جار النبى الحلو - قمع الهوى.. قصة قصيرة

تكتمنا الفرح، وتظاهرنا بالبكاء، بينما تحفر لي بمسمار عشقها عنوانا لا أعرفه، خرجن من أزقتها بملابسهن السواداء، وبكين، ولطمن الوجوه على ما حدث وما سيحدث، يبكين الذين راحوا والذين في طريقهم للرواح. وانطلقنا إلى سراب من الأغنيات بعد أن خلعت الحذاء وقررت أن تفرح بلا توقف وظلت تقفز بين صور لأطفال لم تلدهم ورجال ينتظرون لحظة نهشها وتلاشت بين أشلاء لم يتحدث عنها سوى تاريخ كئيب، حتى وجدتني وحيداً إلا من صحراء بلا ناقة تزين رسمها، واشتعل النخيل بالمشيب وتحول إلى هشاشة، فخرج لي دون أن أدعك مصباحه السحري ولف حولي وسألني الأمنية الأخير، فقطفت كل الزهور وشممت العطور تفحصت العيون وتنصت للهمسات فقلت لم أجد زهرتي، لعلها هناك مرشوقة في القلب الذي يئن من وهج العينين.
مددت يدي لذات الأطراف البديعة: خذيني إلى حيث التماثيل التي تتدفق فيها الحياة من لمسة اليدين المرتعشتين، ومن هذا الحريق الذي يشب في القلب، وبين أنهر ثلاثة، يشتعل. وكن هناك يرقبن من بعيد الذي لم أره. كانوا جميعا في البحر تجمعوا ليفرقوا ما بيننا. وقف القرصان ولوح بعلمه، فجريت من برودتي لدفء صدرها طبطبت عليّ لتهدأ الروح وقدمت القهوة واللبن وأنة الروح والعينين المسبلتين على جراح. فهدأت ولم أستمع نبض القلب من الصدر الذي أحتوى رأسي، ورأيتني طفلا تفسحه في السيارة، وتطعمه الحلوى وتسقيه الدفء في عز الشتاء، وتداري عليه برموشها، فأرى العالم لوحه تشتهي الألوان، يشتعل ناراً ليفرح الآخرون ويشعلون المشاعل ويرقصون الديسكو، بينما الصوت يترنم بأغنية عن الليل والعين والقلب والموت. ركعت على ركبتي أمام الصندوق أبحث عن شريط أغنيتي المفضلة ولم أجده. خبطت على الأرض والحيطان فانفجرت كل الخطب القديمة والأغنيات تناثرت فوق رأسي. فدندنت هي بالأغنية التفت فوجدتها جلست القرفصاء تدندن وقد احتضنت ابنتي الباكية، ونهضنا يخذ لنا الضعف حين أطل علينا من الشباك بلباسه الأسود وعينه الواحدة فجريت منها إليها، وأخذتني إلى المنتهى وقالت هنا السرير.. وهنا المذياع.. وهنا الولد والبنت في عناق مرسومين على التراب، بينما الثور يشده النقش إلى الحائط فلا يطير ولا استعمل رجله الخامسة، وحين دخل الليل دخلت الهوام. قلت أبعدي عن الهوام؛ فخلعت ملابسها وتمددت تحت الجسد، واختفت إلا من شعرة ناعمة طويلة التفت حول أصبع قدمي الكبير، هلعت، جريت، دست على الولد والبنت. الولد صبي صغير يلبس قميصاً أبيض بنصف كم وبنطلونا قصيراً وصندلا بنيا. له عينان ممسكتان بحلم أكيد، والصبي في جيبه قرش صاغ عليه صورة أخناتون، ومنديل أبيض في طرفه تطريز بالأحمر لاسم مجهول، ويتدلى من بنطلونه ميدالية صغيرة عليها صورة أبيه الذي ألف عشرات الكتب، والبنت بفستانها ذي اللون البنفسجي وعلى صدرها تتدلى سلسلة فضية بها صورة كاتب ونسر، وكانت حافية القدمين. وحين التفت الشعرة فوق أصبع قدمي وفزعت وجريت ودست على الولد والبنت ظل الخوف يدفعني في ظهري فأكاد أنكفئ يدفعني حتى البحر، والبحر يتمدد في حمى ويهمس لكل الجزر بأن يرحل الشجر لأن الماء يغلي، وأنا لا أملك سفينة ولا عوامة، ففكرت في الطائرة.
أربعون عاماً أحاول صنع الطائرة. اعتزلت فوق السطح وقاطعت أرسين لوبين ومذكرات أيفا ورحلة الدكتوراه، تكورت في قش الأرز أفكر في الطائرة، جمعت كل ما أحتاجه خلسه الخيط، والورق الأزرق والأحمر والأخضر، والهلال والنجمة والورق المفضض، والريح والميزان والذيل الذي سيرقص بالآف القصاصات، واحتفظت بسري أربعين عاماً وحينما أتممتها وأهديتها لريح وزرقة السماء سقطت في ترعة بها السمك والصياد والعيال الفقراء ويعومون بفرح عناق البلهارسيا الأبدي. ثم جلست أربعين سنة أخرى وأعدت تكوينها غيرت أوراقها وثبت بها عينا زرقاء، وأهديتها للريح وزرقة السماء فوقعت فوق حقل به أذرة ناشفة وأم وأب وفلاحون فقراء يلعبون مع دودة القطن لعبة الانتحار والملابس الإنجليزية. وأربعون أخرى رسمت فوقها وجهي بدم أعرفه، وأهديتها للريح نعم ولزرقة السماء فحطت في البيوت الفقيرة حيث الأم المسكينة والأب المسكين والعيل الذي يغني مع كوب الشاي. وقلت يا طائرتي هل يوجد من هو أبرع مني؟ يا طائرتي هل حلمي يحققه غيري؟ يا طائرتي يا طائرتي أغيري على الأعداء واقتليهم حيث هم ليسوا في ديارهم. يا طائرتي يا طائرتي أعيدي لي رايتي والشاب الذي اسمه غسان الذي قتلوه مع لميس.. غنى يا طائرتي "دع قناتي فمياهي مغرقه" والقلب حطت فيه الصاعقة وردت لي طائرتي مجرحة. ولم أبك، فحط في جسدي المرض، وصرت ولدا ممرورا، وفي ركني جلست أربعين سنة أخرى، حتى أكتملت وطارت. أخذت زخرفها وطارت، أخذت بهجتها وطارت. أخذت حلمها وطارت، أخذت قلبي وطارت وحطت فوق الأملس الذي تلقاها بدفئه وليونته من البطن حتى العنق، أرتاحت الطائرة وتحولت إلى جسد، غامر هناك في الغابات الحجرية وبالمسمار نقشنا اسمينا وتواريخ ميلادنا، وتركنا على الجسور آثار حياتنا معا لتأخذها الجسور عندما تتناثر معها بلا عودة سوى ذكرى لشعر محمر وبسمة تشعر غدر اللحظة، ودفء عبثا حاول أن يغمر الكون.
وضحك الملك الأريب وسألني هل تستطيع البناء؟ فأنا الحالم بنيت بيتاً لطيفاً صغيراً من أخشاب وأشجار خضراء به شباك يطل على بحر أزرق وتطلع منه البنية عريانة تشتهيها حتى النساء، تبثني بهجة الحياة والبهاء المفتقد، ثم تنشد وهي تنشف شعرها بورقة كبيرة من البردي بصوت يغطي العالم بسحر أخاذ. أحببتها حتى الموت، أهديت لها مفتاح الحياة فوهبتني الحياة، وركضت في البحر. ومن الشباك امتلكت العالم والبنت وكرة أرضية فوقها كرة من نار، فقهقه الملك الأريب ورفس برجله البيت فمال، وجاءت الموجة أخت الشيطان فأخذته على جوف بحرها الأسود. وسألني هل تستطيع البناء؟ فأنا الواقعي بنيت بيتاً من طين وسوقاً للماشية وكفا بلون أحمر وفرناً للخبيز رائحة القرى مدخنة، فعطس وعطس وقال أف، ورفس برجله البيت والسوق والفرن.
مسحت أمي دموعي ودفعتني بخفه للتي أفسحت لي صدرها، وقالت أجلس في ركن صدري وأحلم بقلعة وبرج، قلعة بسبعة أبواب وسبع رايات، وبحجرات تسكنها تلك الرائحة العطرة وتلك الروح العنيدة وفي البرج أنا أحمى حماك لا يخدعني الموج ولا السحب اهتدى بالشمس والقمر والعينين، وكان أن ضحك الأريب وقال لن نغتالك في وضح النهار ولن نقبض عليك في الليل البهيم، ولن نتهمك بما ليس فيك، فقط إرحل سافر.. غادر، وسيكون بينكما البحر قلت والسماء والأعداء والأشلاء. فرشقوا البحر بأعمدة من نار، والتي وهيتني هدأة السلام وحلاوة الحروف وعطر الحياة غابت عنى، فقهقه، وتفحصني بعين واحدة، ورفع بأصبعيه علامة الانتصار، بينما طائرتي تطير إلى حيث بنت تتفجر شظايا وحبا خلف شجرة من صبار.

جار النبى الحلو
أعلى