زهرة عز - كابوس منتصف الليل.. قصة قصيرة

دقت الساعة منتصف الليل. سقطت منها دمعة وقطرات دم، لملمت جراحها، وحمالة نهديها على أسفل الدرج، وانطلقت تعدو في أزقة المدينة النائمة إلا من وجعها. كان ظلها يتبعها ناكساً رأسه، مثخناً بالجروح. ابتسم القمر حزينا في صدر السماء، وأشار لها أن تسند ظلها المعطوب. خففت من سرعة جريها، تباطأت خطواتها، توقفت، حتى لحق بها الظل يزحف على أنفه.

كان ظلها إلى ما قبل منتصف الليل أطول، يمشي شامخا، يزهو بعذريته ليل نهار، وبعد أن تسلل السيف إلى مخدعها وأراق دمها، انكمش على نفسه، رغم حرارة أنفاسها. تقلَّصت كل الحظوظ في أن يتمدد ويلمس عنان السماء..

توحّد زفير مريم ونحيبها، وهي تعانق ظلها بألم وتغادر ساحة معركة كانت فيها خاسرة. لم تستسلم للغاشي بل قاومت حتى دكّت آخر حصونها، وأريق دمها المغدور.

في ركن منزو من المحطة، تكوّرت وأغلقت على نفسها بصمت من إسمنت، مثل قنفذ عجوز خسر كل أسلحته في معركة الحياة. تساقطت أشواكه ومخالبه وهو يواجه وحوش الغابة. شعرت أنها أُفْرِغت من محتواها مثل بالون كان مزهوا بأجنحته، ولونه القاني أصبح شفافا مثل غشاء بكارتها التي كانت، وأصبحت في خبر كان.

تسارعت أنفاسها متناغمة مع دقات قلبها، وهي تسترجع شريط ليلتها. أغمضت عينيها، ربما كابوس ليس إلا، سرعان ما تصحو منه. مدّت يدها مغمضة العينين، تتحسس دفء فراشها، لتستعيد روحها، وظلها. لسعتها برودة المكان، فتحت عينيها، وتأكدت أنها لم تكن تحلم، بل تعيش كابوساً حقيقياً.

اقترب منها كهل يمشي متبخترا. جلس بجانبها بهدوء، ناولها منديلا لتمسح آثار المعركة، دموع ومخاط امتزجا بمرارة. كانت ترتجف من برودة الليل ومصابها. فتح حقيبة السفر، أخرج كنزة صوفية وناولها إياها. كان شكلها صادما، بشعرها المنفوش وصدرها البارز الذي ضيَّع حماّلته. يبدو وكأنها استفاقت من لقاء ساخن حميمي، أفقدها رشدها، ربما كانت قبلة أو صفعة خرمت جسدها النحيف، وسنين عمرها الخمس عشرة.

ازدادت انكماشا على نفسها وابتعدت عن الكهل إلى أقصى زاوية من ركنها البارد. على كرسي المحطة، ابتسم لها الغريب بحنان، وقدّم لها شوكولاتة لم تُسِلْ لعابها، لكنها لم تمانع قارورة ماء معدني. كانت نار السيف المسموم الذي اخترقها ما تزال مشتعلة بجوفها. تجرعت الماء إلى آخر قطرة، وأحست بخيبة أمل وهي ترى اللهيب قد ازداد اشتعالا، حتى نفثت من أنفها دخانا ورمادا، ولم تنتبه للكهل الذي يتابعها بفضول وتفحص، جمعت رماد لهيبها، وضعته وسط كفّها، أطبقت عليه بقوة. قرأت تعويذة كانت قد سمعتها يوما من عرافة عجوز بجامع ألفنا، وحفظتها عن ظهر قلب، ثم نثرت حفنتها، تطايرت ذرات الرماد، ولأول مرة بعد ساعات من العذاب والألم، ابتسمت مريم ابتسامة باهتة وهي ترى ذراتها تمتطي الريح لتلحق بوحشها. تسد منافذ تنفسه وتجرعه الموت القاسي.

كان الغريب ما يزال يتابع كل حركات مريم بصبرٍ وتأنٍّ، بل زادت ابتسامته اتساعا وإشراقا وهو يراها تهمهم بكلمات مبهمة، وتقوم بحركات مجنونة. تأكد له أنها فاقدة للأهلية والعقل. مدّد رجليه باطمئنان وحبور

لبست كنزته، بل دٓسّت رأسها في ثنايا خيوطها تستجمع رائحة غريبة تُذهب الرائحة التي ما تزال عالقة بخاصرتها ومسامها. رائحة طيبة لحبيب. كانت هي قبل منتصف الليل، ثم أصبحت نتنة مع بدء المعركة ودقات طبول الحرب. تشعر بأنها أصبحت نتنة أيضا، بل جيفة هجرتها روحها. وقفت بعيدا تتفرج على خيبتها. فتحت ذراعيها لها، تغريها برائحة جديدة، لكنها رفضت حضنها، لطالما حذرتها من الثقة بالغرباء، فغالبا ما تكون رائحتهم كريهة كما هي نواياهم.

ربماّ ما وقع لها الليلة قد غيّر قناعاتها. تحسّست آثار أسنان على ثدييها. مرّرت يدها على وجهها لتمسح مجرى لُعابٍ دنّس نضارتها. انتبهت للكهل الغريب يحكي لها حياته. رجع من سفر بعيد. كان يحارب بالجبهة، عسكري على الحدود. غادر المدينة الكبرى منذ سنين. يعيش وحيدا. أنهى خدمته هناك دون أن يطلق رصاصة واحدة تصيب من العدو مقتلا، ونسي أن يخبرها بأنه يخطط لفتح جبهة حقيقية عليها، يقذف من رشاشه ما طاب له من رصاص.

سيأخذها معه، تستحم وتنام، ثم تروي له حكايتها وبإذن الله يجد لها حلا. أمسك بيدها، وقفت، التفتت لظلها وروحها هناك بالزاوية، يسندان بعضهما حتى لا يُسْمَع دَوِيُّ سقطتهما. تبعته باستكانة، شُلّ تفكيرها. كان الكهل طويل القامة، محدب الظهر قليلا. يلبس بنطلونا من الثوب العسكري، ومعطفا أسود، وبقدميه حذاء مدبب كبير، مثلث الفم، تعودّ أن يحشر به الصراصير هناك في زاوية غرفته حيت كان، قبل أن يدعسها متلذذا بصوت انفجار أمعائها..

كان الكهل يقود مريم إلى المجهول حينما برقت السماء ورمت بشهبها ورياحها علّها تخلِّص مريم من قبضته. انهمر عليهما مطر أغرق قدميه في بحر حذائه، ولم يغسل ندوب مريم ووجعها. كانت مبتلّة، وملابسها قد التصقت بها. سال لعاب الكهل وهو يرمقها بشهوة، ويسترجع ذكرى ليلته هناك بمخدعه، مع صبي غرِّر به، وأقفل عليه بزنزانته طيلة ثلاثة أيام. تلذذ فيها باستباحة جسده البريء، لن يعتقها، قال في نفسه. سيحتفظ بها حتى يملّ. ابتسم ابتسامة صفراء شرهة، وهو يتخيل كل أوضاع مضاجعته لها، هي بمشكلة كبيرة، أكيد لن تشتكي منه. سيهدّدها قبل أن يطلق سراحها. فكر بارتياح.

أوقف سيارة أجرة. اتفق مع سائقها على الثمن، فهمت مريم أن بيته بأقصى المدينة بعيدا جدا عن مكان ألمها، وقبل أن تستردّ عقلها، قذف بحقيبته وبها إلى داخل السيارة وجلس ملاصقا لها، وهو يلهث كالكلب من الجوع والعطش،

التفتت مريم. نظرت من وراء نافذة السيارة، ورأت روحها وظلها، يتبعانها ودموعهما تمتزج بدموع السماء، وتروي الأرض العطشى إلا قلبها ظل قاحلا أصمّ.

وضع الكهل حقيبة يده على الأرض، وأدخل مفتاحا صدئا بباب البيت العتيق المهجور، وهو يمسك بإحكام بيده اليسرى يد مريم الباردة. أحس بقشعريرة تسري في جسمه من ملمس مريم والباب. ها هو قاب قوسين أو أدنى من تجسيد تخيلاته المريضة. قد يربط يديها ورجليها بالسرير وينزع ثيابها بسكينه الصغيرة، ثم يلعق جراحها، وكلما اقتربت جراحها من الالتئام سيعاود فتحها بأسنانه، ويتلذذ بجسدها البضّ!

خلف باب شقته الحقيرة من غرفتين، بسطح البيت، كان ظلها وروحها يحاولان شدّها ومنعها من الدخول، لم تعرهما مريم انتباها. دخلت الدار مدفونة الرأس، متجمدة العينين.

ما إن خطت قدماها الدار وأغلق الباب، حتى رمى الكهل بقناعه على الجدار المشقوق. علّق ابتسامته بمسمار ناتئ صدئ. رمى بحقيبته بعيدا حتى لا تعيق حركاته تم أسقط مريم على حصيرة خشنة، وهو ينزع ثيابها بعنف، فكّ حزامه. نظرت إليه مرعوبة وهي تسترجع ذكرى ليلتها قبل منتصف الليل. أجفلت، حتى تحجرت دمعتان في مقلتيها. انتفضت من تحته وهي تئن وجعا من ثقله. أخرستها نظراته الباردة، لم تكن تعرف ما الذي كان أقسى عليها، أهي الحشرات التي سكنت الحصير وتمتص دمها بنهم ؟؟ أم سكين الكهل اللحمية التي أصابتها في نحرها، ونزل بها تقطيعا وتقتيلا؟

كانت لحيته القنفذية تخترق وجهها، وأنفاسه أنتن من الحصير الذي لم ير الشمس منذ سنين. أغمضت عينيها الداميتين، ثم فتحتهما على بقايا ملابس ممزقة متناثرة هنا وهناك. توقف الوحش للحظات. أخرج من جيب بنطلونه حبة زرقاء بلعها بريقه المقزز. نهق نهيقا جفل له قلبها، ثم رجّ رأسها بالأرض حتى التصقت شفتاها بالحصير، وارتمى عليها بكل ثقله وهو يعض عنقها ويشدها من شعرها، وبعد أن أنهى جولته، سحبها من بقايا جثتها إلى غرفة مظلمة. قذف بها فوق سرير متهرئ. قيّد رجليها ويديها. أخرج سكينه الصغيرة، وبدأ لعبته الدموية.

كانت تئن في صمت تكاد عيناها تخرجان من مقلتيهما كلّما غرس سكينه في جلدها، ولعق جرحها بلعابه المالح، وكلّما فقدت الوعي، يصفعها بقوة حتى تستعيد رشدها. يريد أن يرى الألم والخوف ينط من مقلتيها. يزداد هيجانا كالثور، وتتضاعف لذته، وعندما ارتاح لاستسلامها وخنوعها، فكّ وثاقها، وجلس إلى جانبها يتلذّذ بفتل جوان مُلغَّم. فكّر في سَبِيّتِه وهو ينفث دخان سيجارته. لم يعد في العمر بقية، سيكتفي بها، وقد يتزوجها إن اشتكت، وتصبح سبيته الحلال. يحرثها أنى شاء. أغمض عينيه على أحلامه المريضة، وهو يتلذذ بأعقاب سجائره الملغومة، ويستعدّ لخوض معركة جديد

كانت مريم ترتجف من الخوف والبرد. أشارت بيدها للمرحاض. أزاح بصره غير مبال. نهضت تجر جسدها المغتال جرا، تنوح تبكي براءتها وحلمها، تئن ألماً في صمت مبحوح. تجاوزت المرحاض، انسل ضوء من نافذة الغرفة معلنا شروق الشمس. سكن خوفُها. فتحت شراع النافذة، وبينما كان الكهل يعدّل من طقم أسنانه، ويطمئن على فحولته وعروقه الزرقاء المنتفخة بفعل الحبة الخبيثة، تسلّل صرصار من حذائه، نفذ إليه عبر أصبع قدمه الكبير وتلبسّه. التفتت مريم إليه مبتسمة بانتصار، وهي ترى صورة الصرصار الحقيقية، بعدما نزع الكهل عنه القناع.

وقفت على حافة النافذة ومشارف خلاصها. اخترقها نسيم عليل. أدارت وجهها متتبعة النور مثل عبَّاد الشمس، وهي تفكر في الخلاص.

في المساء، جلست أسرة مريم محدّقة صوب الشاشة، يترقبون إذاعة برنامج “مختفون”. كانت أمها داخل الشاشة. جالسة مكلومة وقلبها يدمي، بقربها تربّع الأب، دامع العينين يعرض صورة مريم، ورقم هاتفه لمن عثر عليهاّ.

كانت نظرات الأب جائعة وهي تلتهم بنهم صورة مريم بالتلفاز، أغلق بعدها سياج عينيه على طيفها السجين، ‪ ثم سرح بخياله بعيدا حيث أشهر سيفه ذات دناءة، مسيلا دم البراءة، ابتسم وهو يمرر لسانه بشهوة، منتشيا بذكرى اكتشافه لتضاريس مريم بعدما خلت الدار إلا منهما ومن شيطانه. قطّب جبينه، وهو يتابع صرصارا صغيرا يحوم حوله، فرد تجاعيده، لاعبه وهو يمنّي النفس بالتهام مريم مثنى وثلاث ورباع…

زهرة عز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى