عنفوان فؤاد - قراءة انطباعية في نص هنريك إبسن..

"كنت جالسا في إحدى المقاهي أحتسي القهوة
فجاءت إلي فتاة وسألتني هل أنت لوحدك؟
فقلت لها نعم،
فأخذت الكرسي الذي بجانبي وذهبت!"

- هنريك يوهان إبسن

••••••••


هذه الكتابة البسيطة التي توحي باللانص، اللارسالة، تروق لي وتستوقفني، كونها تستلزم الغوص أكثر فأكثر لمعرفة ماهية الأفراد، وأحوالهم النفسية، كما تمتحن الذات البشرية وتقوم بعملية فرز للقول واللاقول.
النص الذكي واللافت، يحمل عدة دلالات ومنفتح على عدة تأويلات، هذا هو الأسلوب البسيط في الطرح والعميق في تناوله الفكري، النفسي، والاجتماعي...
في الواقع هذا النص أنموذج -مشهدي- يقرأ حسب انطباع وخلفية القارئ ضف إليه رشة مزاج لحظة القراءة.

ومازاد من صرامة وسخرية المتلقي لحظة التلقي؛ أيقونات مارك المتباينة، تلك الأوجه المعبرة عن غضب، سخرية، جدية أو حيادية، وذاك اللايك؛ الإبهام الحيادي، الفارغ، المتساوي مع الخرس الفكري.

لنعود إلى النص:
أتت،
سألت،
أخذت الكرسي...
انتهى الحدث.

تكمن الدهشة عند نهاية هذه -الق ق ج-
السؤال المطروح ماحالة الشخص الذي أخذ منه الكرسيّ دون الالتفات لحالته إن كان يبحث عن رفقة، مسامرة، دردشة سريعة أو أنه كان يفضل البقاء في جو عزلته السابقة!؟

ثمة رسالة مبطنة للمتلقي مفادها؛ أن انتبه إلى طريقة مخاطبتك للآخر وتواصلك مع الغرباء، فأنت مسؤول عن ما يقع في نفس الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

فربما تمنى تلك الرفقة لحظة طرح السؤال؛
هل أنت لوحدك؟
كونه أجاب مباشرة دون مراوغة ب"نعم".

لو غيرنا صيغة السؤال:
هل تسمح لي بأخذ هذا الكرسيّ؟
لأصبح النص أكثر من عادي ولا يحمل السائل أي مسؤولية اتجاه الآخر.

كما أن ردة فعل الآخر ستكون بلا حماس يذكر. لأن رده سيكون ساعتها، نعم تفضلي
أو
لا يمكنك أخذ الكرسيّ، فأنا بانتظار أحدهم مثلاً.
لكن أن يتم طرح السؤال كما حدث، فهذا فيه شيء من الأذى النفسي.

لنعيد المشهد بالتصوير البطيء مع استبدال ذاك الشخص بك "أنت"،
جاهز.
أعد المشهد الآن،
ها أنت منغمس بالتغكير في شيء ما، تحاول استرجاع ذكريات ما، بصدد البحث عن حل لمشكل ما، التفكير بشخص عزيز، أو خائر القوى مهزوم الارادة، تبحث داخل دماغك عن طريقة لوضع حد لحياتك........
ثمة فتاة تتحرك، لا تراها، تجهل أنها بالجوار، تتجه إليك، تقتحم حميمية عزلتك
تفض بكارة صمتك
هاهي تقف مع ظلها أمامك
تتحرك شفتها
تسمع سؤالها
"هل أنت -يا أنت- لوحدك؟"
تستجمع شتات أمرك وبعثرة مشاعرك، تحاول إخفاء ألعاب أفكارك ورسائل ذكرياتك، بالكاد تفعل كل هذا لتخفيه عن هذه المتلصصة الفضولية المقتحمة لباب خلوتك،
فتجيبها بنعم. نعم التي تطلقها كطائر متخبط علق في شباك الحيرة، نعم التي تدلقها دفعة واحدة في وجه الغريبة...

بعدها كيف هي ردة فعل الفتاة، لا شيء، فقط تسحب الكرسيّ الذي بجانبك وأنت كنت تظن أنها سوف تقاسمك ما بدأت، كأن تفتح ملف حياتك، كأن تقلب في أرشيف فؤادك أو تدفن معك آخر خبر محزن أو ربما تطبطب على آخر طعنة في ظهر، أو تحاول أن تسد أحد ثقوب نفسك...

لا هذا ولا ذاك هاهي تمسك بالكرسي، تهزه بيدين من نار وقلب من ثلج، تسحب آخر ضجيج بنظرتك، تختفي مع كرسيّك...
كرسيك الذي كان يصلح لأن يريح مؤخرة ظل أحدهم، على الأقل ذاك الكرسيّ كان يؤنس وحدتك، في كل الأحوال
وبأي لحظة كان سيتحول المكان الشاغر إلى عامر...

فالأمكنة الشاغرة دوما لها أصحابها، الذين يتواجدون في التوقيت الخطأ على عكسهم المكان الصحيح يسبقهم بفارق غير محسوب. لكن أن يأتي أحدهم ويقتلع عصب الانتظار وينتهك خصوصية الوحدة فهذا ما لا يمكن أن يغفره المرء تحت أي ظرف كان
لا تنسى، لقد وضعت نفسك مكان شخصية النص،
والآن أخبرني ما موقفك!؟


عنفوان فؤاد / الجزائر
23 أكتوبر 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى