فنون بصرية حسين عيسى - رولان بارت.. من لذة النصّ إلى لذة الصورة الفوتوغرافية

" أنا لست مصوراً، ولا هاوياً، إذ لا صبر لديّ لأكون كذلك: إنّي أسعى لما أنجزته كامرتي البولارييد الفورية، فذلك مسلٍ لكنّه مخيبُ للآمال أيضا، ما عدا الحالات التي يتكفل فيها مصور مقتدر بذلك....
رولان بارت
العلبة النيرة 1998م، ت: ادريس القري


"بدايات بارت مع الصورة الفوتوغرافية
لم يكن الفرنسي رولان بارت مؤلف "لذّة النص" وغيره من الكتب مصورا فوتوغرافياً، ولم يحمل كاميرا سوى فورية التظهير من نوع (بلولارييد)، ولم يكن له أن يكتب شيئا عن الصورة الفوتوغرافية حتى وقعت في يده صورة"جيروم"الأخ الأصغر للقائد نابليون. تأمل بارت في وجه"جيروم"ثمّ قال:
"إنني أرى العينين اللتين شاهدتا الإمبراطورية"
على الرغم من تحقق العلاقات والصلات بين اللغة، والصورة الفوتوغرافية، وبالتالي بين سردية الخطاب وسردية الصورة، إلا أنها صلات داخلية تتعارف وتتضامن وفق أنساق بصرية بالدرجة الأولى. وبين هاتين السرديتين وقع رولان بارت متأرجحا بين خطابه النقدي المتمكن، الضارب بجذوره الرقيقة في خطابات علم الاجتماع، وعلم الأدلة والتحليل النفسي وبين خطابه الفوتوغرافي الذي بدأت تظهر ملامحه في هذا الكتاب. أي بين سردية رافقته في كل فعله النقدي اللغوي، وسردية بدأت للتو تنمو وتتعرف على نفسها.
قرر بارت - انطلاقاً من"الأنا"مبدأً للاستكشاف - أن يدخل إلى هذه السردية الجديدة عليه باختيار مجموعة من الصور الفوتوغرافية منطلقاً لبحثه. لكنه سرعان ما وقع في ورطة أخرى لكنّ هذه الورطة سوف تتعقد أكثر ؛ لكون بارت لا يمتلك إلا تجربتين حيال الصورة الفوتوغرافية هما: تجربة الذات المرئية وذلك عندما يتحوّل هو نفسه إلى موضوع في صورة فوتوغرافية يمكنه النظر إليها، والتمعن في ذلك التصنع الذي حلّ عليها وحوّلها إلى صورة غريبة لا وجود لها!!، والتجربة الثانية: وهي تجربة الذات الرائية، أو الناظرة، والتي يبدو لي أنها لن تكون محايدة مهما حاولنا تكلف المحايدة، وما دام فصل الصورة عن مرجعها صعبا، بل مستحيلاً. أمّا التجربة الثالثة، وهي في الحقيقة الأولى، والتي لم يشعر بها بارت في كتابته هذه، هي: ذلك الشعور الذي يخامر المصور الفوتوغرافي، أو صانع الصورة الذي يفتقده بارت لأنّه ليس مصورا بل لا يجيد التصوير حتى بكاميرا بولاروييد الفورية!! فما الذي يعرفه جسد بارت عن الصورة الفوتوغرافية إذن؟
"ها أنذا - إذن - أنا نفسي مقياس للمعرفة الفوتوغرافية. فما الذي يعرفه جسدي عن الصورة الشمسية؟ لاحظت أن كلّ صورة شمسية قد تصبح موضوعاً لثلاث ممارسات، أو ثلاثة انفعالات أو مقاصد، هي: الصنع،والمكابدة، والنظر... ص: 12"
ولأنّ بارت لم يحظَ بغير الممارسة الثالثة لذا نراه لا يتحدث عن ذلك الشيء الذي يثيره المصور الفوتوغرافي صانع الصورة وهي العاطفة بين المصور وثقب الكاميرا الصغير الذي من خلاله يحصر المصور، و يؤطّر، ويمسك ما يريده من مشاهدات وفق ثقافة بصرية لا تنفصل عن عموم الثقافية بمعناها السلطوي.
هذا النقص عند بارت صنع له وجهة أخرى تركزت على تأويل الحدث في الصورة الفوتوغرافية فراح ينظر أثر الصورة في متلقيها وما تصنعه في شعوره وسلوكياته. وربّما من غير التفات كتب بارت كثيرا عمّا تفعله الصورة فيه هو بوصفه متلق لها ومتفرج عليها فكتب عن ذلك الشيء المنبعث من الموضوع المصوَّر والذي لا تخلو منه صورة تقريبا محمولاً في أطيافها وهو: عودة الميّت. وسينحرف"عودة الميت"ببارت للحديث عن أجزاء من سيرته الذاتية المرتبطة بسيرة علاقته بأمّه من خلال ربائد الصور التي بين يديه. وسوف تختلط هذه العلاقة الطفولية، وأهوائه برؤيته الآن لتلك الصور وتؤثر في تأويله لها، كما أنّها اخترقت الكتاب كلّه وصارت مرجع يعود إليه كلما أضناه التمثيل. ومع ذلك كان يحاول دائما في حديثه عن الصور البرهنة على هذه الأهواء ليس بالتبريرات وإنّما بعلم يتخصص في الذات لا يسحق قراءة بارت للصورة ولا يختزل أهوائه وتأويلاته.
راح رولان بارت يجمع بعض الصور لينطلق منها في كتابه هذا. كانت هذه الصور قليلة جداً لأنّ بارت اختارها ضمن رؤيته التي سيطر عليها الانجذاب النفسي والشعوري لهذه الصور"لأنني كنت - على الأقل - متأكداً من تلك الجاذبية. ماذا أسميها؟ افتتاناً. لا. إن تلك الصورة التي أميز وأعشق ليس فيها أيّ شيء من النقطة البراقة التي تتراقص أمام العينين وتلعب بالرأس حتى تتمايل. ما تثيره هو النقيض التام لفَغْر الفم: ما تثيره فيَّ - على الأصح - هو اضطراب داخلي، عيد، وعمل أيضاً، أنه ضغط اللامعقول... أودّ كثيراً معرفة الشيء الماثل في الصورة والذي يحدث بداخلي عطلاً ما. وهكذا كان يبدو لي أن الكلمة الأكثر صواباً لأعيّن بها مؤقتاً الإغراء الذي تمارسه عليّ صور ما هي كلمة: مغامرة. هناك صور توافقني وتطرأ عليَّ وغيرها لا.. 21"
فكيف استغل بارت مبدأ المغامرة في منح التصوير الفوتوغرافي وجودا؟ وما مفهوم الظاهراتية في التصوير الفوتوغرافي لدى بارت؟ ماذا عنى بارت بالوخز في الصورة؟ وكيف انحرفت كتابة بارت عن التصوير إلى سيرته الذاتية؟ كيف بدت الصورة الفوتوغرافية لبارت وهو لا يجيد التصوير أصلا ً؟
بمعنى آخر كيف تبدو الصورة لغير المصورين؟ وهل تحمل الصورة فكراً معقداً أو مركباً؟ هل يمكن أن تتحدث الصورة الفوتوغرافية عمّا هو قادم؟ هل اختيارنا لصور ما يحدد سلوك رغباتنا الخفية؟ إلى أيّ مدى يمكن للذة أن تكون وسيطا بين الرغبة والصورة؟ وإلى أي مدى يمكن للصورة أن تنفصل عن مرجعها؟
"ظاهرية بارت في التصوير الفوتوغرافي
أعتمد رولان بارت في الحكم على صورة فوتوغرافية ما بأنّها جيدة أو غير ذلك على ظاهراتية هذه الصورة وتلك اللغة التي تتميز بها، وليس على بريق الصورة الذي غالبا ما يؤثر في المتلقين لأوّل مرّة ثمّ سرعان ما يبهت. فماذا يعني بارت بالظاهراتية هنا؟ هل هي ما تظهره لنا الصورة في السطح من معنى؟ هل هو التبرج في المعنى؟ أي أنّ كلّ شخص قادر على رؤيته؟ هل هو التوقف عند ما تحويه الصورة دون ربطه بذاكرتنا البصرية أم أنّ الظاهراتية هنا هي مقابل الباطن والعمق المتجذر، أي كما يفهمه أعداء الظاهرية عندنا؟
يحدد بارت هذه الظاهراتية بأنها"كانت ظاهراتية غامضة، متبرجة، بل وصلفة أيضاً، وكثيراً ما كانت تتقبل تشويهي لمبادئها، ومراوغتها وفق هواي في التحليل."هذا يعني - كما يبدو لي - أنّها ظاهراتية ليست علمية أو لا تقترب من العلمية!! وإلا لما قبلت هذا التشويه السريع في مبادئها. ولأنّها ظاهراتية تتقبل التواطؤ مع قابلية التأثر في المتلقي - رولان بارت - فقد كانت دائما تحول مسار الباحث في الصور بعينيه من أن يصل إلى اطمئنان علمي إلى الاحتفاظ بتلك الإثارة الأولى التي أحدثتها فيه. إنّها أشبه بأب لم يلتفت إلى صورة فوتوغرافية إلا بعد أن رأى فيها ابنه!! وكأن الصورة الفوتوغرافية تصرّ دائما على بقاء العاطفة دون غيرها بين المتلقي وبينها. وهذا ما جعل رولان بارت يطلق عليها اسم"ظاهراتية تقليدية"لأنّها في النهاية لم تمكّنه من غير الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي عاطفياً وكأنّ الصورة جرح لا موضوع.
يبدأ رولان بارت في كتابه العلبة النيرة وضع مصطلحات لبعض المفاهيم التي تقابله في هذا التأسيس الذي يفضّل بارت خروجه من دائرة العاطفة إلى العلم. كان أوّل هذه المفاهيم هو ذلك الإحساس العام الذي يصب متلقي الصور الفوتوغرافية. وهو اهتمام مُنفعل حسب ثقافة المتلقي الأخلاقية والسياسية التي ستكون وسيطاً بين المتلقي والصورة. إنّه أشبه بالترويض والتسكين للنفس ثمّ الاهتمام غير المنقطع بصورة ما، والمواظبة عليها، والانجذاب والميل نحوها بتركيز نفسي عام. هذا المفهوم لم يجد له بارت مصطلحاً غير كلمة (Studium) اللاتينية. وهي تعني كلّ جزئيات المفهوم الذي مضي. لكنا تعني الانجذاب النفسي نحو صورة فوتوغرافية بشكل متسرع. ولا يكون ذلك إلا عبر العاطفة التي كانت أساس تلك الظاهراتية.
إذا كان هذا المصطلح يشترك فيه كلّ متلقٍ للصورة الفوتوغرافية بما فيهم بارت نفسه، فإنّ هناك مصطلح لعنصر آخر سوف يخترق هذا ال (Studium) وقد يهشمه تماماً لكنه أيضاً قد يسانده. وهو عنصر من عناصر الصورة لا يذهب المتلقي للبحث عنه لكنه هو الذي ينطلق من الصورة كسهم ليخترق المتلقي. ذلك العنصر هو الوخز، أو الوخزة (Punctum). وهو عنصر لا يشترك فيه جميع المتلقين للصورة. ففي معرض كاميرا كلاسيك"3"الذي أقيم في 32/6/2001م بالميرديان مجموعة صور نالت إعجاب الكثيرين وانجذبوا نحوها تحت سيطرة ال (Studium) لكن القليل منهم مَنْ أصيب بالوخز (Punctum) عند بعض الصور وخصوصاً صورة عقيل الموسوي"النخيل"، وكذا في صورة لم تعلق في المعرض لنداء الرميحي"الكرسي الخاوي".
بهذين العنصرين: الستوديوم والوخز سوف ينشغل بارت في العمل على الصور القادمة في الجزء الأكبر من مشروع كتابه في التصوير الفوتوغرافي. وسوف يصنف الصور الفوتوغرافية بما تحدثه من وخز فيه أو لا."صور كثيرة تظل - ويا للأسف! - جامدة تحت بصري. لكن غالبية الصور، حتى من بين تلك التي لها وجود ما في نظري، لا تثير فيَّ سوى اهتمام عام. وهو اهتمام - إذا أمكن التعبير - مهذّب لا وخز (Punctum) فيها. إنها تعجبني، أو تقززني دون أن تَخزَني. إنها صور مُفعمة بالستوديوم (Studium) وحده. هذا الأخير هو الحقل الشاسع للرغبة الفاترة، والاهتمام البارد، والذوق غير المتناسق: أحبّ / لا أحبّ. وهو من طبيعة (to like) وليس من قبيل (to love). وهو يجنّد نصف رغبة ونصف إرادة!! إنّه ذلك النوع من الاهتمام الغامض، الأملس، واللامسؤول، الذي نوليه للأشخاص، وما نشاهده، والألبسة، والكتب التي نستحسنها"
ويُدرج بارت صور التحقيق الصحفي ضمن تلك الصور التي تحتوي على الستوديوم لكنها خالية من الوخز. ربّما تحدث هذه الصور صدمة للمتلقي لكنها لا تحدث بلبلة. وقد تصرخ لكنها لا تجرح."صور التحقيق الصحفي هذه تُستقبل دفعة واحدة وهذا كلّ ما في الأمر. أتصفحها ولا أختزلها في الذاكرة، لا تفصيل فيها يقبع في زاوية ما، يأتي ليقاطع قراءتي. إنني أهتّم بها كما أهتم بالعالم لكني لا أحبّها"
يبدو لي أن تقليل بارت من شأن صور التحقيق الصحفي ناتج ممّا وصفه بها"لا تفصيل فيها يقبع في زاوية ما"فهي إذن صور فوتوغرافية أحادية تحوّل الواقع بواسطة التفخيم إلى صورة أخرى متولدة منه ومشابهة له. لكنها لا تحدث ارتجاجات في هذا التفخيم المتماسك!! وهي صور خالية من الثنائية التي كان بارت يبحث عنها متأثراً في ذلك بالبنيوية التي تعتمد على هذه الثنائية. وهي صور خالية من غير المباشر ة. كلّ شيء فيها مباشر.أي لا شذوذ فيها. إنّها كما يقول بارت:"تتوفر الصورة الأحادية على كلّ اللوازم لتكون تافهة"!!
إلى جانب صور التحقيق الصحفي في الأحادية يصنف بارت صور (البرنوكرافية) , وهي الصور الخلاعية العارية. وهي غير الصور الأيروتيكية أو الأيروسية لأنها صور العري الفاضح جداً والخلاعي المزعج. يري أن صور البرنوكرافية صوراً أحادية أيضاً"لا شيء أكثر انسجاماً من الصور الخلاعية. إنّها دائما السذاجة، بلا مقصد ولا حسابات. إنّها مثل واجهة زجاجية مضاءة، لا تعرض سوى جوهرة واحدة. فهي كلّها مكونة من تمثيل وعرض شيء واحد فقط: هو الجنس وليس من شيء ثانٍ أبداً". إنّ بارت - كما قلت - متأثر هنا بالبنيوية في نظره لمثل هذه الصور ؛ لذا ليس غريبا تفضيله - في موضوع آخر - صورة للفوتوغرافي الهولندي (K.Wessing) عن تمرد في نيكاركوة. زقاق خرب به في مقدمة الصورة جنديان مسلحان في ثياب الجندية، وفي خلفية الصورة راهبتان تمشيان. لقد أعجبت بارت هذه الصورة لأنّها تحتوي على عنصرين متناقضين تماماً ولا ينتميان إلى العالم نفسه. وما كان ذلك يحدث في نفس رولان بارت لولا عمل المنهج البنيوي في ثقافته. هذه البنيوية سوف تدعم - لدى بارت - الوخز في الصورة الفوتوغرافية وتقلل من الستوديوم.
وليس هذه الاستعارة الأخيرة التي استعارها بارت من مناهج نقد النصوص إلى التصوير الفوتوغرافي بل استعار الكثير من مصطلحات تلك المناهج مثل: النحو التحويلي، الخطاب الكلاسيكي، إذ يري أن الثنائية التي في صورة تمرد نيكاركوة - مع أنها أعجبته - إلا أنها"لا تؤدي دور المحرك لأي نمو كما هو الحال في الخطاب الكلاسيكي.


المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى