ابراهيم الحريري - الجثة

(1)
أغلق محمود الباب الخارجي للشقة، دلف إلى البيت بعد نهار عمل طويل يمتد حتى ساعة متأخرة : تدقيق معاملات، زيارات هنا وهناك بعض الوقت في المقهى مع اصدقاء يتجاذبون أطراف الحديث في الأدب والسياسة، مشاهدة فلم وثائقي في صالة تجربيية مجاورة .
"يوم حافل" ردد مع نفسه وهو ينعطف إلى المطبخ الملاصق للباب الخارجي . فتح باب الثلاجة. كان ثمة ما تبقى في قعر القدر من الطبخة التي اعتاد أن يهينها كل أسبوع! خضار متنوعة، اضلاع ضأن في قاع القدر يتركها حتى تنضج على نار خفيفة؛ خلال ذلك يكون يستمع إلى الراديو؛ أخبار وموسيقى. يقلب صفحة ذلك اليوم ، دوان شعر يكون استعاره من أحد اصدقاء المقهى، يبسط دفتراً يسجل فيه بعض الخواطر واليوميات.
اخرج القدر من الثلاجة. وضعه على الطباخ. صب لنفسه كأساً من العرق المحلي، كأس واحدة تساعد على ازدراء عشائه ومغالبة الأرق. ادار مفتاح الراديو، ما زال العالم مشغولاً لا باخبار تلك الصبية الصغيرة التي ابتلعتها حتى وسطها ، بركة وحل. فشلت محاولات انقاذها، لم يكن ثمة ما يمكن فعله (*) سوى مراقبتها تغوص في بركة الوحل.
عالم حقير يعجز عن انقاذ طفلة. تذكر دستويفسكي، كان يصف كيف كان يتلقف الجنود الاتراك الاطفال البلغار بحرابهم بعد ان يكونوا قذفوهم الى الأعلى . هَزّ دستويفسكي الارثوذوكسي المتدين قبضته بوجه السماء هاتفاً : "انني اغفر لك كل شيء.. كل شيء، الا عذابات الاطفال".
مسح محمود دمعة انحدرت على خده وسقطت في كأسه . تبلّغ بلقيمات ، عاف الباقي. اخرج دفتر يومياته، كتب فه خاطرة عن الطفلة، بينما العالم يتفرج. قَلّب الصحيفة ثانية، صورة الزعيم تحتل النصف الاعلى من الجريدة. خطبة له تحتل النصف الثاني يؤكد فيها عزم البلاد على مواجهة العدو والتصدي له. تعب، عاف كل شيء على الطاولة، توجه الى الصالة، أدار مفتاح التلفزيون ، صورة الزعيم ، خطابه، اطفأ التلفزيون، توجه الى غرفة نومه.
كانت خيوط اشاعت بدر منتصف الشهر تتسلل من النافذة. كان البدر قريباً يتوسط السماء. بدا كأنه يخاطبه مبتسماً . كانت نسمات أواخر الصيف الرخية تهزّ ستار النافذة برفق. خلع ثيابه توجه الى سريره الذي يحتل وسط الغرفة، قرب النافذة لم يكن اعتاد ان يرتد في ملابس النوم. ازاح الغطاء، انزلق الى الفراش حين اصطدم جسمه بجسم رخو.
ما هذا؟ هرع إلى مفتاح النور ، اقترب ثانية من الفراش أزاح الغطاء . كان ثمة جسد عارٍ لرجل تجاوز الاربعين. ندت عنه صرخة كتمها على الفور مخافة أن يوقظ الجيران. رأس كبرة بشعر قصير مسرح حتى الجبين . وجه مدور تتوسطه نظارة بعدستين مدورتين. يدان قصيرتان بشكل مُلفت. صدْر أملس. كرش ناتئة ترقد فوق عضو صغير منكمش يكاد يغيب، يختفي وسط شعر عانة كثيف. رجلان قصيرتان.
بدا له الرجل الجثة، بوجهه المدور ونظارته بعدستيها المدورتين، اشبه بـ بريخت المسرحي الالماني الشهير .كان يحتفظ له بصورة قديمة اضافها الى ارشيفه. لعله كائن من كائنات الفضاء!
لم يصدّق ما يرى! فرك عينيه . لعلها الكأس التي احتساها على عجل.
اقترب من الفراش ثانية، هزّ الرجل الجسد العاري.
فحّ صوت كأنه الحشرة وهو يهزّ الجسم المستلقي وسط الفراش.
عيب يا رجل! قم استر نفسك، اين ملابسك ؟ كيف دخلت . من سمح لك ان تنام في فراشي ؟ بل من سمح لك أن تدخل شقتي؟
هزّه بعنف هذه المرة. انقلب الجسم / الجثة الى جانب، ثم عادت تستلقي وسط السرير على ظهرها.
غير معقول! فحّ كمن يختنق. لعلها مزحة! لعل دمية منفوخة ألقاها احد اصدقائه من النافذة هزه للمرة العشرين كان جسماً بشرياً . كان جثة!
جثة في فراشي! جثة في فراشي، أطفأ النور. هرع الى النافذة يغلق مزاليجها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى