نجيب محفوظ - الجريمة.. قصة قصيرة

تلاشي الهدوء في رحاب التاريخ, تغيرت أشياء كثيرة, برزت معالم جديدة, ولكن بقي الحي الشرقي يزخر بالأزقة والحواري والبيوت البالية,
يقابله الحي الغربي بفلاته الكلاسيكية وعمائره الأنيقة الحديثة. هكذا وجدت الضاحية التي ولدت فيها بعد غيبة دامت ربع قرن. بهرني ميدان المحطة باتساعه ومبانيه الحديثة وتمثال الفلاحة الناهضة. والشارع العريض الطويل الغائص في أعماق الضاحية حتي المسلة القائمة في الحديقة الكبري. كما بهرتني المصانع الجديدة بضخامتها ومداخنها النفاثة وضجيج آلاتها.
ورغبة مني في الاختلاط بالناس وتوثيق علاقتي بهم قررت الاقامة في الضاحية فذهبت إلي مكتب سمسار للشقق وجلست في الانتظار بين جمع من الرجال والنساء. جلست بوجه سام مشحوذ الهمة للاستجابة لأي بادرة ودودة ولكنهم كانوا منهمكين في الحديث:
ألم يستدل علي شخصية صاحبة الجثة؟
كلا, وجدت مدفونة من سنين ومحترقة تماما.
كم سنة؟
أربع أو خمس سنوات. هذا ما كتب في الخبر.
والقاتل؟
لم يعرف بعد, والأرجح أنهم عصابة. فالقتل والاحراق والدفن تحتاج الي أكثر من مجرم واحد..
وتداخلت في الحديث سائلا:
ألم يعلن في الضاحية وقت ارتكاب الجريمة عن اختفاء امرأة؟
فساد صمت انقطع به الحديث مليا ثم قال شخص:
لا يمكن تذكر ذلك. فقلت:
ولكنه لا يمكن أن يغيب عن تفكير المحقق.
لم تحز ملحوظتي قبولا فيما بدا لي. فأكدت غربتي بدلا من أن تفتح لي مدخلا الي علاقة حميمة. وخفت أن أكثر من الأسئلة فيساء بي الظن وخاصة لشدة حساسيتي من ناحية المهمة التي أحمل أمانتها, وليقيني المستند إلي خبرة مهنتي بأن الأعين يجب أن تكون منتبهة تماما نحو أي دخيل قد يهدد أمن الضاحية وسرها العجيب. وجاء دوري المثول أمام السمسار فوجدت في حجرته نفرا من المتعاملين. ووجدت أن حديث الجريمة يطوف بهم رغم انهماكهم في انجاز أعمالهم, وحتي السمسار نفسه يشارك فيه.
لا حديث للضاحية الا الجريمة, يتردد في السوق والمكاتب والمصانع والأكواخ والفيلات..
ذلك طبيعي جدا.
وما الفائدة؟
فقال السمسار:
ثرثرة معالجة عقيمة للخوف والعجز, ثرثرة لاجدوي منها...
ثرثرة وأماني فارغة.
ولم الخوف بالله كأنما كل فرد من الضاحية يخشي نفس المصير..
غادرت المكتب بعد أن أجرت حجرة مفروشة في مبني بالحي الشرقي, وسط الجمهور الذي أعتمد عليه في استخلاص الحقيقة المنشورة. وتذكرت مقابلتي لرئيسي التي كلفت في ختامها بالمهمة. قال:
ستذهب إلي الضاحية لجمع التحريات والمعلومات.
وقال أيضا:
من حسن الحظ أن أحدا من رجال الأمن هناك لايعرفك..
فسألت باهتمام وأدب:
ولكن لم سوء الظن ياسيدي؟
حسن, طمست معالم جرائم قبل ذلك وقيدت ضد مجهول, لم تكن بفظاعة جريمة اليوم, ولكن ما يمنع من أن يكون مصيرها كمصير سابقاتها..
ورجال الأمن هناك ماذا يفعلون؟
أتريد رأيي؟... انهم متواطئون, لعلهم يقومون بالدور الرئيسي في طمس معالم الجريمة..
ولكن لماذا؟
ذلك ما أود أن توافيني بأسبابه..
وأهل الضاحية ماموقفهم؟
هذه هي المسألة..
أليست القتيلة منهم وكذلك القاتل؟
اني أومن بذلك كل الايمان..
اذن لم لاتكتشف الحقائق ويقبض علي المجرمين كما يحدث في كل مكان؟
هذه هي المسألة.
كذلك دار الحديث قبيل تكليفي بالمهمة. لم تكن مهمتي اجراء أي تحقيق بصفة سرية لمعرفة شخصية القتيلة أو القبض علي القاتل, ولأنه أمس متعذرا مادام قد مضي علي تاريخ الجريمة حوالي الخمس سنوات. مهمتي كشف السر عن الأسباب الخفية لطمس معالم الجرائم في الضاحية, عن المصلحة المشتركة التي تشد الناس الي ذلك الفقراء والأغنياء ورجل الأمن.
غادرت حجرتي لأمارس العمل الذي اخترته عندما قبلني رسول جاء يستدعيني الي مكتب الأمن. ذهبت من فوري قلقا متشائما.. مامعني الاستدعاء؟.. هل رابهم شيء في سلوكي؟.. هل أواجه التحدي وأنا لم أكد أشرع في العمل؟..
ومثلت أمام الضابط الذي سألني عن اسمي وعملي, ذكرت الاسم وقلت:
سواق تاكسي.
وقدمت البطاقة الشخصية والرخصة فراح يتفحصهما بعناية وأنا مطمئن الي أنه لن يجد ما يريبه فيهما, ثم تفحصني بنظرة ثاقبة وسألني:
لم اخترت هذه الضاحية للعمل؟
فقلت بعد تفكر:
انه حق مشروع لكل مواطن ولايستدعي في اعتقادي استجوابا
فأعاد سؤالة ببرود:
لم اخترت هذه الضاحية للعمل؟
فآثرت السلامة حرصا علي نجاح مهمتي وقلت:
عملها المحدود مناسب لرزقي وصحتي واتجه اختياري الي هنا لأني أصلا من مواليد الضاحية.
ألك بها أهل أو أقارب؟
كلا.. هجروها منذ حوالي ربع قرن..
الجريمة خلقت نفورا عاما من الغرباء.
كدت أسأله هل عرفوا هوية المجرمين ولكني أمسكت عن حكمة وتساءلت:
هل تقرر ابعادي من أجل ذلك؟
فرد الي البطاقة والرخصة وقال ببرود:
اذهب..
ذهبت وأنا أفكر بمدي ارتياب الرجل بي ولكني لم أجد في سلوكي مايسوغ ذلك علي الاطلاق فنحيته عن شعوري لأمضي في طريقي بلاظنون وهمية قد تربكني وتكشف سري.
وكنت أوصل رجلين في التاكسي الي المحطة عندما سمعتهما يتحاوران عن الجريمة:
فظيعة فظيعة. أي قسوة!
كانت بارعة الجمال!
ولكن النار لم تبق منها علي شيء؟
أعني لو لم تكن جميلة لما تعرضت للقتل. أنت تفهمني طبعا..
طبعا, وانقضاء خمس سنوات علي دفنها يجعل العثور علي دليل أمرا مستحيلا...
فتدخلت في الحديث قائلا:
قرأت في الجرائد أنه يمكن بفحص الموميات علميا, معرفة أسباب الوفاة, فاذا كان السبب جريمة أمكن بمناقشة الملابسات التاريخية تحديد القاتل في شخص أو طائفة...
فضحك الرجلان وقال أحدهما:
علي عهد الفراعنة كان الناس يموتون أو يقتلون لأسباب مقنعة..
وضحك الرجلان مرة أخري.
قلت لنفسي أن أحاديث الناس لا تدل علي أنهم متواطئون, وتقطع بأنهم غير راضين حتي ولو كانوا متواطئين, فلماذا يشتركون في اخفاء معالم الجريمة والتستر علي القاتل أو القتلة رغم ارادتهم أو رغم نفورهم؟!.
ومرة كنت أوصل أسرة الي عيون المياه فدار الحديث أيضا حول الجريمة.
ما يقال بخلاف ذلك فهو مجرد اشاعة.
انت تعلم كما نعلم نحن أنها الحقيقة..
وتوثبت لارهاف السمع ولكني لمحت في المرآة امرأة تحذر المتكلمين مشيرة بذقنها نحوي!. وجعلت أتقلب في شتي الأماكن كما أتابع الأحاديث في التاكسي, أسجل الكلمات في ذاكرتي, أناقشها, أفكر بأبعادها, أستنتج متعاملا مع الاستقراء والقياس, مستفيدا من كل ملاحظة.
وقد سألت رئيسي وكنت أزوره كلما أوصلت راكبا الي العاصمة:
ألا يوجد احتمال أن يكون مرتكب تلك الجريمة من خارج الضاحية؟
ليس ذلك بالمستحيل, وفي تلك الحال تكون الجريمة عادية وتأخذ العدالة مجراها..
ما الذي يحمل فقراء الحي الشرقي علي الاشتراك مع سادة الحي الغربي في اخفاء جريمة رغم حدة التناقضات بين الجانبين؟
تساؤل يقطع بأنك بدأت تضع قدمك في الطريق الصحيحة..
أرجح أن يكون القاتل من السادة!
تفكير سليم جدا!
هل يعني ذلك أن القتيلة من الجانب الآخر؟
قد وقد..
السر اذن يكمن في المصالح المشتركة بين الجميع حتي رجال الأمن أنفسهم؟
هذه هي المسألة..
وعلمت مما يقال في الضاحية إن الجثة اكتشفت وهم يحفرون الأساس لبناء مصحة الأمراض العقلية, وعرفت أول من عثر عليها من البنائين, وهو صعيدي من هواة الجلوس في مقهي الشمس بالحي الشرقي. وعملت علي التعرف به ومجالسته فشربنا الشاي معا. وسألته:
كيف كان شعورك عندما عثرت علي الجثة المطمورة؟
فقال بفخار:
ناديت أصحابي ثم جاءت الشرطة..
تبادلنا حديثا سطحيا مؤجلا الأسئلة العامة للقاء آخر, ولكني لم أعثر عليه بعد ذلك, وقيل ان ظروفا اضطرته للسفر فورا الي الصعيد.. تري هل وقع ذلك بمحض الصدفة؟. ساورني القلق فخفت أن أكون مراقبا علي غير ما أتصور, وشحذت انتباهي ما وسعني ذلك, ولكن لم أكف دقيقة عن نشاطي المرسوم. فتحت صدري لكل علاقة. استكثرت من الاصدقاء, قدمت الخدمات بلا حساب, وظل حديث الجريمة يجري علي كل لسان, في البيت والمقهي والسوق والتاكسي, يتردد بغيظ وحنق, وأحيانا بسخرية, ولكنه لا يشق حجاب الغموض أبدا, ثمة شيئ في الأعماق يعوزه التعبير, يكبته أنه في اللاوعي, أو الخوف أو الخجل أو الرغبة المحمومة في الهرب. ولاحظت ذات يوم وأنا في السوق أن امرأة فقيرة دمعت عيناها وهي تصغي الي حديث الجريمة الذي لا ينقطع. جذب وجهها عيني بفقره وجماله الذابل المتواري وراء غلاف من الاهمال والتعاسة. تري هل تبكي بدافع عاطفة انسانية عامة أو لأسباب أشد خصوصية؟. وقررت في الحال تعقبها من بعيد لعل وعسي. ولما وصلت الي آخر منطقة في السوق اعترضني صوت قائلا:
ها أنت تهيم علي وجهك مهملا عملك!
التفت فرأيت الضابط واقفا يرمقني بنظرته الباردة, فقلت:
جئت أتسوق.
وأين التاكسي ؟
في الميدان الجديد.
ومضي الي سبيله تاركا اياي في حيرة. فتشت بعيني عن المرأة ولكنها كانت قد ذابت في الزحام. ورجح لدي أنني أواجه تدبيرا محكما لا صدفة عمياء, وأن علي أن أضاعف من الحذر.
وتفرغت لعملي كسواق تاكسي أياما متتابعة, وكلفت خاطبة أن تبحث لي عن عروس مناسبة, ثم تسللت ذات ليلة, عند منتصف الليل, الي الحانة الموجودة عند مشارف السوق. وجدتها مكتظة بالشاربين, تضج بالنكات والأغاني, حارة بالأنفاس والدخان والهواء الفاسد. شربت قليلا ولكني تظاهرت بالنشوة والمرح, وأرهفت حواسي لتصيد الفلتات والشوارد. وكالعادة تطعم كل حديث, كل حوار, كل مزاح, بحديث الجريمة. قلت لنفسي متعجبا:
كأنهم جميعا مجرمون أو ضحايا أو الاثنان معا.
وسمعت ضمن الأحاديث حوارا ذا دلالة فيما أعتقد.
قال الرجل محتجا:
نحن ضعفاء.
فأجابه بحدة:
بل جبناء.
ماذا تفعل اذا اعترض سبيلك سياج من النيران؟
أرمي بنفسي فيها!
ارم بنفسك وأرنا شجاعتك.
وعربدوا ضاحكين. وأنثال علي نثار من الكلمات صالح لدي رباطه واعادة تكوينه لاعطاء اعترافات خطيرة أو ما يشبه ذلك. تابعت ذلك وأنا ألهث من شدة الانفعال. وشئ جذب رأسي نحو مدخل الحانة كما يقع لدي توارد الخواطر فرأينا الضابط يتسلل خارجا!أفقت من نشوتي وانفعالي, وتنبهت في غريزة المهنة فأدركت فداحة الخطر الذي يحدق به. امتلاك سر خطير من هذا النوع يعني الهلاك, وأنا خبير بأساليب مهنتي, ولذلك فعلي أن أفكر بصفاء ذهن. يجب مغادرة الحانة قبل أن تفتعل معركة من أجل القضاء علي قضاء وقدرا, يجب تجنب السير في الشوار الخالية, لا تستقل التاكسي حذرا من انفجاره لأسباب مجهولة, لا ترجع الي حجرتك حتي لا يغتالك كائن جاثم في ركن منها. الي المحطة رأسا عن طريق شارع المسلة, وهناك تتعدد الوسائل للوصول الي العاصمة.
وفي صحن المحطة شعرت بيد توضع علي كتفي فالتفت متوثبا فرأيت الضابط. وقفنا نترامق مليا حتي ابتسم قائلا:
جئت لأودعك بما تقضي به أصول الزمالة.
عدلت عن المكابرة وتمتمت ساخرا:
شكرا.
وهو يضحك:
ولم تترك التاكسي وراءك بلا سائق؟
فقلت ساخرا أيضا:
أتركه في أيد أمينة؟
وهو يعاود الضحك:
تري ما الملاحظات التي تمضي بها؟
ففكرت غير قليل ثم قلت:
أنكم لا تؤدون واجبكم!
الناس لا يتكلمون.
أعلم أن أرزاق البعض بيد البعض الآخر ولكن الغضب يتجمع في الأعماق وللصبر حدود.
فهز رأسه باستهانة وتساءل:
ما واجبنا في رأيك ؟
أن تحققوا العدالة.
كلا. كلا؟!
واجبنا هو المحافظة علي الأمن.
وهل يحفظ الأمن باهدار العدالة ؟
وربما باهدار جميع القيم!
تفكيرك هو اللعنة.
هل تخيلت ما يمكن أن يقع لو حققنا العدالة؟
سيقع عاجلا أو آجلا.
فكر طويلا, بلا مثالية كاذبة, قبل أن تكتب تقريرك, ماذا ستكتب؟
فقلت بامتعاض:
سأكتب أن جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب؟

نجيب محفوظ

نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 06 - 2013

أعلى