلة منقول - أثر قصص ألف ليلة وليلة على تأليف الموسيقى في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في كتاب " القراءة للمتعة" لمؤلفه دونالد ماكامبل

ومما يلفت النظر في قائمة الكتب تلك الشاملة للأدب والمعرفة والفلسفة والفن والفكر عموماً في العصور القديمة والمتوسطة والحدبثة أن ليس فيها كتاب عربي إلا كتاباً واحداً يتيماً هو كتاب " ألف ليلة وليلة " بالرغم من أن ماكامبل يعتيره آسيوياً فيه قصص خيالية قصيرة !
مما لاشكّ فيه أن إدراج كتاب ألف ليلة وليلة المشهور في أوروبا باسم The Arabian Nights ضمن خمسمائة كتاب عالمي مختار له دلالة كبيرة على مكانة هذا الكتاب وأهميته ككتاب شرقيّ إسلامي عند قرّاء غربيين ، وهو بالطبع مترجم إلى العديد من لغاتهم ، وكان أنطوان جالاّن الفرنسي [1646- 1715] أوّل من أقدم على ترجمته . ومن يومها نظر الأوروبيون إلى هذا الكتاب الهامّ نظرة جادّة ولا سيما المستشرقين والأدباء والعلمـاء ومنهم عالم النفس جرهـارد شتيكل الذي رأى فيه " تعرية لنوازع الجنس البشري وكشف عن غرائزه دون تحفّظ " . وهذه النظرة هي عكس نظرة الازدراء عند كثير من " علماء وأدباء وفقهاء " شرقيين مسحوا وبجرّة قلم هذا السفر العظيم من قائمة كتب الأدب واعتبروه كتاباً فاحشا ساقطًا رديئاً منافياً " للأدب والأخلاق ، وقد أرسلهم الله لحمايتها "!! .
أثر ألف ليلة وليلة في فنون الغرب
أمّا عن مدى تأثير هذا الكتاب عند الأوربيين فلا أدلّ من كتاب الأستاذ الجليل عبد الجبّار السامرّائي [ أثر ألف ليلة وليلة في الآداب الأوروبية ، دار الجاحظ ، بغداد 1984] . وكان قد تتبّع أثّر كتاب ألف ليلة وليلة في آداب أقطار شمال البحر المتوسط وأواسط أوروبا وغربها وصولاً إلى بريطانيا وأيرلندا ، وإلى الشرق في الأدب البلقاني والروسي ، كما رأى أن أثره لم يكن مقصوراً على الآداب من قصص وشعر فحسب بل تعداها إلى غيرها من رسم وتزويق وفنون ولهو وموسيقى وأفلام صور متحركة كقنديل علاء الدين والسندباد وعلى بابا و " افتح يا سمسم " حتى فتح سمسم على الموسيقي الروسي الشهير ريمسكي ـ كورساكوف، وذلك في( Suite ) متتابعة موسيقية سمفونية تحت اسم " شهرزاد " . وكورساكوف هذا كان أحد الموسيقيين الخمسة الكبار أعلام الموسيقى القومية الروسية التي بدأها ميخائيل جلينكا ( 1804 ـ 1875 )، وهم مجموعة " العصبة المنيعة " ، وقد تابعوا ما بدأه جلينكا . وهم : ألكسندر بورودين أستاذ في الكيمياء والطب في الجامعة . وسيزار كوي (1835- 1918 ) ضابط جيش ، وحجة في الحصار العسكري ، وصل إلى رتبة جنرال . وميلي بالاكرييف ( 1837- 1910) عالم رياضي مرموق . وموديست موسورسكي (1839-1881) عسكري لفترة وموظف مدني . وأما خامسهم فهو ريمسكي ـ كورساكوف ( 1844- 1909) وقد انخرط في سلاح البحرية الروسبة ، وفي أثناء خدمته أسندت إليه قيادة فرقة الأسطول الروسي الموسيقية ، وفي عام 1871 عُيّن أستاذا للتأليف الموسيقى وفن الغناء في المعهد الموسيقي بمدينة بطرسبرج .
مؤلّفات كورساكوف
إن مؤلّفات كورساكوف الموسيقية كثيرة ومتنوعة وهي في عدة مجالات من متتابعات ، وهي عبارة عن لوحات راقصة ، وسيرانادات ( معزوفات مسائية ) وبورادات (معزوفات صباحية ) وتنويعات وسمفونيات وأوبرات منها الديك الذهبي . ولكن يمكن القول إن متتابعة شهرزاد من أشهر مؤلّفات كورساكوف وأحبّها لدى عشاق الموسيقى في الشرق والغرب .. تشنّف الآذان بعزف صولو الكمنجا وإيقاع الهارب/ القيثارة عدا موضوعها الإنساني المثير تحت اسم " شهرزاد " بطلة الحكايات في قصص ألف ليلة وليلة .
كتب كورساكوف قال : " لا يخفى أن لهذه ال suite ( المتتابعة )صدى موسيقي في حياتي فهي حكاية شهرزاد والسلطان شهريار الذي أقسم بعد أن خانته زوجته الأولى أن سيقتل ثأرا لكرامتة كل فتاة يبني بها منذ ليلتها الأولى .. وأخير يلتقي بالفتاة شهرزاد وكانت بارعة الذكاء ورائعة الجمال . ومنذ ليلتها الأولى بدأت تسرد له الحكايات المثيرة والشائقة إلى أن " أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح " ، وكان شهربار يصغي إليها بكل جوارحه إلى أن يكحّل الكرى جفونه فتتركه نائما ً في سريره ، وتنسلّ إلى حجرتها بعد صرفته بذكائها وسحر قصصها عما كان يبيّت لها من نهاية مفزعة .
و " مكث شهريار يصغي متلهّفاً وشهرزاد تقصّ حكاياتها وتنشد الأشعار ببراعة منقطعة النظير ، حتى تمكنت من التخلّص من بطشه والنجاة من الموت ..وكان أن استعقلها شهريار فاستبقاها وتزوّجها لحكمتها وبراعتها .. وأنجب منها طفلين " .
عناصر متتابعة شهرزاد وتتألف متتابعة شهرزاد من أربع حركات كتلك الحركات المعروفة في التأليف السمفوني.. الحركة الأولى سريعة كما في السمفونية ، والثانية سْكيرزو رشيقة مرحة ، والثالثة بطيئة والرابعة نهاية مبنى سمفوني .
إن آلة الكمنجا الأنثوية في هذه المتتابعة تشير إلى شهرزاد كما يبدو من المقاطع الناعمة الرقيقة ذات الطابع الارتجالي على إيقاع آلة الهارب ، فعزف الكمنجا يمثّل ما تقصّه شهرزاد من حكايات وخرافات وتنشده من أشعار في تضاعيف قصصها .. فهذا التأليف الموسيقي ذو الطابع الشرقي سببه شرقية الشرق السحري الذي دفع كورساكوف وهو الموسيقي الرومانسي إلى أن يتشبّث بقصص ألف ليلة وليلة ليكشف عن منجم لا تنفد معادنه ، أو منبع ثرّ لا ينضب معينه من رومانسية الشرق باعتبار كتاب ألف ليلة وليلة عبقرية شعبية إنسانية تراكمية ، ومثار خيال ساحر عجيب !
ولم يقف كورساكوف عند سحر الشرق في ألف ليلة وليلة فحسب بل في القصص البطولي في ملحمة " عنترة العبسي " فقد طلبت إليه زوجته " ناديجدا " أن يستمدّ الإيحاء من قصة عنترة البطولية لكون عنترة عبداً نشد الحرية بقوة ساعده :
ولو أرسلت رمحـيَ مع جبانٍ لكان بهيبتي يلقى السِّباعا
إذا الأبطال فرّت خوف بأسي ترى الأقطار باعاً أوذراعا
وكان أن عمد كورساكوف إلى قصة عنترة التي كتبها الأديب الروسي سنكوفيسكي ، وألف سمفونيته الشرقية باسم Antar .
إن مضمون الحركة الأولى من سويت شهرزاد هو البحر وسفينة السندباد ، وفيها يبرز دور الآلات في تصوير الموضوع المركزي المتجهّم والذكوري الغاضب المتمثل في الملك شهريار العنيف. وأما الموضوع الأنثوي الرقيق ، والناعم المتوسّل الحزين في شهرزاد فنلمسه في عزف الكمنجا على إيقاع الهارب ، وكأنّه غزل رقيق منسوج من ضوء القمر . فالكمجنا هي شهر زاد التي ذهبت في حكايتها بعيداً إلى عالم سحري عجيب أوقع شهريار في خدر مسحور ، ولكنه لم يلبث أن أفاق وذلك من خلال تصوير جليّ لحركة أمواج صاخبة في لين ، وغاضبة في رضوخ أبيّ .
وأما الحركة الثانية فهي قصة أحد الأمراء في افتتاحية قصيرة ، ثم حديث الكمنجا ( قصة من شهرزاد ) ، ثم حركة سريعة مرحة ذات دعابة ( سكيرزو ) .
وأما الحركة الثالثة فهي قصة الأمير الشاب والأميرة الشابة في حركة بطيئة ، وهي من أجمل الحركات في القصص أو القصيد السيمفوني الحديث ، وتبدأ بعزف انفرادي للكمنجا ، ثم لمجموعة من الآلات ما بين استمرارية وتنويع .
وأما الحركة الرابعة وهي الأخيرة فاحتفال في بغداد على شاطىء دجلة ، وحكاية السفينة التي تحمل تمثالا ، وتتحطّم على صخرة في البصرة .. يُسمع موضوع الملك شهريار أولاً ثم شهرزاد في قصة تتضمن شعراً ، ولكن وصف حادثة السفينة التي ارتطمت بالصخر عند البصرة وغرقت ، ثم وصف الاحتفال في بغداد فإنهما من أعذب ألوان التأليف الموسيقي .. ثم يكون الختام وهو تأمّل .. أشبه بحلم جميل وهمس أنثوي شاعري دافىء . ويرمز تحطّم السفينة إلى تحطّم نية السوء عند شهريار لقتل شهرزاد ، وما انتصار شهرزاد إلا انتصار الجمال واللطف والذكاء وهي الأنثى ، وهي هنا الأقوى ، وإلا فلماذا استبقاها شهريار الجلف ؟ لقد استبقاها حرصاً على قصصها الجميلة وأسلوبها الساحر في الحديث والمسامرة ..
وهكذا استطاعت شهرزاد أن تسلّ السخيمة من صدر شهريار .. وتنتهي المتتابعة بتصالح وتراضٍ وانسجام .. أو على الأصح بركوع الرجولة القوية الخشنة أمام الأنوثة " الضعيفة " ، والرقيقة الناعمة ! وهكذا يكون قد تحطّم الصلف والعنجهية أمام الأسلوب القصصي الرشيق الأنيق !
أعتقد أن هذا الوصف لمتتابعة شهرزاد السمفونية سيجد مصداقيته عندما تسمع الأسطوانة أو القرص المدمّج أو الشريط المسجل تحت العنوان : Scheherazade Symphonie suite ..وما أجمل تجربة ذلك في مدارسنا العربية عندما يأتي المعلم لتدريس قصة من كتاب ألف ليلة وليلة ، أظن أن التجربة تكون جميلة وذات أثر تربوي كبير ، وسوف لا تُنسى لأنها مزيج من نغم وقصة وشعر في قالب من زهر وعطر وسحر!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى