عبد السلام بنعبد العالي - الانفصال وصلا..

{ هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه}

{أبو حيان التوحيدي}


لا تبدو أمرا يسيرا الاستجابة لما ينتظره منّا جيل دولوز عندما يدعونا ألّا نحاول فهم الترحال nomadisme والتفكير فيه بدلالة الحركة. فكأنه يطلب منا أن نتفهم أن يكون التنقل سكونا، والانفصال وصلا، والاغتراب ألفة، والهجرة عمارة. كأنه يدعونا أن نهاجر دون أن نبرح مكاننا.

لا يركب فيلسوف الترحال هذا المركب الصعب إلا تفاديا لما يدعوه “الانفصال الكاذب”، الانفصال ” بثمن بخس”، وهو لا يستبعد الحركة الهوجاء إلا بحثا عن “الكثافات الساكنة”.

فلا أحد في نظره أكثر تعلقا بموطنه من الرَّحَّال، لأنه لا يفتأ يتحايل كي لا يهاجر. انه لا يرتحل إلا رغبة في عدم مغادرة موقعه، لا يرتحل إلا انشدادا إلى موطنه وتعلقا به. إلا أنه يعلم أن الانشداد إلى الموطن ليس هبة تُعطى، وإنما هو عناء وجهد وصبر ومقاومة. الرحال يتحدى المكان ولا يعطيه ظهره، انه لا “يولّي هاربا”. فهو لا يدبر إلا لكي يقبل. ولا يبتعد إلا “في محل قربه”. انه لا ينفصل إلا وصلا واتصالا.

يدرك الرحال أن أضمن السبل إلى العمارة هو التنقل، وأحسن وسيلة للاقتراب هي الابتعاد، وأنجع طريق للتملك هي الفقدان، وأنجح كيفية للارتباط والوصل هو القطيعة والانفصال، وأضمن طريق إلى التشبث بالهوية هو الاختلاف.

ليس الترحال خروجا وتيهانا وتنقلا سهلا يجر صاحبه إلى أن يسبح في فراغ لانهائيّ. وهو ليس رفضا لكل تجذّر، ودفعا لكل وحدة، وإنكارا لكل هوية. انه خروج داخليّ، وانفصال مرتبط،، وتأصيل متجدد، وتشتت موحد، واختلاف متطابق. انه “سكون بخطى كبيرة”.

يعرف الرحّال أنّ موته في توقّفه عن المقاومة وتخلّيه عن التحدّي. انه ما ينفكّ يتجنّب الاستقرار البليد، والاستيطان الخامل، والتعلّق الرخيص بالثوابت. فهو يؤمن انه ” لا يملك إلا المسافات التي تبعده”، فكأنما لا ينفك يردد مع ج. لوكيي : “هو ما ليس هو، وليس هو ما هو عليه”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى