كاهنة عباس - ما الحس؟ ما الاجساس؟

منذ دهور ، كتب الشعراء والأدباء مجلدات حول المشاعر والأحاسيس، وما من أحد منهم تساءل حول أسرارها ؟ هل هي مرتبطة بحواسنا الخمس: اللمس والتذوق والسمع والبصر والشم، أم تتجاوزها ؟​
ألا نتذكر ونفكر وندرك ونتكلم ونتواصل بالإحساس ؟
إن كان الحس في معناه اللّغوي الصوت الخفيّ، ألم تنشأ من رحمه كلمة الإحساس؟ التي تعني ما ينتاب الجسد والنفس من ردود فعل وتصورات وهما يتفاعلان مع العالم الخارجي، أليس هو الخيط الرابط بيننا وبين العالم ، ألا يكون الجناح المحلق في الفضاء، الذي ما انفك يرسم هنا وهناك خرائطه الذاتية؟
- خريطة الذكرى بأوجاعها وحنينها وما بقي منها وما انمحى ، خريطة الإدراك بتعقيداتها ومركزيتها وما تلتقطه من العالم أو تلفظه ، خريطة الأنا وأفكاره وأهوائه ومراحل تكوينه وتساؤله وعلاقاته بغيره الظاهرة منها والخفية وكل ما يبديه ويضمره، لينشأ ذاته المتفردة؟
فكيف استطاعت هذه الحواس ذات الخيوط المادية، أن تخلق كل هذا الكم من الخرائط المتشابكة، لتحدد موقعنا في الزمان والمكان ؟ وما هي علاقتها بأفكارنا ومشاعرنا، هل هي من يبعث فينا ذلك الكم من العواطف والوجدان من ألم ولذة وفرح ونشوة وحزن وانتظار وأمل وخيبة وشك وحب وكراهية وندم؟
ما الحس ؟
في مرحلة أولى، هو تلك اللحظة التي يلتقي فيها الجسد بواسطة حواسه ،بالحر أو البرد والهدوء أو الضجة والظلمة أو النور أو الروائح باختلافها ،ثم وفي مراحل متفاوتة المراتب ، يبرز الإحساس كحالة وجدانية عاطفية فتبعث في النفس الفرح أو الحزن، وقد يتطور أحيانا حتى يدرك مرتبة روحية بعيدة المدى تتجاوز العالم الملموس .
في الحقيقة ،لا شيء مما فات وولى يفرحنا أو يحزننا ، وليس للخيال القدرة على أن يحرك فينا الحواس والإحساس، فيبعث فينا المتعة ،ومع ذلك فقد يسكننا الحنين إلى الماضي، وقد يكون الخيال مصدرا للبهجة فيحقق جميع رغباتنا ،بأن يستحضر الغائب والمحظور ،وينجز ما لا يخطر على بال .
لا يحاصر الإحساس بالكلام حتى وإن نظم في شكل قصائد تنسج ، ولا يمكن كبح جماحه إلا من الداخل، وهو المهاب دائما وأبدا، لأنه السجن والمفتاح ، مصدر الإدراك والمعرفة ومنبع الأوهام ، لذلك نحن نخشاه لأنه قد يجرفنا إلى حيث لا ندري، فقد يكون موضوعه الحب أو الكراهية أو الشوق أو الحزن أو الحسرة، فهو الطاقة المتحولة المتغيرة التي نستمد منها قوتنا أو ضعفنا.
ترى ماذا تكون الألوان ،الفصول ،الذكريات، الأشكال والأجساد التي تحيط بنا، في غياب الحس والإحساس ؟
ليس الإحساس ضعف أو انفلات من عقال سلطة ما ، إنه الأصل، طعم هذه الحياة مذاقها ورائحتها ،لذلك سعى بعضهم إلى اكتناز المال والثروة من أجل أن يشعر بلحظة حسية فارقة ،لا تدرك شيئا سوى ما يملؤها من خمرة ،فيغيبها عن كل ما يحيط بها حتى تدرك مراتب لعوالم أخرى .
كيف استطاعت الحواس تثبيت الذكرى فينا ؟ ما الذي يبقى من مشاعرنا بعد فنائها؟ وكيف تساهم في رسم ملامح هويتنا و مخاوفنا وانتظارنا وآمالنا وأوهامنا وأحلامنا؟
ألا تسكن عواطفنا الأمكنة فتعيد ترتيبها نورا وعشقا وبهاء أو حزنا وفراقا وانهيارا ؟ أليس للشوارع والحدائق مسحة من الأنس أو من الغربة بحسب حالتنا الوجدانية ؟
ما الإحساس إذا ؟
هل هو سر السعادة، أم سبب الألم والتعاسة ؟ ما الذي يحدث داخلنا ونحن نلتقي بالعالم وبالآخرين ،روح غريبة هي أصل الحياة والوجود ،ما انفكت تسكننا مثل بقية الكائنات؟ و ما الذي يجعلنا نستغني عن التساؤل حول معنى الحياة وجدواها؟
في معناه المجازي، يمكن القول بأن الإحساس، توهج، خفقان، تحليق لما ينبع من ذواتنا ،حتى تتواصل مع ما يحيط بها ، هو القلب الأنثوي الذي يدرك العالم خارج أطر الكلام ، هو السفر المتاح نحو ماضي انقضى ثم عاد فجأة ، في هيئة فكرة أو هاجس أو رغبة .
لا ،بل الإحساس هو ذاك الفضاء الذي يرفض كل تعريف لأنه نقيض الحواجز والحدود ، تكتبه لغة أخرى ،نرددها عن ظاهر قلب دون أن نفقه أصولها وقواعدها ، هي اللغة الجامعة لكل منا مهما كان عمره وعلمه ، إنها الموسيقى ، تلك التي ما انفكت تقول لنا كيف نشعر ، وبما نشعر ،فاصل بفاصل ،ودرجة بدرجة ، ومرتبة بمرتبة ، فإذا بنا نردد حروفها العجيبة والغربية ،دون كتابتها ولا معرفتها نرددها كأننا حفظناها منذ الأزل، أي قبل أن نوجد .
ما الإحساس إذا ؟
البكاء الذي به نغتسل ، الفرح الذي نسترد به طفولتنا الأولى .
لغة الأنغام والألحان تلك التي كنا نعرفها من ذي قبل ، أصواتنا وهي تخبرنا،حين تغني بكل تلك الأحاسيس المتناثرة هنا وهناك .........
كاهنة عباس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى