نجم والي - قصص عن الأبدية إلى فِتنة النهار ... قبل الدخول إلى الأبدية

1- الحب الأبدي
كل شيء كان يشبهها، من غير المهم المسافة التي تفصلني عنها، كل شيء يبدوشبيهاً بها، له إيقاع يشبه إيقاعها، ورنين مثل موسيقى صوتها، كل شيء يحمل اسمها، أينما ذهبت ،
كنت أختار الوجهة التي تقودني إليها، تقود خطواتي لكي التقي بها. ومهما بدا أنني كنت ألتقي بها بالصدفة، فأنني في الحقيقة كنت أخطط لذلك، ربما دون علم مني، أوربما بتخطيط مني بالفعل! من يدري؟ أنا الوحيد، الذي لم يرغب أن يدري، ربما لكي أحافظ على رؤيتها من بُعد مأمون، مسافة آمنة، شبيهة بمنطقة محايدة، هل كنت أرى ذلك دليلاً على قدرية حبنا؟ من يدري، أو أنا وحدي من لا يرغب أن يدري!. رغم ذلك، عليّ أن أذكر هنا، أن بقدر تعلق الأمر بضمير التملك "نا" الذي ألحقه في ثنايا كلامي، لم يكن هناك في الحقيقة ما يدعوإلى ذلك. وهي لم تكن تعرف بما يدور، أوربما هجست، أوشعرت بأني أتبعها مثل ظل لها، لكنها – على الأقل – لم تعرف بدرجة تعلقي بها ولا لدرجة تقديسي لها. كتبت لها رسائل عديدة؛ رسائل، كنت أعطرها، بعطر تخيلت أنها تحبه، أغلِقْها بأغلفة ملونة، أعنونها بحبر ملون، وغالباً ما أقوم بلصق الطوابع عليها، بقليل من بصاقي اللزج، الممتزج مع دم أخرجه من إبهامي عن طريق غرز دبوس سرقته منها ذات يوم؛ كل رسالة تأخذ مني يوماً كاملاً على الأقل، لكن مهما كان الجهد الذي كانت تأخذه مني تلك الرسائل، فأنني لم أرمِها لها ذات يوم. كتبت اسمها أينما ذهبت. كان ذلك أمراً روتينياً، دائماً من جديد وفي كل مكان؛ حفرته على خشب رَحْلَتي المدرسية، ورسمته على إسفلت الشارع المؤدي إلى بيتهم بقلم الباستيل، وكتبته بخطوط عريضة عند ممرات البيوت، على حيطان المدرسة؛ دائماً حروف اسمها الخمسة، قشطتها على خشب المصاطب في الحدائق، في كل حدائق المدينة. عصراً بعد انتهاء الدوام المدرسي كنت انتظر مرورها، أغلب الأيام أراها تسير مع صديقاتها عند كورنيش المدينة، وفي أيام أخرى المحها تجلس في الباص، وجهها يلتصق بالنافذة، لم ألوّح لها، رغم أنني لم أتوقف عن التفكير بفعل ذلك كل مرة. ربما كنت أحرص على الحفاظ على تلك المسافة؟ من يدري؟ أوربما أنا الوحيد الذي لم يرغب أن يدري! كنت أقود الدراجة دائماً بصورة غير طبيعية عندما أمر عبر باب دارهم، مرات عديدة، وبصورة ملفتة للنظر، علّها تراني، أفكر بجمل معينة: آخ، أنتم تسكنون هنا، أنا أمر من هنا بالصدفة، جملاً، لم أجرؤ على قولها ذات يوم. أعتقد، ها أنا أقولها هذه المرة بصورة أوتوماتيكية، بأنني لم أرغب بالفعل بالتقرب منها، ولا في واحدة من محاولات تقربي منها؛ كنت أترك الحجاب يسقط فوق صورتها، وصورتي عنها ظلت رجراجة، بلا سُمْك، هشة لكنها رقيقة، ربما بقدر تعلق الأمر بي، لم أكن مهتماً بلمسها بصورة حقيقية بالفعل؛ كانت هي هناك مثل الطين الذي كنا نطلق عليه في طفولتنا بـ "الطين الحري"، كنت أشكل منها، كما كنا نشكل من ذلك الطين، دولاباً دواراً لذكرياتي المستقبلية، أحفظ صورتها "النيجاتيف" في عدسة الكاميرا، أوأشكل صوراً مختلفة عنها، لأجهز بها إطاراتي المستبدلة، وأعلقها على الحائط، كما علق الشوق فيّ. أن أهم شيء كان بالنسبة لي، هوالإعجاب بها دائماً، وكنت أشكر كل المصادفات التي كانت تفصلني عن لمسها، نعم كم كنت أشكر مؤامرة الصدفة علينا، على ألا نلتقي وجهاً لوجه: كنت أستغل غيابها من أجل خلقها. كان من الممكن أن تكون نجمة غناء، أوحورية بحر، أوشخصاً شبيهاً، لكن المهم أنه يظل شخصاً لا يمكن الوصول إليه. مساءاً، ليلاً قبل النوم أحاول دائماً فقط التفكير بها ولا أفكر بشيء أوبشخص آخر، أحاول إعادة تشكيلها، وأنا أضع رأسها على المخدة الثانية، المخدة المتخيلة مثلها.
حضورها كان قليل الأهمية بالنسبة لي بالمقارنة مع أهمية التحضير الداخلي لما سيحدث قبل وبعد لقائنا؛ غيابها كان بالنسبة لي أهم من حضورها. عندما كنت أراها، كنت أراها دائماً مغلفة، ببستان أفكاري. أفكر: كان بإمكان كل شيء أن ينموحولنا، كل شيء يحيط بنا، نحن الاثنين، كان ما يزال المستقبل غير المتشكل، المستقبل غير المعروف. عندما أصبح قريباً منها، كانت تنفجر في صدري كل تلك المعادن والحوامض التي كان يحدثنا عنها مدرس الكيمياء؛ كنت أعتقد دائماً، ربما بإمكاني الانفجار، لكن بعد وقت قصير من ذلك كنت اشعر بآلام في البطن وأشعر بمح عظام ركبتيّ يصبح دائماً أكثر رقة، يصبح رجراجاً، إلى حد الجريان، أقصد ذلك الشعور الذي يأتي عادة، عندما يشعر المرء بالخرس، وبرجليه ترتجفان. للأسف كان ذلك هوالشعور الذي يسيطر عليّ، ولا أقول علينا، لأنني لم أكن معنياً بالحديث عنها، أوبالتفكير بما تفكر به هي، يكفي أنني أفكر بأنني أنا من يفكر بها. فقط التفكير بها، إذ لم أعرف أن أقول لها شيئاً، وحتى لورغبت بفتح فمي أمامها فلن يأت منه غير تأتأة وفضائح. لم تكن عندي حتى القدرة بالتلويح لها على الأقل، كنت أفعل ذلك فقط في التحضيرات اللاحقة. في تلك المقابلات المعادة للمرة الألف في داخلي، كان يخطر في ذهني ربما، ما كان عليّ أن أقوله لها؛ سرعة البداهة والخواطر كانت تأتيني دائماً ساعات أوأياماً متأخرة. كل لقاء صغير بها كان مقدمة للفلم الذي كنت أخرجه أنا، وأقطع كل المشاهد التي أريدها من البقية الباقية لي. كان الفلم يُعرض دائماً، على شاشة أفكاري.
ربما كنت بالفعل لم أملك بشكل عام ما أقوله لها عنا. كنت أحب صمتها، ضحكتها السمراء، القريبة من ضحكات الدمى. لم أتخيل أبداً أنني سأتشاجر معها ذات يوم، كنت أحب المسافة الآمنة بيننا. لذلك ـ ربما ـ لم أخطط بصورة جدية للحديث معها صراحة. ربما لأنني كنت أعرف لماذا تنطفئ الأفلام القديمة والمسلسلات تنتهي، عندما يقع العشاق في أذرع بعضهم. من يدري؟


2 - أبدية الزواج
لم نعشْ تلك الفترة، فترة الوقوع في الحب، أوكما يسميها أكثرية الناس عندنا، "فترة الخطوبة"، أوكما يسميها البعض القليل الآخر "فترة التعارف على البعض"، ما يعتقد الطرفان أنه الكفاية. لقد قررنا بصورة مباشرة العيش مع بعض: تزوجنا، وحدث الأمر بصورة سريعة ومباشرة هكذا، كما لوكان يحدث دائماً على هذه الصورة، ولم يكن بشكل آخر. لم يكن قرارنا مفتعلاً، وإذا تركت الحديث عن نفسي وتحدثت عنها، فهي لم تبدأ مثل أية شخصية مفتعلة أخرى؛ كانت حقيقية وكاملة وتلقائية. انتقلت إليّ مباشرة، غيّرت بلادها، غادرت صديقاتها، أصدقائها، أهلها، وجاءت لتعيش معي: "نعيش سوية، لأننا نحب بعضنا"، كما واظبت على البوح لي، حتى ونحن نجلس أمام التلفزيون. جاءت لتكون شريكتي. وأنا أكون شريكها. بالفعل كنا شريكين بكل شيء، ولا أريد الحديث عنها، سأتحدث عن نفسي. كنت اسمعها بالفعل تتنفس، تضحك، تصرخ، تأن. بل كنت اسمع حتى صوت الأورين عبر باب غرفة الحمام. كانت حقيقية، كانت هناك وكانت تقول: أنه أمر مضحك، أن يعيش اثنان سوية مثلنا، خارج كل عرف، ويتحملان بعضهما البعض. كنا نفهم بعضنا البعض بعض المرات بصورة أفضل وفي المرات الأخرى بصورة أقل سوءاً، وفي باقي المرات بصورة أقل من جيد. نادراً ما كان يحدث، بأننا لم نفهم بعضنا البعض. كنت أعرف، متى تأتيها العادة الشهرية، ومتى تشعر بالوعكة، لم أنظر لها كقديسة أومن الأفضل القول، لم أكوِّن صورة متخيلة عنها، مثلما يفعل المراهقون، كلا، كانت هي بالنسبة لي حقيقية؛ كانت هناك. حتى هي، كثيراً ما كانت تقول: "أن التعرف على البعض بصورة أفضل يعني قبل كل شيء معرفة الجوانب السيئة، غير المريحة، التي يستطيع المرء عادة إخفائها، مستغلاً الذكرى الأولى، الانطباع الأول الذي يدوم". لا أحد يعرفني بصورة جيدة مثلما تعرفني هي، كانت تعرف، متى أكذب عليها، مثلما كانت تعرف أي دور كنت ألعب أمامها بالضبط. بالصورة المقابلة كنت أعرف، ما كان يجب عليّ قوله، خاصة عندما لا أشعر بالراحة. في المساء كنا نحكي لبعضنا، ما مر بنا طوال اليوم، كنا نحتفظ لأنفسنا ببقايا أسرار صغيرة بالطبع. وإذا ذهبنا للفراش في اللحظة ذاتها، فإننا سننام مع بعض مباشرة، وإذا لم يكن علينا الاستيقاظ مبكراً فسنفعل ذلك في الصباح أيضاً. صباحاً تحكي لي، ما حلمت به، أما أنا أحكي لها عن أحلامي بطريقة أمنح فيها لها الانطباع بأنني حلمت وأحلم بها فقط. كانت تعمل القهوة وأنا أشتري الخبز. هي ذاتها تشرب الشاي، وعند الفطور، وقبل الذهاب إلى العمل، اعتادت القول: "لقد تجاوزنا مرحلة تجربة بعضنا للبعض، مرحلة الاندهاش والإعجاب ببعض، مرحلة الوقوع في الحب، لحسن الحظ نحن أعلى من ذلك. أننا نعيش مع بعض، بسعادة". كنت أغادر البيت قبلها، ساعات عملي ثابتة، ثمان ساعات يومياً، تبدأ عند التاسعة صباحاً. لم تعمل هي إلا في بعض أيام الأسبوع، تخرج لبيع بعض قطع السيراميك التي تعملها في البيت. وفي أيام خروجها، تخرج معي. كنت أنا أقود السيارة، وهي تجلس إلى جانبي، وتقول: "أنا سعيدة لأنك تسوق". لم تتعلم السياقة. كانت تقول أيضاً: "نحن نكمل بعضنا البعض". كانت هي تطبخ وأنا آكل، وأغسل الصحون. كان بإمكاننا أن نملك الأطفال، لكن لم يحصل ذلك. رغم أنها هي التي تخبرني، أنني دائماً أسافر أوأمرض في أيام نضوج البيضة عندها. أصمت، وأرد عليها بلطف، بأنها الصدفة لا غير. لكني أفكر، لماذا يحدث ذلك بالفعل؟ ربما لم تكن عندنا أسباب كافية تحفزنا على بذل جهود خاصة، أكثر من أن نكون سوية، من أجل إنجاز الحمل مثلاً؟ لكن، كما يبدوأننا نصلح للبعض فقط هكذا، بطريقة غير معقدة لا تثير التساؤل، حالتنا طبيعية، لم تغطيها سماء وردية أوتكدرها غيوم سوداء، لم نكن غير سعداء أوحزينين، كنا هناك راضين بوجودنا سوية، وجودنا غير الثقيل وغير الخفيف في الوقت نفسه، وجودنا الحيادي. مع ذلك، لم يكن علينا التظاهر أمام البعض بصورة دائمة. كنا نذهب للسينما ولم يكن علينا الشجار بسبب الأفلام، كنا نقرأ الكتب ذاتها، ولم نقرأ ذات يوم كتابين مختلفين، متعارضين، يحملان رؤيتين مختلفتين. لم نتشاجر إلا بصورة نادرة، يمكن إحصاؤها، وغالباً ما يحدث ذلك بسبب أمور تتعلق بسلوك ما، على الأغلب بسبب أمور صغيرة: من يذهب إلى غرفة الحمام في الصباح أولاً، أومن منا يقرأ الكتاب للنهاية. كانت تبدأ كل يوم مع اثنين أوثلاثة كتب في الوقت ذاته وتتركها موزعة في كل مكان في البيت، ربما لم ترغب بقراءة أحدهما للنهاية، لأنها لم تكن تريد، أن ينتهي شيء ما على الإطلاق. كانت تخاف من ذلك ببساطة.
كنا نذهب دائماً سوية للأكل في أحد المطاعم، وكان عندنا دائماً ما يكفي للحديث، لم يكن علينا الذهاب يومياً، كنا نظل في البيت أيضاً، جالسين أومسترخين على الصوفا، لم نعرف، أولم نشأ أن نعرف بأن الانسجام يمكن أن يصنع الملل أيضاً. ليس الأمر جميلاً، عندما ينتهي اليوم مثله مثل أي يوم آخر، ويسبب الآخر للواحد الملل حتى الموت. كنا نتصرف أمام بعضنا دائماً، كما لولم نكن نعرف، بأننا من غير الممكن أن نبقى حتى نهاية حياتنا سوية على هذه الحالة، وعندما تريد إثارة غضبي، كانت تقول: "ربما أن ما نمر به هوجزء فقط مما نطمح إليه" أو"ليس بسببك أنت أوبسبب رجل سابق، إنما من الأفضل لنا أن نترك التفكير بالأبدية إلى يوم آخر". بالفعل أنا أيضاً كنت اعتقد بأنني لن أستطيع الاستمرار على قيد الحياة إذا لم أعد أراها ذات صباح. كان الأمر يتعلق بنا نحن الاثنين، كانت لعبة متعادلة، متقنة بصورة جيدة. نحن الاثنان، كنا نسمن يومياً، دون أن نشعر بذلك.

3 - أبدية الانفصال
الوقت معه كان مثل هدية، بدأ بصورة بسيطة، ومثل كل الأشياء الجميلة الأخرى، انتهى فجأة. ومثلما انتقلت إلى بيته بسرعة، غادرت بيته بسرعة أيضاً. حملت في البداية معي بعض الأشياء الصغيرة فقط، أما بقية الأشياء الأخرى، فقد عدت لأخذها بعد أسابيع. كنت أحتاج بعض الوقت، لكي أضع كل شيء في مكانه. كما قلت أخذت حاجاتي الباقية، بعض الكتب والكاسيتات، بعد أسابيع. لكن بعد ثمانية أوتسعة شهور بعد انفصالنا، دق جرس البيت، وعندما فتحت الباب، وجدته يقف فجأة أمام باب البيت، ويسألني بدون مقدمات عن حاجته للنقود. كان ذلك في الوقت، الذي توقفت فيه عن التفكير به وانتظاره. قال، أنه يحتاج بعض النقود "أرجوك سلفيني بعض النقود، أنا بحاجة إليها بصورة ملحة"، قال ذلك وكنت أرى، كم كانت حالته مضطربة، ولم اقل له: "كيف حالك، وما هوسبب حاجتك للنقود؟" كلا، كنت مندهشة من مجيئه، حتى أنني نسيت، أنني وقفت عند الباب في بنطلون البيجامة، نوع من اللباس الذي تعودت على لبسه عندما أكون وحدي في البيت، نعم تفاجأت بنفسي أقف عند الممر، بنطلون البيجامة، البنطلون الذي اعتدت لبسه في المساء، عندما استرخي على الصوفا، وأنا أشاهد أحد البرامج أوالمسلسلات التلفزيونية. قال، "لم تلبسي ذات مساء هذا اللبس الجميل، هل تذهبين مبكراً للفراش؟" كان بإمكاني أن أقول له، عليّ النهوض بصورة مبكرة صباحاً، لأن عملي زاد، أنا أعمل كل يوم، وقتي أقل من السابق بكثير. أوإذا أخذ المرء الأمر على عواهنه، الكثير من الوقت قياساً للوقت الذي كنت أملكه، عندما كنا سوية. لأنك لم تعد هناك. فكرت بذلك فقط، ولم أقل شيئاً، كنت فقط أفكر بحديث يجري بيني وبينه: في البيت، يصيبني التلفزيون دائماً بالملل لأنك لم تعد هنا. ربما تمنيت أن أقول له أيضاً: في السابق كنا على الأقل نتشاجر بعض الوقت، من أجل تسلية بعضنا. لكني بدل ذلك قلت له، نعم، أنا في وضع جيد، بل أنني في وضع يثير الحسد. هكذا كذبت، وقلت له، أنني كنت مسافرة، في إجازة، زرت صديقة لي في مكان بعيد، ولم أقل له، أن الإجازة كانت لوحدها أكثر الأمور رعباً في حياتي؛ في بيت صديقتي كنت محاطة بالأزواج فقط، أزواج مع الأطفال، وكانوا كلهم يسألون عنك. لكن أمامه أحاول أن أبدوسعيدة بجملتين فقط. ولم ألاحظ، بأنني نفسي كنت مضطربة، بمثل اضطرابه، بمثل دوخته. علق بعض التعليقات الساخرة بصدد التلفزيون الذي كان صوته يأتي حتى الممر، لكنه لم يعلق بشيء بما يتعلق ببؤس بيتي الذي يمكن رؤيته من الممر، "أنا أحتاج بعض النقود"، سمعته يقول، وفكرت، بأنه ربما لم يعد يهمني، بأنني لم أعد أفتقد وجوده، لقد عودت نفسي على الألم وكنت أنام كل ليلة احتضن نفسي عميقاً، هناك، حيث لا أحد يستطيع مواساتي ومنحي العزاء أكثر من منحي أنا ذلك لنفسي؛ فكرت: ربما كان ينقُص فقط نصف سنة أخرى وسنكون بعيدين عن بعض ما يكفي، لكي نستطيع رؤية بعضنا البعض بصورة طبيعية. سألته، كم، ما هوالمبلغ الذي تحتاجه، وكنت مستعدة لمنحه كل ما أملك في البيت وكل ما هوموجود على حسابي في البنك، لوطلب هوذلك. أعطيته خمسة عشر أوستة عشر باوند، كل ما كان عندي في تلك الساعة في البيت، ولوطلب أكثر، كنت نزلت لأسحب له من الأوتوماتيك، ولم أسأله، ما هي حاجته للنقود، لم أكن مستعدة لسماع كذبة أخرى من أكاذيبه. ابتسم لي، وما زال الاضطراب يستحوذ عليه، وكأنه شخص غريب، قادم من مكان ما، كان يقف أمامي هذه المرة، يؤطره الباب المفتوح، فكرت: لقد فقد الكثير من وزنه. كان شاحباً، هزيلاً، ناحلاً بصورة غريبة، كأنه لم ينم منذ وقت طويل، لكن لم تكن عنده رغبة في الدخول. أعطيته الفلوس وكان عندي الشعور، كما لوكنت أدفع ثمن اختفاءه، أوكما لوكنت أحلّ رباطه عني بدفعي النقود له، واعتق نفسي من لزوم التفكير به. من جانب آخر، كنت آمل، عن طريق دفعي المبلغ له، عن طريق الدَين هذا أن أربطه بي من جديد. كنت أعرف، بأنني بالتأكيد سأكون مجبرة على التفكير به من جديد، أسابيع طويلة أخرى، مساءاً، أمام التلفزيون وفي الفراش، قبل النوم، وعند النوم، وتحت الدوش، حينما أتخيل بأنني لن أسمع عروة الباب وهي تُفتح، ألا أسمع نداءه...
عندما قرأت في الجريدة بعد ثلاثة أيام خبر موت أحدهم في نهر التيمز، لم أفكر بأنه كان المعني طبعاً، كنت طوال ذلك الوقت مشغولة بالتفكير به، أحاول الاتصال به، حتى أنني سمعت ثلاث أوأربع مرات صوته المسجل على آلة الجواب الأوتوماتيكي. لم أكن أعرف، أنه في ذلك الوقت كان ميتاً قبل يومين.



* عن تاتوو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى