سيد الوكيل - الحرم.. قصة قصيرة

أن يكون لك حرم، لا تسمح للآخرين باقتحامة، ليس فقط ضرورة أمنية، تحمي بها نفسك من تعديات الآخرين، ولكنه أيضا سلوك غريزي.

نعم.. سلوك غريزي مازال مقيما في نفوسنا. نحن نرث كل السلوكيات الناشئة عن الغرائز من أجدادنا الأوائل، من إنسان الهوموسبينس، أول كائن قرر أن يقف على قدمين، ليستفيد من يديه، وهكذا ضاعف إمكانيات وجوده.

قبل ذلك كان الهومسبينس مجرد حيوان يمضي على أربع.

الأسد له حرم كأي حيوان، غير مسموح لأحد باقتحامة . فقط يسمح للإناث الراغبة في التكاثر، هذا ليس عن اختيار بل عن غريزة أيضا. أنثي الحيوان لا تقترن بالذكر إلا في موسم التكاثر، الذي لا ينشأ عن رغبة كما عند الإنسان، ولكن عن غريزة البقاء. الإنسان هو الحيوان الذي جعل الجنس متعة في حد ذاته.

ذكر الأسد يعرف دوره في غريزة البقاء.. أعنى بقاء الجنس. لهذا يسمح للإناث فقط باقتحام حرمه. وهي عليها أن تختبر هذه الرغبة بطرائق غريزية أيضا. سترفضه كثيرا وتختبر إصراره، وفي سبيل ذلك قد يدخل في معارك مع أساد أخرى، ليؤكد لها أحقيقته بأن يمطتيها. يعرف أنه لو انهزم من الذكر المقتحم لعرينه، فعليه أن ينسحب، ليسمح للأسد الأقوى أن يضاجع أنثاه.. هذا أيضا أمتثال لغريزة البقاء.

العرين ليس مجرد بيت أو وكر.. العرين هو مساحة من الأرض عليه أن يسيطر عليها.

تمتلك الأفيال حيازات مكانية أكبر من الأسد.. فالأسد لا يمكنه غير رعاية نفسه فردا، لم يفهم معنى الاجتماع حتى الآن، يأكل من الصيد، ولا يحتفظ بما تبقى منه، لهذا فالحرم عندها أوسع

تستطيع الأفيال أن تحظى بحرم مكاني هو الأكبر بين الحيوانات، إنها الأقوي، والأكثر ذكاء، وتملك في راسها الكبير غدة ذكية، تدفعه إلى التعاطف والتشارك، ورعاية الأبناء وتبادل المشاعر كالحزن على الموتى، والصداقة بين أثنين بل وتعرف الغزل.. وتخلق نظاما مجتمعيا، فالفيلة الأكبر سنا تقود القطيع، والأقوى تدافع عنه، والأضعف تحظى بالرعاية من الجميع.

أنهم يدركون علاقة طعامهم بالطبيعة، يمشون في طوابير حتى لا يدهسون الحشائش ويقتلعون الشجيرات. يتنقلون بين الأمكنة ليعطونها فرصة أن تجدد نفسها وتنبت من جديد..

الإنسان يوسع مفهوم الحرم، ليبدأ من جسده، ثم جسد زوجته وأولاده/ ثم عائلته، ثم قبيلته، ثم دولته.

الإنسان يفعل هذا لأنه الأذكى بين الكائنات.. فقد استطاع تفعيل غدة التعاطف التي امتلكتها بعض الحيوانات أبرزها القردة .. هذه الحيوانات التي تسمى بالرئيسيات، وهي الأقرب للإنسان في تشريحه العضوي والسلوكي.

أنثى الهوموسبيانس أول من عرف معنى العاطفة، عندما شاركت أطفالها في الطعام، واحتفظت لهم بما يكفي ليكونوا قادرين على الحياة.. أنه المعنى الأول للأمومة، الذي خرجت منه معاني العطاء والتشارك والاجتماع. لقد فعلت هذا على نحو غريزي بهدف بقاء الجنس.

الإنسان امتلك الفص الجبهي في مخه، إنه الفص الذكي (العقل) الذي يدفعه لمراجعة غرائزة التي لا غني عنها، هو لا يمكنه أن يتخلص منها، ولكنه يجد طريقة لتحقيقها بدون قتال الأسد مع الذكر المقتحم، وبدون قتال قبيلة القردة المجاورة.. هذه معالم تمدين الإنسان وحضارته وسر تطوره.

لكن هذا لا يجعله يتخلى عن فكرة الحرم، بل يطورها، ويوسعها، فيصبح الحرم وطنا، ويصبح للوطن آليات للقوة غير القوة الجسدية، وآليات للتفاعل بين أفرادة غير مجرد السيطرة الفردية..

إنه يعرف أن السيطرة الفردية محدودة وبلا عائد، لأن ( القوي هناك الأقوي منه) لهذا فإن أساليب السيطرة تبدأ بالعطاء قبل الأخذ.. فكلما أعطيت تأخذ أكثر.. إنها السيطرة الناعمة.. الثقافة، الفن، البناء والتعمير، العمل والإنتاج..

لكن المعادلة الصعبة: كلما حقق الإنسان شيئا من المكاسب الناتجة عن السيطرة الناعمة، زاد إحساسة بالقلق، والمسؤولية عن مكتسبات حرمه.. ومن هنا تأتي المسؤولية المجتمعية لحماية هذه المكتسبات، وحماية الحرم من أي عدوان..

إنه ليس مجرد أسد، يمكنه أن يهرب، ينفد بعمره تاركا عرينه للأسد الأقوى، الذي لن يحظى بمكانه فقط، بل بزوجته وأولاده ليكونوا في خدمته. في خدمة المسيطر الجديد.

فقدان السيطرة على المكان، هو المعنى الرمزي للعبودية.

دائما هناك سلطة.. لكن الإنسان اخترع السلطة المنظمة، لأنها أكثر أمنا من السلطة العشوائية.

فإذا فشلت في الدفاع عن حرمك، وتقلصت سلطتك عليه، فابشر.. أنت في الطريق إلى سلطة جديدة، وعبودية أكثر شراسة، حتى لو ذهبت إلى أمريكا أو ألمانيا، أو تركيا. ستعاودك مشاعر العبودية المؤلمة.. وتشعر بالاغتراب.



  • Like
التفاعلات: عبده حسين إمام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى