ادورد وليم لين - 40 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تابع - الفصل الثالث عشر - الأخلاق

كثيراً ما يقسم المسلم بالله وبالرسول وبرأس مخاطبه ولحيته. وعندما يخُبَر أحدٌ بخبر يثير دهشته وعدم تصديقه يصيح: والله؟ فيجيبه الآخر: والله. وكما أن العادة أن يبسمل المسلم قبل الطعام والشراب، يفعل ذلك أيضاً عندما يتناول دواءً أو يكتب شيئاً أو يبدأ مشروعاً مهماً، ثم يحمد الله بعد البسملة

وعندما يتعاقد اثنان يتلوان الفاتحة معاً. والعادة عندما يتجادل البعض في عمل أو رأي أن يصيح أحد الطرفين أو آخر يود فض النزاع أو تهدئة المتخاصمين: (الصلاة على النبي)، أو (صلوا على النبي) فيقولان بصوت منخفض: (اللهم صل عليه) ثم يستأنفان المجادلة ولكن باعتدال على العموم.

كثيراً ما يُسمع في المجتمع المصري العبارات الدينية تعترض الحديث في الأمور الحقيرة والخليعة أيضاً. وقد يكون ذلك أحياناً بطريقة تحمل من يجهل أخلاق هذا الشعب على أن يظنه هزؤا بالدين. ويكرر المصريون أسم الله في الكثير من أغانيهم الماجنة من غير قصد للإهانة طبعاً، وإنما يفعلون ذلك لاعتيادهم إقحام اسم الله في كل ما يدعو إلى الدهشة أو العجب، فيعبر الماجن عن انفعاله بالجمال عند رؤيته فتاة فاتنة بقوله أثناء كلامه الفاحش:

(تبارك الذي خلقك يا بدر)

وسأورد المقطوعة الأخيرة من أحد الموشحات مثالاً للطريقة الغريبة التي يختلط بها الفجور والدين في الأدب العامي المصري:

قابلني الرشيق بعد البعد والاحتجاب. فقبلت ثناياه وخده، ورن الكأس في يده، وفاح المسك والعنبر من محبوب أرشق قواماً من غصن البان. وبسط سريراً سندسياً، وقضيت الوقت في سعادة متصلة. لقد استبعدني ظبي تركي

والآن أستغفر الله ربي من كل خطاياي ومن كل ما هجس في نفسي. إن أعضائي تشهد عليّ. ومتى قهرني الحزن فأنت أملي يا ربي في كل ما يحزنني. أنت تعلم ما أقول وما أنوي. أنت الكريم الغفور. إني ألوذ بحماك فاغفر لي.

وقد زارني أحد أصدقائي المسلمين بعد كتابة الملاحظات السابقة توا فقرأت عليه القصيدة وسألته أيليق أن يمزج الدين بالخلاعة هكذا؟ فأجاب: (نعم، يليق كل اللياقة. فهذا رجل يذكر خطاياه ثم يستغفر الله ويصلي على الرسول). فقلت: (ولكن هذه قصيدة قيلت لتسلية هؤلاء الذين ينهمكون في اللذات المحرمة. ثم لاحظْ أن الصفحة التي تصف الفسق تقابل التي تذكر أسماء الله عندما أطوي الكتاب فيكون وصف الملذات الأثيمة فوق ذكر الاستغفار). فأجاب صديقي: (ذلك عبث. اقلب الكتاب جاعلاً أسفله أعلاه ينعكس الحال فيغطي الغفران المعصية. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، وإن الله يغفر الذنوب جميعاً وهو الغفور الرحيم) (الآية 52 من سورة الزمر). وقد ذكرتني إجابته ما لاحظته كثيراً من أن غالبية العرب - وهم شعب كثير التناقض - يستمرون في مخالفة الشرع اعتماداً على أن عبارة: (أستغفر الله) تمحو كل خطية. وكان بين يدي صديقي نسخة من القرآن فوجدت فيها عند بحثي على الآية المقتبسة ورقة عليها كلمات من الكتاب الكريم، وكان الرجل على وشك أن يحرقها لئلا تسقط فتداس. فسألته: أيجوز ذلك؟ فأجاب: إما أن تحرق وإما أن تلقي في مجرى ماء. والأفضل حرقها، إذ أن الكلمات تصعد مع اللهب فتحملها الملائكة إلى السماء. ويستشهد المسلمون حتى أشدهم تُقي بالقرآن عند المزاح. وقد حدث مرة أن طلب أحدهم أن أهدي إليه ساعة فأوعز إليَّ بهذه العبارة الملتبسة: إن الساعة آتية أكاد أخفيها (الآية 15 من سورة طه)

وكثيراً ما يشاهد المرء في المجتمع المصري ناساً يتلون آيات وأحاديث تتناسب المقام، ولا يعتبر مثل هذا الاقتباس - كما هو الحال في مجتمعنا - نفاقاً أو مملاً، وإنما يثير إعجاب المستمعين ويصرفهم عن تافه الحديث إلى جده. ويشغف مسلمو مصر وغيرها من البلدان، على ما أعتقد، بالحديث الديني. وتُحَي أكثر الحفلات عند الطبقتين الوسطى والعليا في القاهرة بتلاوة (خاتمة) أو إقامة (ذكر). وقلما يجرؤ أحدهم على التصريح بتفضيل الموسيقى على الخاتمة أو الذكر اللذين لا جرم يبتهجون بهما. والحق أن الطريقة التي يرتل بها القرآن أحياناً حسنة جداً ولو أن سماع الخاتمة كلها قد يُمل غير المسلمين

يدهشني شدة تمسك المسلمين بدينهم على الدوام؛ غير أنني أعجب لقلة محاولتهم دعوة الغير إلى الإسلام. وكثيراً ما عبرت عن دهشتي لتغافلهم عن نشر دينهم مخالفين أسلافهم في صدر الإسلام فكانوا يجيبوني: (أي فائدة في هداية ألف كافر؟ هل يزيد ذلك عدد المؤمنين؟ أبداً. لقد قدر الله عدد المؤمنين ولا يستطيع الإنسان أن يزيده ولا أن ينقصه). ولم أخاطر بالرد خشية أن يؤدي أعترض إلى جدال لا حد له. وقد سمعتهم يدافعون عن إهمالهم إدخال الناس في دينهم بذكر الآية السادسة والأربعين من سورة العنكبوت: (ولا تجادلوا أهل الكتاب) دون أن يذكروا العبارة التالية مباشرة: (إلا بالتي هي أحسن، إلا اللذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد). ولو كان المسلمون عملوا بهذه الوصية لأدى جدلهم إلى تحرير أفكارهم وتزقية معارفهم

يقدس المسلمون المحدثون الرسول غاية القداسة ويقسمون كثيراً باسمه ويلتمس شفاعته المتعلمون والجاهلون على السواء. ويتأثر الحجاج من زيارة القبر النبوي أكثر مما يتأثرون بقيامهم بالشعائر الأخرى. وهناك فئة لا تأتي عملاً لم يتقرر قيام الرسول به فيمتنعون خاصة عن أكل ما لم يأكله ولو ثبت إباحة تناوله. وما كان الإمام أحمد بن حنبل يأكل البطيخ لأنه مع علمه أن الرسول أكله لم يستطيع أن يعرف ما إذا كان يتناوله بقشره أو بدونه أو إذا كان يكسره أو ينهشه أو يقطعه، كما أنه نهى امرأة جاءت تستفهمه عن الغزل ليلاً على ضوء مشاعل الغير أثناء مرورهم في الشارع، لأن الرسول لم يذكر شرعيتها ولا يعرف عنه أنه انتفع من ضوء غيره بدون إذن. وقد أعجبتُ مرة بمنافض جميلة ينفض فيها رماد الشبُك؛ فسألت صانعها لماذا لا يسمها باسمه؟ فأجاب: معاذ الله! إن اسمي أحمد هو أحد أسماء الرسول فهل تريد أن أضعه في النار؟ وقد سمعت شكوى الناس من الباشا لأنه وسم جمال الحكومة وجيادها باسمه (محمد علي). وقال الذي ذكر لي هذا الحادث: إن الميَسم الذي نقش عليه هذان الاسمان الواجب احترامهما، اسم الرسول (ص) واسم ابن عمه رضي الله عنه، توضع في النار وهذا منكر، ثم يوضع على رقبة الجمل فيسيل الدم النجس فيدنس الاسمين المقدسين على الحديد وعلى جلد الحيوان. والمحتمل عندما يندمل الجرح بل المحتم أن يضع الجمل وهو راقد رقبته على شيء قذر

ويبعث مثل هذا الشعور المسلمين على أن يعترضوا على طبع كتبهم. ويندر أن يكون لهم كتاب لا يتضمن أسم الله، ولا أذكر أني رأيت كتاباً خلا منه. فالقاعدة أن يصدر الكتاب بالبسملة وتبدأ المقدمة بحمد الله والصلاة على الرسول. ويخشى المسلمون أن يدنس المداد الذي يطبع به أسم الله، أو الورقة التي يطبع عليها. ويخشون أيضاً أن تصبح كتبهم عند طبعها رخيصة الثمن فتقع بين أيدي من لا يصونها. وفكرة استعمال فرجون من شعر الكلب، وكانت تستعمل أولاً هنا، لوضع الحبر على أسم الله أو على كلامه تكدرهم كثيراً. ومن ثم لم يطبع الكتب في مصر حتى الآن إلا الحكومة؛ غير أن أثنين أو ثلاثة استأذنوها في طبع بعض الكتب في مطبعتها فأذنت لهم. وأعرف كتبياً هنا رغب طويلاً في طبع كتب كان يثق بعظيم ربحها ولكنه لم يستطع أن يتغلب على تردده في شرعية هذا العمل

(يتبع)

عدلي طاهر نور

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين


مجلة الرسالة - العدد 478
بتاريخ: 31 - 08 - 1942


أعلى