إيلان بابيه - لا… إسرائيل ليست ديمقراطية.. ترجمة مروة الناعم

ليست إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. إنها، في الحقيقة، ليست ديمقراطية على الإطلاق.

مقتبس من كتاب: “عشر خرافات عن إسرائيل” الصادر حاليا من دار فيرسو بوكس.

يرى العديد من الإسرائيليين وداعميهم في جميع أنحاء العالم- حتى أولئك الذين قد ينتقدون بعض سياساتها- أن إسرائيل، في نهاية المطاف، دولة ديمقراطية معتدلة تسعى إلى السلام مع جيرانها وتكفل المساواة لجميع مواطنيها.

يفترض أولئك الذين ينتقدون إسرائيل بأنه إذا كان ثمة خطأ في تلك الديمقراطية فإنه يرجع إلى حرب 1967. من هذا المنطلق، فقد أدت الحرب إلى إفساد مجتمع نزيه ودؤوب من خلال توفير أموالا سهلة في الأراضي المحتلة سمحت لجماعات مسيحية بالتدخل في السياسات الإسرائيلية، والأهم من ذلك حولت إسرائيل إلى كيان احتلالي قمعي داخل المناطق الجديدة.

تلك الأسطورة القائلة بأن إسرائيل الديمقراطية قد واجهت مشكلة في عام 1967 ورغم ذلك لا تزال دولة ديمقراطية قد رُوّجَ لها من قبل بعض الباحثين الفلسطينيين البارزين والمؤيدين للفلسطينيين- بينما لا يوجد لها أي أساس تاريخي.

إسرائيل قبل 1967 لم تكن ديمقراطية

قطعا لم يكن من الممكن النظر لإسرائيل باعتبارها ديمقراطية قبل عام 1967. فكما رأينا في فصول سابقة، أخضعت الدولة خُمس مواطنيها للحكم العسكري استنادا إلى قوانين طوارئ انتدابية بريطانية وحشية والتي حرمت الفلسطينيين من أية حقوق إنسانية أو مدنية أساسية.

كان للحكام العسكريين المحليين الحكم المطلق فيما يتعلق بحياة أولئك المواطنين: فكان بإمكانهم إصدار قوانين خاصة لهم وتدمير منازلهم وسبل عيشهم وإرسالهم إلى السجن كلما شعروا برغبة في ذلك. فقط في أواخر خمسينات القرن العشرين ظهرت معارضة يهودية قوية لتلك الانتهاكات والتي أدت في النهاية إلى تخفيف الضغط عن المواطنين الفلسطينيين.

بالنسبة للفلسطينيين الذين عاشوا فترة ما قبل الحرب في إسرائيل، وأولئك الذين عاشوا في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد 1967، سمح هذا النظام لأقل جندي رتبة في جيش الدفاع الإسرائيلي بالتحكم في حياتهم وتدميرها. فلم يكن لديهم حيلة إذا ما قرر مثل ذلك الجندي أو وحدته أو قائده احتجازهم لساعات في نقطة تفتيش أو سجنهم دون محاكمة. لم يكن في مقدورهم شيء يفعلوه.

لم تمر لحظة منذ عام 1948 وحتى اليوم لم تتعرض فيها جماعة ما من الفلسطينيين لمثل هذه التجارب.

كانت أولى المجموعات التي رزحت تحت ذلك النير هي الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل. بدأ الأمر في العامين الأولين من إقامة الدولة الإسرائيلية حينما زج بهم إلى أحياء اليهود، مثلما حدث مع جماعة حيفا الفلسطينية التي سكنت جبل الكرمل، أو عندما تم طردهم من المدن التي سكنوها لعقود مثل الصفد. أما في حالة أسدود، فقد تم طرد جميع السكان إلى قطاع غزة.

تجاوز الوضع في المناطق الريفية إلى ما هو أسوأ من ذلك. حيث تطلعت حركات الكيبوتس، على تنوعها، إلى القرى الفلسطينية الواقعة على الأراضي الخصبة. شمل ذلك حركتا الكيبوتسيم الاشتراكية وهاشومر هازير اللتان ادعتا التضامن مع المشروع ثنائي القومية.

بعد مضي وقت طويل على انتهاء حرب 1948، تم خداع سكان قرى غابسية وإقرط وبيريم وقايدتا والزيتون وآخرين ليتركوا منازلهم لمدة أسبوعين تحت ذريعة احتياج الجيش لأراضيهم بغرض التدريب، فقط ليكتشفوا فور عودتهم بأن قراهم قد طمست أو تم تسليمها لآخرين.

تجلت حالة الإرهاب العسكري هذه في مذبحة كفر قاسم في أكتوبر 1956، عندما قتل الجيش الإسرائيلي تسعة وعشرين مواطنا فلسطينيا عشية عملية سيناء، حيث زعمت السلطات بأنهم قد تأخروا في عودتهم من العمل في الحقول لمنازلهم بينما كان حظر التجوال مفروضا على القرية. إلا أن ذلك لم يكن هو السبب الحقيقي.

كشفت دلائل لاحقة بأن إسرائيل قد دبرت بجدية لطرد الفلسطينيين من المنطقة بأكملها التي سميت بوادي عارا وكذلك المثلث الذي استقرت به القرية. تم ضم هاتين المنطقتين- أولاهما واد يربط مدينة العفولة في الشرق والخضيرة على ساحل المتوسط، والثانية والتي هي امتداد للأراضي الشرقية للقدس- لإسرائيل بموجب اتفاق الهدنة لعام 1949 مع الأردن.

وكما رأينا، فلطالما رحبت إسرائيل بضم أراض إضافية جديدة، بينما لم يكن الأمر كذلك مع ارتفاع عدد السكان الفلسطينيين. وهكذا، ومع كل توسع لإسرائيل في كل مرحلة، كانت تبحث عن طرق جديدة لتضييق الخناق على السكان الفلسطينيين بالأراضي التي تم الاستيلاء عليها حديثا.

كانت العملية “حفارفيرت” أو “الجاسوس” هي الاسم الرمزي لسلسلة من المخططات لتهجير الفلسطينيين عندما اندلعت حرب جديدة مع العالم العربي. يري العديد من الباحثين اليوم أن مذبحة 1956 كانت تدريبا لمعرفة ما إذا كان يمكن ترويع سكان المنطقة ودفعهم للرحيل.

لقد تم تقديم مرتكبي هذه المذبحة إلى المحاكمة بفضل اجتهاد ومثابرة عضوين في الكنيست وهما: طواق طوبي من الحزب الشيوعي، ولطيف دوري من حزب المابام الصهيوني اليساري. ومع ذلك، أفلت القادة المسئولون عن المنطقة والوحدة ذاتها التي قامت بارتكاب الجريمة من العقاب بكل سهولة، فلم يحكم عليهم سوى بغرامات صغيرة فقط. كان هذا دليلا آخر على السماح للجيش بالإفلات بجرائم القتل في الأراضي المحتلة.

لم يقتصر تجلي الوحشية الممنهجة على الأحداث الكبيرة مثل المجازر؛ ذلك أن أسوأ الأعمال الوحشية تتجلى أيضا في الوجود اليومي لنظام الاحتلال.

لا زال الفلسطينيون في إسرائيل لا يتحدثون كثيرا عن تلك الفترة ما قبل عام 1967، كما لا تكشف الوثائق التي تخص تلك الفترة عن الصورة كاملة. والمثير للدهشة أن نجد في الشعر توضيحا لما كانت عليه الحياة في ظل الحكم العسكري.

كان ناتان ألترمان واحدا من أكثر الشعراء أهمية وشهرة في جيله. فكان له عمود أسبوعي باسم “العمود السابع” حيث كان يعلق على الأحداث التي قرأها أو سمع عنها. كان ناتان يحذف في بعض الأحيان التفاصيل عن تاريخ أو حتى موقع الحدث، إلا أنه كان يعطي القارئ معلومات كافية تماما لفهم ما كان يشير إليه. وكثيرا ما كان يعبر عن هجومه بأسلوب شعري:

ظهرت الأخبار مختصرة ليومين وانقضت. لا يبدو أن اكترث أحدهم،

ولا يبدو أن أحدا يعلم بالأمر..

في قرية أم الفاهم البعيدة،

أطفال لعبوا في الوحل

– أيجب أن أقول مواطني الدولة! –

بدا أحدهم مريبا لواحد من جنودنا البواسل الذي صرخ به: توقف!

الأمر أمر

الأمر أمر، ولكن الصبي أحمق، لم يتوقف وهرب..

ومن ثم، ولا عجب، أطلق جندينا الباسل الرصاص، وضرب، وقتل الصبي

ولم يتحدث أحد عن الأمر.

كتب ناتان في إحدى المناسبات قصيدة عن اثنين من المواطنين الفلسطينيين رُمِيا بالرصاص في وادي عارا. وفي واقعة أخرى، روى قصة لامرأة فلسطينية شديدة المرض تم طردها وطفليها ذوي الثلاث والست سنوات، دون أي تفسير، عبر نهر الأردن. وعندما حاولت العودة، تم اعتقالها وأطفالها ووضعهم في سجن الناصرة.

أَمِل ألترمان أن تمس قصيدته عن الأم القلوب والأذهان، أو تستدعي، على أقل تقدير، بعض ردود الفعل الرسمية. ومع ذلك، كتب بعد أسبوع:

أما هذا الكاتب، فقد أخطأ الظن

أن تُنفَي القصة أو تُفَسّر، ولكن لا شيء، ولا كلمة واحدة.

هناك دليل آخر بأن إسرائيل لم تكن ديمقراطية قبل عام 1967. اتبعت الدولة سياسة تبادل إطلاق النار مع اللاجئين الذين يحاولون استرداد أراضيهم ومحاصيلهم وماشيتهم، وشنت حربا استعمارية للإطاحة بنظام عبد الناصر في مصر. كما كانت قواتها الأمنية تستمتع بإطلاق النار فقتلوا أكثر من خمسين مواطنا فلسطينيا خلال الفترة ما بين عامي 1948 و1967.

إخضاع الأقليات في إسرائيل ليس ديمقراطيا

إن معيار اختبار أي ديمقراطية يكمن في مستوى التسامح الذي تبسطه طوعا تجاه الأقليات التي تعيش في ظلها. وفي هذا الصدد، تبعد إسرائيل كل البعد عن الديمقراطية الحقيقية.

فعلى سبيل المثال، عقب المكاسب الإقليمية الجديدة، صدر العديد من القوانين التي تكفل للأغلبية وضعا متفوقا، مثل القوانين التي تحكم المواطنة، والقوانين المتعلقة بملكية الأراضي، والأهم من ذلك كله، قانون العودة.

يمنح هذا الأخير حق المواطنة تلقائيا لكل يهودي في العالم أينما كان/ت نشأته/ا. يعد هذا القانون على وجه التحديد غير ديمقراطي على نحو صارخ، حيث كان مصحوبا برفض تام للحق الفلسطيني في العودة- والمعترف به دوليا بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948، بل ولم يُسمح للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل أو أولئك الذين طردوا عام 1948بالاتصال المباشر بأسرهم.

إن إنكار حق المواطنين في العودة لديارهم، في الوقت الذي يُمنح فيه هذا الحق لآخرين لا يمتون بصلة لتلك الأرض، هو نموذج للممارسة غير الديمقراطية.

مضافا إلى كل ما سبق كان ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من مختلف الانتهاكات لحقوقه. غالبا ما يتم تفسير كل تمييز تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين بكونهم لا يخدمون بالجيش. يمكن فهم العلاقة بين الحقوق الديمقراطية والواجبات العسكرية بشكل أفضل إذا ما أعدنا النظر في سنوات التأسيس التي حاول فيها صانعو القرار السياسي بإسرائيل اتخاذ القرار بشأن كيفية معاملة خُمس السكان.

كان افتراضهم أنه لم تكن لدي المواطنين الفلسطينيين الرغبة في الالتحاق بالجيش على أية حال، وإن هذا الرفض الافتراضي يبرر بدوره سياسة التمييز ضدهم. تعرض ذلك الوضع للاختبار في عام 1954 عندما قررت وزارة الدفاع الإسرائيلية استدعاء هؤلاء المواطنين الفلسطينيين المؤهلين للتجنيد للخدمة بالجيش. وأكدت إدارة المخابرات السرية للحكومة بأن الاستدعاء سيلاقي رفضا واسع النطاق.

ولمفاجئتهم الكبرى، ذهب كل من تم استدعاؤه إلى مكتب التجنيد بمباركة الحزب الشيوعي الذي مثل القوى السياسية الأكبر والأكثر أهمية في المجتمع في ذلك الوقت. وأوضحت إدارة المخابرات السرية في وقت لاحق أن السبب الرئيسي كان شعور المراهقين بالملل من الحياة في الريف ورغبتهم في بعض الحركة والمغامرة.

وعلى الرغم من هذه السردية، استمرت وزارة الدفاع في الترويج لرواية تُصَوِر المجتمع الفلسطيني بأنه غير راغب في الخدمة في الجيش.

كان حتميا وبمرور الوقت أن ينقلب الفلسطينيون فعليا ضد الجيش الإسرائيلي الذي أصبح أداة لقمعهم، إلا أن استغلال الحكومة لهذا الوضع كذريعة للتمييز كان يلقى شكوكا ضخمة حول ادعاء الدولة لديمقراطيتها.

إذا كنت مواطنا فلسطينيا ولم تخدم بالجيش، فإن حقوقك في الدعم الحكومي كعامل أو طالب أو أب أو طرف من زوجين يصبح محدودا علي نحو بالغ، مما يؤثر بشكل خاص على السكن وكذلك فرص العمل- حيث تُعتبر 70% من مجمل الصناعات الإسرائيلية صناعات حساسة أمنيا، ولذلك فأبوابها موصدة أمام من يبحث عن العمل من أولئك المواطنين.

لم يقتصر الافتراض الضمني لوزارة الدفاع فقط على كون الفلسطينيين غير راغبين في أداء الخدمة، ولكن لاحتمال كونهم عدوا داخليا لا يمكن ائتمانه. الأزمة التي تواجه هذا الادعاء هي أن الأقلية الفلسطينية لم تتصرف كما هو متوقع في جميع الحروب الكبرى بين إسرائيل والعالم العربي. فلم يشكلوا طابورا خامسا أو يقوموا بانتفاضة ضد النظام.

إلا أن ذلك لم يساعدهم على أية حال: فحتى يومنا هذا يُنظَر إليهم باعتبارهم مشكلة ديموغرافية لابد من حلها. والعزاء الوحيد هو أنه حتى اليوم، لا يعتقد معظم الساسة الإسرائيليين بأن الطريق إلى حل “الأزمة” هو نقل أو طرد الفلسطينيين (على الأقل ليس خلال وقت السلم).

سياسة الأرض الإسرائيلية ليست ديمقراطية

يصبح ادعاء الديمقراطية أمرا موضع شك أيضا عندما يبحث المرء في سياسة الميزانية المتعلقة بمسألة الأرض. فمنذ عام 1948، حصلت المجالس المحلية والبلديات الفلسطينية على تمويل أقل بكثير من نظرائها اليهود. ومن ثم يؤدي نقص الأراضي المصحوب بندرة فرص العمل إلى خلق واقع اجتماعي-اقتصادي غير سوي.

على سبيل المثال، لا تزال أكثر المجتمعات الفلسطينية ثراءً كقرية معليا في صعيد الجليل أسوأ حالا من أفقر مدينة يهودية في النقب. في عام 2011، ذكرت صحيفة الجيروزاليم بوست أن “متوسط الدخل اليهودي كان أعلى بنسبة أربعين إلى ستين بالمائة من متوسط الدخل العربي ما بين عامي 1997 و 2009”.

يملك الصندوق القومي اليهودي اليوم أكثر من 90 بالمائة من الأراضي. ولا يسمح لأصحاب الأراضي بالدخول في معاملات مع المواطنين من غير اليهود، كما تذهب أولوية استخدام الأراضي العامة للمشروعات القومية، مما يعني بناء مستوطنات يهودية جديدة في الوقت الذي بالكاد توجد فيه أي مستوطنات فلسطينية جديدة. ومن ثم، لم تتوسع الناصرة، أكبر المدن الفلسطينية، على الرغم من تضاعف عدد سكانها منذ عام 1948 كيلومترا مربعا واحدا في حين تضاعف حجم المدن التي بنيت فوقها- صعيد الناصرة- وذلك على الأراضي التي انتزعت من الملاك الفلسطينيين.

يمكن أن نجد العديد من الأمثلة على هذه السياسة في القرى الفلسطينية في جميع أنحاء الجليل، والتي تكشف عن نفس القصة: كيف تم تقليص حجم تلك القرى بنسبة 40%، والتي تصل في بعض الأحيان إلى 60%، منذ عام 1948، وكيف تم بناء المستوطنات اليهودية الجديدة علي الأراضي المحتلة.

وفي أماكن أخرى، ترتب على هذا الأمر محاولات وجهود صارخة نحو “التهويد”. فبعد عام 1967، أصبحت الحكومة الإسرائيلية قلقة بشأن نقص عدد قاطني شمال وجنوب الدولة من اليهود ولذا قررت زيادة عدد السكان في تلك المناطق. مثل ذلك التغيير الديموغرافي استلزم مصادرة الأراضي الفلسطينية لبناء المستوطنات اليهودية.

الأسوأ من ذلك كان استبعاد المواطنين الفلسطينيين من تلك المستوطنات. هذا الانتهاك الفج لحق المواطن في السكن أينما ي/ترغب يستمر إلى يومنا هذا، بينما باءت جميع الجهود التي بذلتها المؤسسات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان في إسرائيل لمناهضة هذا الفصل العنصري حتى الآن بفشل ذريع.

لم تتجاوز المحكمة العليا في إسرائيل مجرد التساؤل بشأن شرعية هذه السياسة في عدد قليل من الحالات الفردية، ولكن ليس من حيث المبدأ. لك أن تتخيل إذا ما تم منع مواطنين يهود أو كاثوليك بموجب القانون في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة من السكن في قري بعينها أو أحياء أو ربما مدن بأكملها؟ ترى كيف يمكن أن يتوافق مثل هذا الموقف مع مفهوم الديمقراطية ؟

الاحتلال ليس من الديمقراطية

وبالتالي، وبالنظر إلى موقفها تجاه مجموعتين فلسطينيتين- اللاجئين والمجتمع في إسرائيل- لا يمكن، مهما جنح الخيال، الافتراض بأن الدولة اليهودية دولة ديمقراطية.

إلا أن أكثر التحديات وضوحا لهذا الافتراض هو الموقف الإسرائيلي عديم الرحمة تجاه مجموعة ثالثة من الفلسطينيين: أولئك الذين عاشوا تحت حكمها المباشر وغير المباشر منذ عام 1967 في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة. بداية من البنية التحتية القانونية التي تم تفعيلها في مستهل الحرب، مرورا بسلطة الجيش المطلقة وغير القابلة للنقاش داخل الضفة الغربية وخارج قطاع غزة، إلى الروتين اليومي من إهانة ملايين الفلسطينيين، كلها تؤكد أن “الديمقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط تتصرف مثل أسوأ أشكال الديكتاتورية.

يبقى الرد الإسرائيلي الرئيسي، الدبلوماسي والأكاديمي، على الاتهامات الأخيرة هو أن هذه الإجراءات جميعها مؤقتة وأنها ستتغير اذا ما تصرف الفلسطينيون، أينما كانوا، على نحو “أفضل”. ولكن إذا ما بحث المرء- ناهيك عن السكن- في الأقاليم المحتلة، سيتفهم مدى سخف وتفاهة تلك الحجج.

كما رأينا، يصر صناع القرار السياسي في إسرائيل على الحفاظ علي استمرارية الاحتلال طالما ظلت الدولة اليهودية بمأمن. انه جزء مما يعتبره النظام الإسرائيلي الوضع الراهن، والذي يظل دائما أفضل من أي تغيير. ستسيطر إسرائيل على معظم فلسطين، وحيث أنها ستشمل دائما سكان فلسطينيين أصليين، فلن يصبح ذلك ممكنا إلا بوسائل غير ديمقراطية.

بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من جميع الأدلة التي تثبت العكس، تدعي دولة إسرائيل بأن ذلك الاحتلال واع ومستنير. والخرافة هنا هي أن إسرائيل جاءت بنوايا حسنة من أجل القيام باحتلال خيّر، إلا أنها دُفِعَت إلى اتخاذ مواقف أكثر صرامة بسبب العنف الفلسطيني.

في عام 1967، تعاملت الحكومة الإسرائيلية مع الضفة الغربية وقطاع غزة كجزء طبيعي من “إيريتس إسرائيل”، أرض إسرائيل، واستمر هذا الموقف منذ ذلك الحين. وعندما تراقب نقاش الأحزاب اليمينية واليسارية في إسرائيل حول هذه القضية، سوف تجد أن خلافهم كان حول كيفية تحقيق ذلك الهدف وليس شرعيته.

بيد أنه كان هناك سجالا حقيقيا بين صفوف الجمهور الأوسع عما يمكن للمرء أن يسميه “المخلّصون” و”الحُماه”. يعتقد ال “مخلّصون” أن إسرائيل قد استعادت قلب أراضيها العتيق والذي لم تكن لتبقي على قيد الحياة في المستقبل بدونه. وعلى النقيض، ذهب ال”حُماه” إلى أنه يجب أن يتم تبادل الأراضي مقابل السلام مع الأردن، في حالة الضفة الغربية، ومع مصر في حالة قطاع غزة. إلا أنه لم يكن لذلك النقاش العام أثر يُذكَر على الطريقة التي كان يستدل بها مسئولو صناعة القرار السياسي على كيفية حكم الأقاليم المحتلة.

كان الجزء الأسوأ من هذا الاحتلال التنويري المفترض هو أساليب الحكومة التي كانت تدير بها الأراضي. ففي البداية، تم تقسيم المنطقة إلى مساحات “عربية” و أخرى “يهودية” محتملة. وأصبحت تلك المناطق المكتظة بالسكان الفلسطينيين مستقلة بذاتها، يديرها متعاونون محليون تحت حكم عسكري. ولم يحل محل هذا النظام سوى إدارة مدنية في عام 1981.

أما المناطق الأخرى، المساحات “اليهودية”، فقد خضعت للاستعمار من قبل المستوطنات اليهودية والقواعد العسكرية. سعت هذه السياسة إلى إبقاء سكان كل من الضفة الغربية وقطاع غزة في جيوب منفصلة بلا مساحات خضراء أو أية إمكانية لتوسع حضري.

ثم ساءت الأمور عندما بدأت حركة غوش إيمونيم، بعد فترة وجيزة من الاحتلال، في الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة مدعية التزامها بخريطة توراتية للاستعمار بدلا عن تلك المطروحة من قبل الحكومة. وبتوغلهم في المناطق المكتظة بالسكان الفلسطينيين، تقلصت المساحة المتبقية للسكان المحليين إلى حد أبعد بكثير.

إن ما يحتاجه كل مشروع استعماري في المقام الأول هو الأرض- لم يتحقق ذلك في الأراضي المحتلة إلا من خلال الاستيلاء واسع النطاق على الأراضي وترحيل المواطنين من الأرض التي عاشوا عليها لأجيال وحصرهم في جيوب ذات طبيعة بيئية قاسية.

إذا ما حلقت فوق الضفة الغربية، يمكنك أن ترى بوضوح النتائج الخرائطية لهذه السياسة: أحزمة من المستوطنات التي تقسم الأرض وتفتت المجتمعات الفلسطينية إلى مجتمعات صغيرة ومعزولة ومفككة. فرقت أحزمة التهويد بين القرى وبعضها وبين القرى والمدن، وفي بعض الأحيان طال التقسيم القرية الواحدة.

هذا ما يطلق عليه الباحثون جغرافيا الكوارث، تحديدا منذ أن تحولت هذه السياسات إلى كارثة بيئية كذلك: وذلك بتجفيف مصادر المياه وتدمير بعض من أجمل أجزاء الطبيعة الفلسطينية.

علاوة على ذلك، أصبحت تلك المستوطنات بؤر استطاع فيها التطرف اليهودي أن ينمو بصورة غير قابلة للسيطرة، وكان الفلسطينيون ضحيتها الأساسية. وهكذا، دمرت مستوطنة أفرات مركز التراث العالمي لوادي الولجة بالقرب من بيت لحم، وقرية الجفنة قرب رام الله، والتي اشتهرت بقنوات مياهها العذبة وفقدت هويتها كموقع جذب سياحي. هذه ليست سوى أمثلة صغيرة بين مئات الحالات المماثلة.

تدمير منازل الفلسطينيين ليس ديمقراطيا

إن دك المنازل ليس بالظاهرة الجديدة في فلسطين. فكما هو الحال مع العديد من أكثر الأساليب وحشية للتنكيل الجماعي الذي مارسته إسرائيل منذ عام 1948، تم ابتكار هذا الأسلوب وممارسته في البداية من قبل الحكومة البريطانية المنتدبة خلال الثورة العربية الكبرى لعام 1936-39.

كانت هذه هي الانتفاضة الأولي ضد سياسة الانتداب البريطاني المؤيد للصهيونية، وقد استغرق الأمر ثلاث سنوات حتى تمكن الجيش البريطاني من قمعها. وخلال هذه العملية، قاموا بهدم ما يقرب من ألفي منزل من ضمن العقوبات الجماعية المتنوعة التي وزعت على السكان المحليين.

قامت إسرائيل بهدم المنازل منذ اليوم الأول تقريبا من احتلالها العسكري للضفة الغربية وقطاع غزة. ونسف الجيش مئات المنازل كل عام ردا على أعمال مختلفة قام بها أحد أفراد الأسرة.

وبين خروقات بسيطة للحكم العسكري إلى المشاركة في أعمال العنف ضد الاحتلال، كان الإسرائيليون سريعين في إرسال جرافاتهم، ليس فقط لمحو البنايات المادية بل أيضا مراكز الحياة والوجود. وفي منطقة القدس الكبرى (الموجودة بداخل إسرائيل) كان الهدم أيضا عقابا على التوسع غير المرخص للمنازل القائمة أو الإخفاق في دفع الفواتير.

ومن أشكال العقوبات الجماعية الأخرى التي عادت مؤخرا إلى مخزون الممارسات الإسرائيلية المألوفة كان سد منافذ المنازل. تخيل أن يتم سد جميع الأبواب والنوافذ في منزلك بالأسمنت والملاط والحجارة حتى لا تستطيع العودة أو استعادة أي شيء قد أخفقت في إخراجه في الوقت المناسب! لقد بحثت بإمعان في كتب التاريخ الخاصة بي بحثا عن مثال شبيه، لكني لم أجد أي دليل لممارسة مثل ذلك الإجراء القاسي في أي مكان آخر.

سحق المقاومة الفلسطينية ليس ديمقراطيا

وأخيرا، و في ظل “الاحتلال المستنير”، سُمِحَ للمستوطنين بتشكيل عصابات حراسة لمضايقة المواطنين وتدمير ممتلكاتهم. غيرت تلك العصابات نهجها فيما بعد على مر السنين.

وفي غضون الثمانينات، استخدموا الإرهاب الفعلي- من استهداف القيادات الفلسطينية (حيث فقد أحدهم ساقيه في هجوم من هذا القبيل)، إلى اعتزام تفجير المساجد في الحرم الشريف في القدس.

وفي هذا القرن، عكفوا على ممارسة المضايقات اليومية للفلسطينيين: مثل اقتلاع أشجارهم وتدمير محاصيلهم وإطلاق النار عشوائيا على منازلهم ومركباتهم. منذ عام 2000، كان هناك على الأقل مئة هجمة من هذا القبيل يتم الإبلاغ عنها شهريا في مناطق مثل الخليل، حيث قام خمسمائة مستوطن بالتعاون غير المعلن مع الجيش الإسرائيلي بالتعدي على السكان المحليين الذين يعيشون في الجوار بطريقة شديدة الوحشية.

منذ البدايات الأولى للاحتلال في ذلك الحين، مُنِحَ الفلسطينيون خيارين: قبول واقع الحصار الدائم في سجن ضخم لفترة طويلة الأمد أو المخاطرة ببأس أقوي جيش في الشرق الأوسط. وعندما قاوم الفلسطينيون- كما فعلوا في عام 1987 و2000 و2006 و2012 و2014 و2016- تم استهدافهم كجنود ووحدات لجيش نظامي. وبذلك، تم نسف القرى والمدن باعتبارها قواعد عسكرية، وأُطلِق النار على السكان المدنيين العزل كما لو كانوا جيشا على أرض المعركة.

اليوم أصبحنا نعلم الكثير عن الحياة في ظل الاحتلال، قبل اتفاقية أوسلو وبعدها، لنأخذ على محمل الجد الادعاء بأن عدم المقاومة سيكفل قدرا أقل من الاضطهاد. الاعتقالات دون محاكمة التي تعرض لها الكثيرون على مدى الأعوام ودك آلاف المنازل؛ وقتل وجرح الأبرياء؛ وتجفيف آبار المياه- هذه كلها شهادات على واحد من أكثر الأنظمة المعاصرة قسوة في عهدنا هذا.

سنويا تقوم منظمة العفو الدولية بتوثيق شامل لطبيعة الاحتلال. وفيما يلي جزء من تقريرها لعام 2015:

“في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، ارتكبت القوات الإسرائيلية عمليات قتل غير قانونية للمدنيين الفلسطينيين بما فيهم الأطفال، وقامت باحتجاز آلاف الفلسطينيين الذين احتجوا أو عارضوا على نحو ما استمرار الاحتلال العسكري الإسرائيلي وذلك باعتقال المئات في حجز إداري. ظل التعذيب وغيره من المعاملات غير الآدمية سائدا ويتم ارتكابه دون عقاب.

واصلت السلطات تعزيز المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وقيدت على نحو بالغ حرية الفلسطينيين في الحركة، علاوة على تشديد القيود في وسط تصعيد للعنف منذ أكتوبر والذي تضمن هجمات على المدنيين الإسرائيليين من قبل الفلسطينيين وكذلك عمليات إعدام خارج القانون على نحو جلي من جانب القوات الإسرائيلية. هاجم المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية الفلسطينيين وممتلكاتهم متمتعين بإفلات مؤكد من العقاب. وظل قطاع غزة تحت الحصار العسكري الإسرائيلي الذي فرض عقوبات جماعية على سكانه. وواصلت السلطات هدم منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل إسرائيل ولاسيما في القرى البدوية في منطقة النجف/النقب، طاردين أهلها بالقوة.”

دعونا نأخذ هذا الأمر على مراحل. أولا، الاغتيالات- والتي يضعها تقرير منظمة العفو الدولية تحت مسمي “القتل غير القانوني”: قتلت إسرائيل نحو خمسة عشر ألف فلسطينيا “خارج القانون” منذ عام 1967. من بينهم ألفا طفل.

سجن الفلسطينيين دون محاكمة ليس ديمقراطيا

سمة أخرى من سمات “الاحتلال التنويري” هي السجن دون محاكمة. فواحد من كل خمسة فلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قد مر بمثل هذه التجربة.

من المثير للاهتمام مقارنة تلك الممارسات الإسرائيلية بسياسات أمريكية مشابهة في الماضي والحاضر، حيث يدعي منتقدو حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) بأن ممارسات الولايات المتحدة أسوأ بكثير. في الواقع، إن أسوأ النماذج الأمريكية كان السجن دون محاكمة لمائة ألف مواطن ياباني خلال الحرب العالمية الثانية أعقبهم ثلاثون ألفا تحت دعوى ما يسمى “الحرب على الإرهاب”.

لا يقترب هذان الرقمين مجرد اقتراب من عدد الفلسطينيين الذين عانوا من مثل هذه الممارسات: بما فيهم صغار السن والعجائز فضلا عن السجناء لفترات طويلة.

الاحتجاز دون محاكمة هو تجربة مؤلمة. فبدون معرفة التهم الموجهة إليك وبلا أي اتصال بمحام، وبالكاد أي اتصال مع عائلتك ليست سوى بعض المخاوف التي ستؤثر عليك كسجين. والأمر الأكثر وحشية هو أن العديد من هذه الاعتقالات تتم كوسيلة للضغط على المواطنين ودفعهم للتعاون. كما كان يتم استخدام نشر الشائعات ووصم المواطنين لتوجهاتهم الجنسية المزعومة أو الحقيقية مرارا وتكرارا كوسائل استغلال لإجبارهم على التعاون.

أما فيما يتعلق بالتعذيب، فقد نشر موقع ميدل إيست مونيتور الموثوق به مقالا مروعا يصف فيه الأساليب المائتين التي استخدمها الإسرائيليون لتعذيب الفلسطينيين. تستند القائمة إلى تقرير للأمم المتحدة وتقرير من منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية، بيت سالم (B’Tselem). ومن بين الوسائل الأخرى اشتمل التعذيب على الضرب وتقييد السجناء بالسلاسل في الأبواب أو المقاعد لساعات وسكب الماء البارد والساخن عليهم وشد أطراف الأصابع ولي الخصي.

إسرائيل ليست ديمقراطية

ومن ثم، فإن ما يجب علينا أن نقاومه هنا ليس ادعاء إسرائيل بلان احتلالها هو احتلال مستنير فحسب، وإنما أيضا ادعائها الديمقراطية. إن هذا السلوك نحو الملايين من المواطنين تحت حكمها يكشف أكذوبة تلك السفسطة السياسية.

على الرغم من إنكار قطاعات كبيرة من المجتمعات المدنية في جميع أنحاء العالم ادعاء إسرائيل بالديمقراطية، لا تزال نخبها السياسية، ولأسباب مختلفة، تتعامل معها كأحد أعضاء نادي الصفوة من الدول الديمقراطية. كما تعكس شعبية حركة بي دي إس (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS) خيبة أمل تلك المجتمعات بسبب سياسات حكوماتها تجاه إسرائيل.

يرى معظم الإسرائيليين أن هذه الحجج المضادة غير ذات قيمة في أحسن الأحوال، وخبيثة في أسوأها. تتمسك دولة إسرائيل بفكرة أنها محتل خيّر. تفترض دعوى ” الاحتلال المستنير” بأنه بحسب المواطن الإسرائيلي العادي، فإن الفلسطينيين أفضل حالا في ظل الاحتلال وأن ليس لديهم أي سبب على الإطلاق لمقاومته، ناهيك عن مقاومته بالقوة. فإذا كنت مؤيدا غير نقدي لإسرائيل في الخارج، فسوف تتقبل أنت أيضا هذه المزاعم.

مع ذلك، هناك قطاعات من المجتمع الإسرائيلي تعترف بشرعية بعض ما نطرحه هنا. ففي التسعينات، وبقناعات متفاوتة الدرجات، أعرب عدد كبير من الأكاديميين والصحفيين والفنانين اليهود عن شكوكهم بشأن تعريف إسرائيل كدولة ديمقراطية.

ويحتاج الأمر إلى بعض الشجاعة لتحدي الأساطير التأسيسية لمجتمعك ودولتك. وهذا هو السبب في تراجع عدد لا بأس به منهم في وقت لاحق عن هذا الموقف الحماسي ليعودوا أدراجهم منصاعين نحو حذو التوجه العام.

رغم ذلك، ولفترة من الزمن خلال العقد الأخير من القرن الماضي، أنتج بعضهم أعمالا تحدت ذلك الادعاء بديمقراطية إسرائيل. وقاموا بتصوير إسرائيل على أنها تنتمي لمجتمع آخر مختلف، ذلك الذي يخص الدول غير الديمقراطية.

وصف أحدهم، الجغرافي أورين يفتاشيل من جامعة بن غوريون، إسرائيل بأنها إثنوقراطية؛ وهو نظام يحكم دولة ذات أعراق مختلطة بانحياز قانوني ورسمي لمجموعة إثنية واحدة دونا عن شتى المجموعات الأخرى. وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، مصنفين إسرائيل كدولة فصل عنصري أو كدولة استيطان استعمارية.

باختصار، أيا كان التوصيف الذي قدمه هؤلاء الباحثين، فهو لا يتضمن “الديمقراطية”.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى