عبد الرحمن مجيد الربيعي - دليل الحيران في طالع الإنسان

الربيعي.jpg

طريق مكتظ بالسيارات التي حشرتها إشارة المرور الحمراء في ثلاثة طوابير كثة ، أسفلت الشارع يلهث بالحرارة ، مائدة بأربعة مقاعد يتصلب فوقها رجل مهموم ، طاولات أخرى ، رجل آخر ملتح يحتسي كأسا من البيرة وهو يتحرك في جلسته بينما تتحرك شفتاه بكلمات غير مسموعة ، مراهقات يشربان البيرة كذلك ، يحتلان طاولة قريبة من زجاج المقهى المطل على الشارع ، آلات تكييف الهواء لم تفلح في إغتيال نيران السخونة الرابضة على المدينة كلها ، نادل طويل يقميص أبيض و بنطلون أسود يقف كالمتحفز لتلبية طلبات الزبائن رغم عددهم القليل وهم يمارسون الإسترخاء الغافي ردا على سخونة الجو.
على طاولة الرجل المهموم كاس ماء كرع مصفها و فنجان قهوة فارغ ودفتر ملاحظات ضغير على غلافه صورة لطائرين فوق غصن ، وعلى الطاولة أيضا نظارة طبية ومسبحة زرقاء.
تتحرك أفواج السيارات كلما إعتلق ضوء المرور الأخضر ثم تعود وتتجمع عندما ينطفيء و يعتلق بدلا عن ه الضوء الأحمر ، وبعد ثوان يتعبأ الشارع بالسيارات ، ثمة بشر يتحركون فوق رصيف الشارع ، لا أحد يدري لماذا ؟ لاشيء يوقف هؤلاء البشر عن الحركة ، بعضهم يعبر الشارع شاقا طريقه في الفسحة المتروكة بين السيارات عند توقفها.
رجل مهموم غادرت سماواته غيوم الفرح ، لم يبق له إلا الجفاف المكفهر الذي ينخر مآقي العيون و يجعل الشفاه عاجزة عن الإنطباق ، تتهدل ناشفة مثل مدى في صحراء.
أمام وفي الجهة الأخرى من الشارع عمارة من ثلاثة طز\وابق ، يافطات لمحامين و أطباء أسنان ، أزياء الأميرة الساحرة ، حلاقة جبار ، اسواق ميسلون ، احذية أسيل ، إمرأة بعباءة سوداء تمشي متمهلة كانها في نزهة ، لم يتحرك أحد ليوقفها و يسألها : الى أين ياسيدتي ؟
( يد تلمّ يداً أخرى
أنفاسك وحدها تسكن رئتي .
هدهدني أريجك فغفوت )
يواصل الرجل المهموم تقليب دفتر ملاحظاته ، يفعل ذلك بعد أن يلقي نظرة على صورة الطائرين وكأنه يراها لأول مرة ، طائران آمنان فوق غصنهما ، يحتلان مساحة الغلاف كلها.
عينان ضاعتا يوما ً في نهار مقرور من مدينة هناك ، عينان أخذهما مجرى النهر ، حولهما "" الفيستولا " 1 الى شراعين ينسابان ، يمران بقرى وسواحل شقراء تلتهم الكافيار و الفودكا و تغني اعشاق جذلين صادرت الكؤوس رؤوسهم.
رجل مهموم يزرع وقائع ايامه كلمات يطرز بها أوراقه الصفراء و يكدسها في حثيبته اليدوية علها تجد فرصتها يوما ً فتكون حرابا ً لنحر العفن و الإتجار.
مائدة صغيرة في قبو نصف مشاء ، أعمدة حجرية و أقواس وموسيقى من " زيغمونت نوسكوفيسكي " 2 ، زجاجة نبيذ أبيض ، فخذ بطة مقلي ، مقبلات بولندية أخرى ، دفء مطعم " السلالم الحجرية " 3 غامر كالعناق ، حركة من الرواد حيث يذهبون الى مشجب الملابس أو ياتون منه ، نفر من العشاق لم يمنعهم البرد عن الجلوس فوق السلالم الحجرية ممدين سيقانهم ، وأقدامهم آمنة بالأحذية المبطنة.
" الفيستولا " يجري آمنا ، القلب يرتبك نبضه . جرعة من هذا النبيذ الأبيض تعيد إليه شيئا من هدوئه.
للرجل المهموم موعد مع صديق ليحضرا مسرحية عن فرانز كافكا ، مزاوجة بين وقائع من حياته وفصول من قصصه أبدع في صياغتها " تاديوش روجيفتش " 5 ، ولقد حملت المسرحية إسم " المصيدة " ، أية مصيدة هي يافرانز كافكا ؟ يا تاديوش روجيفتش ؟
يفتح إمرؤ عينيه ليجد نفسه مسخا ، يتحرك رجل في شوارع مدينته ظنا منه أنه حر يفعل ما يشاء فإذا هو متهم ، قضاة ورجال شرطة وكلاب صيد وقوانين مزعومة و اسئلة و أحكام وسماسرة ومخبرون وخدم وعاهرات وابلناء قحاب و …هكذا يقع في المصيدة ، رجل مهموم عليه أن لايكون سهلا عندما يمضغونه ، عليه أن يكون حسكا ينبت في لهاة كل واحد من الآكلين.
سلاما ايها " الفيستولا " الجميل ، شطآنك الأرحب ، الأوز الأبيض ، الزوارق ، الأحلام ، الأحزان ، المكائد.
طاولة في قبو دافيء ، رجل مهموم إغتال زجاجة نبيذ كاملة ومازالت العروق تصلي لمجيء الدف الضائع، جرعتان من الفودكا تتحرك بعدهما يد لتمسك بالسكين وتتحرك يد أخرى لتمسك بالشوكة وتعملان في فخذ البطة تقطيعا لتحط القطع في فم الرجل المهموم ، يمضغها بتمهل و إلتذاذ. رجل مهموم الآن ولكنه يومذاك لم يكن مهموما ، كان سعيدا ، له جناحان وجواز سفر و تذكرة طائرة ونقود ومواعيد مع نساء وأفراح صاخبة.
موجة من الزيائن تدخل المطعم مع قهقهاتها ، يتطلع الى بعض الوجوه بإستنكار رجل له هيئة أساتذة الجامعة ثم يسحب نظراته بشيء من اللامبالاة ويعود الى صحونه التي صفت على الطاولة أمامه.
نزهة أخرى في برد المدينة القديمة المعبدة بالجليد ، كم هو طويل نهار " ستاري مياستو " 5.
يستل دفتر الملاحظات من أمامه ، يتألق صفاء كأس الفودكا الثالثة التي طلبها لتسهل مضغ لحم البطة الذي لم يعتده. يحمل الكاس ويرميها في جوفه دفعة واحدة.
- 2 –
( دليل الحيران في طالع الإنسان للرجال و الأطفال و النساء ) 6 . كتاب أصفر ، عثر عليه في مكتبة مظلمة تقع في زقاق جانبي من المدينة العتيقة في بلد إقترن إسمه بالخضرة ، يومها لم يكن مهموما هذا الرجل المهموم الآن و المركطون أمام الواجهة الزجاجية من "كافتريا المنتصور " 7 ، لم يكن حزينا يومذاك ، وجهه مخضب بماء الكولونيا ويده تلتقط فنجان القهوة بتمهل ، مقهى " الروتوندة " 8 يغص بزبائن المساء وجلهم من كارعي البيرة ونافثي الدخان و آكلي اللوز المملح ، باعة الياسمين ، ومناد يحمل صحف المساء و يطلق صوته مرددا إسم إحداها : " لوموند...لوموند...".
الرجل الخلي يقلب صفحات الكتاب ( دليل الحيران في طالع الإنسان ، تجد فيه طالعك الفلكي لمستقبلك في جميع النواحي وعن تطورات حياتك النفسية والمرضية و الصحية والعلمية والزوجية وعن مشكلاتك وتقلباتك و غتجاهاتك لماضيك وحاضرك وغيرهما ).
ويقرا أيضا غسم مرلفه ( الأستاذ ) عبدالفتاح السيد الطوخي مدير عام معهد الفتوح الفلكي في مصر.
ثم معلومات تفصيلية اخرى... قراءة الكف ، البلوزة السحرية ، الفنجان ، العنوان ...
( لايحميني سدّ أو نخلة
( أفرد ذراعيّ مثل طائر منسترخ
حدودي أحتيحت بالريح والأمواج
أهاب السماوات الفسيحة
أتجاهل إغراء ناداءتها
أطوي ذراعيّ حول صدري
و أحط على كرسي مخلع
دليل الحيران في ...
كل الأيام التي كانت
كل الأيام التي ستكون
أجتث حنظلل البُعد
فربما تورق شجرة الحرير
......................................
كبت
صدا
حريق
أنغامهم ثغاء
قطعان تافهة
خدم رقعاء ).
- 3 –
رجل مهموم ، لاتقربوه فدمه بنزين ، أبعدوا علب الثقاب ، خبئوا القداحات ، تناسوا التدخين ، كلو الأطعمة الباردة ، رجل مهموم ، أظفاره سكاكين بها يفقأ عيونكم ، صوته زئير يشكل رعبكم المزمن ، تنفسه صراخ يوقف دورة الدم في عروقكم.
رجل من حقد وثارات وحرائق قادمة .
الساعة تشير الى الثانية عشرة وعشر دقائق ظهرا ، دفتر الملاحظات ما زال على الطاولة بطائريه الآمنين ، تعلو أصوات منبهات السيارات حيث إرتطمت سياراتان ببعضهما ، ينزل سائقاها ، يصرخان ، يتجمع المارة، يمنعونهما من الإشتباك ، منبهات السيارات تنطلق كلها دفعة واحدة ، يأتي شرطي المرور ليفرض هيمنته و يسيطر على الوضع .
ينطلق الرجل الملتحي الأول لأول مرة بصوت مسموع إنتيه اليه المراهقان اللذان كانا يشربان البيرة وهو يقول :
- ياله من حر ، جهنم الجمراء.
أطلق تعليقه دون أن ينظر ردا من أحد لكنه ادار رأسه بإتجاه الشارع و أخذ يراقب ما يجري.
يطلب الرجل المهموم فنجان قهوة آخر ، يلتقط دفتر ملاحظاته ويبدا بتقليب أوراقه.
- 4 –
مقصورة في قطار يشق طريقه بين المدن والمزارع ، هناك ؤجل يميزه حوضه العريض ، كان يجلس فاتحا ساقيه بينما إنسحب طرفا بنطاله الى أعلى ، بيد\ه صحيفة يقرأ فيها تارة ويغفو تارة أخرى.
هناك ايضا في نفس المقصورة ثلاث راهبات حاول الرجل المهموم – وكان يومذاك سعيدا – أن يعثر على لغة تكون واسطته للتكلم معهن ومقارعة الوقت الفاتر الذي يمر خاليا أجوف.
تطلعت إليه إحدى الراهبات ثم نطقت موجهة الكلام له ، وخمن انها سألته عن بلده ، ورد بشكل سريع ، هزت راسها كأنها فهمت ما قال ثم غلتفت الى زميلتها وتمتمت ببضع كلمات ، فهزت هي الأخرى رأسها.
نزلن في قرية على الطريق ، كن ناعمات مثل الأنسام . نظيفات ، مباركات.
في قرية لاحقة صعد راكيان جسيمان ومعهما حقائب كثيرة بحيث لم تتسع لها كل رفوف المقصورة فتركا قسما منها في الممر ، وكان أحدهما يحما غضافة الى الحقائب مهد طفل ، وكان يميز هذا الرجل معصماه الضخمان لدرجة إضظرته الى طي كمي سترته غذ يتعذر عليه إطباق أزرارهما.
وفور تحرك القطار أنزلا حقيبة صغيرة من الرف و غستخرجا منها طعاما وبرتقالا وراحا يأكلان بسرعة و بصوت مسموع. الرجل الذي يفتح ساقيه ما زال يتارجح بين إغفاءته وقراءة الصحيفة ، فاحت رائحة البرتقال في المقصورة ممتزجة برائحة لحم الخنزير المقلي ، وبعد ان فرغا من طعامهما أغمضا أعينهما وسرعان ما ناما وتعالى غطيطيهما الثقيل.
يتطلع الرجل المهموم ، السعيد من نافذة القطار ، في الأفق رحابة و في السماء وساعةى لاتحدّ ، لكن في الشارع الصيفي هذا ضيقا قاتلا الآن ، تحتشد صفوف السيارات والمارة و الأبنية و رائحة الأسفلت الذائب من غضب الشمس.
( يدّ لاتلم يدا اخرى.
يد تلم الفراغ.
تذرو حفنات من الرمل على شاطيء خال
ثلاث راهبات غادرن القطار
مصيدة فرانز كافكا محكمة
دليل الحيران الى أين ؟ وكيف ؟
الفيستولا يجري
الأوزات يتناغمن مع سقسقة الماء
زجاجة النبيذ البولندي قضي عليها.
جرعات الففودكا كذلك
راسلة في صمندوق البريد
نوافذ موصدة أمام زحف الجليد
رجل دمه بنزين
لاتقربوه إقتاء الحريق
هذا تحذير
هذا تحذير ).



بغداد 1988




ـــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
1 – الفيستولا أو الفيسوا إسم النهر الذي يمر بالعاصمة البولندية وارشو.
2 – زيغمونت نويسكوفيكسي : موسيقي بولندي مشهور.
3 – تاديوش روجيفتش شاعر و كاتب مسرحي بارز.
5 – ستاري مياستو : المدينة القديمة باللغة البولندية.
6 – دليل الحيران في طالع الإنسان : هناك كتاب شعبي بهذا الإسم فعلا.
7 – الروتوندة : مفهى في تونس العاصمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى