عبد علي اليوسفي - كهل بغداد

يمكن للمار بسرعة ووجل ان يرى رجلا ناهز عمره الستين عاما.. يرتدي قبعة اجنبية على راسه ومعطف صوفي رصاصي مسنن بخطوط بيض تراها عن بعد متلاشية مع اللون الرصاصي العام للمعطف وبنطال اسود لم يظهر منه سوى مايغطي الساقين. وحذاء جلدي بني اللون . للرجل وجه احمر منمش ومستدير قد اظفت عليه النظارتان السميكتان اناقة ما. حتى يبدو قبل الاقتراب منه من قبل الناظر اليه . انه من جنسية غير عراقية... كان ينقل خطاه بتمهل وهو يتامل المدينة. وكانه زائر جاء من مدينة بعيدة، وقد قرا وسمع الكثير عن هذه المدينة التي وطأت قدمه اياها الان، أو هو احد ابناء المدينة وقد غادرها منذ زمن بعيد. وتحدو به رغبة عارمة ان يتجول فيها ويراها عن كثب. مستعيدا ذكريات الماضي التي قد نات بعيدا اثناء تقدم الزمن الذي لايتوقف يوما ولا ساعة ولا دقيقة عن الجريان كنهر المدينة الذي الفه وهو في غربة امتدت طويلا . المدينة الان تعيش وحشتها كقلبه الكهل. اذ الطيران يحوم حولها وفي سمائها. وقد احالت الطائرات الحربية معظم مرافق المدينة الحيوية.. كدائرة الاتصالات العملاقة .والبنك المركزي. وبعض الفنادق الدولية إلى اكوام من التراب والانقاض .وكان شارع "السعدون" الذي غادره يعج بحركة مائجة للمارة وكل شيء ينبض بالحياة. المحلات ،المكتبات، الفنادق، المطاعم، البارات، محلات التسجيل، التي كان يقف امامها .وهو ثمل وقد هزته الانغام الصداحة، وكان الشارع موحشا ومخيفا انعدم فيه المارة سوى بعض الصعاليك ..والسكارى.. وبائع السكائر وبعض النساء ذوات السحنة التي تشبه الزنجيات كثيرا. وهن ينظرن اليه بفضول وربما دعوى ماقد ادركها بداخله "لم يبق بالمدينة غير اللصوص" قالها وهو يتذكر نصيحة صديقه في كازينو "الحمراء" في بيروت نصحة صديقه الشاعر المعروف .. ان يتريث حتى تهدا العاصفة التي تجتاج المدينة.. غير انه اصر على ان يرى التغير يحدث تحت ناظريه ..

كان عليه ان يذهب إلى اخته في حي "قناة الجيش" ولكن اين يجدها لاسيما ان العنوان الحقيقي لها لم يعد يتذكره لكنه متاكد انه مع اوراقه وقصائده في الحقيبة وعليه الان وقبل الغروب ان يجد له مكانا .. ومن ثم التخطيط لما يقوم به في الايام التالية . مر بمكتبة "النهضة" كانت المكتبة مغلقة .كل شيء مغلق. المكتبات . المحلات. الدكاكين. بابواب الحديد الثقيلة، والاقفال الكبيرة، وكان الناس غادرتها إلى مدن اخرى .

تامل لوحة المكتبة خاصة كلمة "نهضة" هذه (النهضة) التي حلموا يها كثيرا وبنوا عليها امالا واسعة هو جيله ولم ينهض احدا ابدا وظلت كلمة (النهضة) مجردة من كل معنى كان يعمل فيها هو وفتاة رائعة الجمال ترى اين هي الان؟ ربما رحلت عن هذه الحياة وربما هي عجوز الان تتلفع في جوف غرفة مظلمة وهي ترتجف من رعيد الطائرات التي تهدم المدينة كل يوم. الم يخرج هذا اللعين الا ويدعها ترابا كما اوعد اهل المدينة ؟... تبا لك يا ابن ال ...؟!!

أي حلم متثائب اتذكره الان. مرت طائرة حربية منخفضة بعض الشيء في سماء المدينة وصوتها يهدر، ذعر كل من كان هناك ولاذ للاحتماء باقرب ركن من بنايات الشارع .

كنا نتبادل احاديث الحب مثل طائري حب يتبادلان القبلات بالنقر.. قد جلب صاحب المكتبة اثنين منهن. ذكر وانثى ان منقار الذكر اصفر والانثى ارجواني يميل إلى الاحمرار وكانه طلي بقلم الروج الاحمر .

...(عندما ولج الرجل الذي ناهز عمره الستين عاما المكتبة. التي تقع ولا تزال في بداية الشارع خلف النفق .

بعد ان القي نظرة شاملة على المعروضات من الكتب والمجلات والصور الملونة والموسوعات الصغيرة .

والرزنامات ربما كان بعمري الان تماما .

.. اطال النظر في رزنامة العام الجديد انذاك وكانه يحصي ايام العطل والمناسبات الوطنية وايام الجمع المخطوطة باللون الاحمر .

طال وقوفه على الرزنامة حتى بدا من وراء الزجاجة التي نجلس وراءها يهم بامر ما أو يحل رمزا مستعصيا عليه .

قال : ربما يحل الكلمات المتقاطعة .

"- اعتقد ذلك" واندمجنا بضحكة كشفت هي عن اسنانها اللؤلؤية الناصعة البياض بعد انفراج شفتيها وبدت نقطة حمراء على احد اسنانها الامامية ربما لسرعة استخدامها لاحمر الشفاه. لم ادرك ان الرجل .. مثلما انا الان يعيد بذاكرته رزنامته الخاصة. احداث كل مناسبة ،وعدد الذين وقعوا فيها وكمية الدماء التي سالت . وشرائط الاطلاقات العمياء والفزع والخوف وصيحات النساء واصوات الاسعافات المجلجلة في المدينة. وربما يقول مع نفسه ان اغلب الناس لا يعرفون جوهر هذه المناسبات والعطل مثلما هو يعرف. هم يتمتعون بها وكفى ذكر مامضى" اين وصلت الان لا ادري؟ ضحك مع نفسه وهو يصل إلى تمثال "ساحة النصر" اين التمثال انهم ابدلوه ربما قعلوه !! قد ان اوان القلع.. قبل ان يعبر راى رجلا ممدا على الارض تفوح منه رائحة الخمر النفاذة .

ثم مجموعة من الصبيان يهرولون باتجاه ازقة البتاوين وحاراتها الضيقة الطافحة بالمياه الاسنة .

"كنا نوغل بالضحك وهي تقول "ربما انتقل إلى مناسبة اخرى في الرزنامة" وهو يعيد بخياله احداث هذه المناسبة. وكيف شارك بالمظاهرة انذاك وهو يهتف أو وهو يتلقى الضربات القاسية التي تلسع ظهره. وكان قد حمل فتاة اغمي عليها مبعدها عن دهس الاقدام المتزاحمة وشق طريقه بصعوبة بين المحتشدين والثارين. لينتحي بها جانبا عندما تلقى ضربة على راسه ولم يفق الا وهو في المعتقل .) (.. ربما اعثر عليها الان واتحدث معها عن تلك الذكريات ولكن اين القاها الان وانا في وحدتي انقل خطاي التعبي في هذه المدينة المثقلة بالوحدة والقذائف الطائشة؟ واين هذا الرجل الذي علق بذاكرتي . ربما هو انا من يدري ؟ واين شيخ همنغواي؟ وهل القوة التي بداخلي من الذكريات تشبه قوة ذالك الشيخ الذي انتصر على مجاهيل البحر واتى بتلك السمكة الكبيرة العملاقة التي اثارت اعجاب الاجانب والسياح؟ هو اتى بعمود فقري لسمكة سميت فيما بعد انتصار على حياة ما واثبت ان الانسان اقوى من الاهوال ولكن ماذا اعمل ازاء مدينتي الموحشة التي يزلزها رعد الطائرات؟ الحنين! اللعنة على هذا المرض المستعصي الذي لا يمكنني التخلص منه ،حنين الطفولة والذكريات .

أما كان لشيخ مثلي ان يمكث هناك حيث كنت واغفوا إلى الابد لاغيا هذه الاضغاث من الاحلام التي لا يمكن لها ان تنبت في هذه المدينة؟ "ولج المكتبة . وربما ولجت انا.. مسح المدخل بنظرة وكذلك انا وفتاتي تأمل الرزنامة من الداخل كانت الارقام مقلوبة بالعكس وهو لايزال يتبين الارقام الحمر. من جهة اليمين استمر في البحث سحب رزمات من الكتب المرصوفة كتابا كتاب يطالع العنا وين ظننت انه يقرا اسعارها لكن الفتاة تساءلت .ماذا يبحث رجل مثل هذا يتعدى عمره استين..؟ ايعد بحثا؟ ام يكمل دراسة عليا؟ ان شيء من هذا القبيل غير مقنع لرجل مثل عمره. ضعيف البنية وبعينين رماديتين كليلتين ويرتكز على عصاه .قلت "ربما يبحث عن مؤلف له نفذ"

قالت: ربما! ثم اردفت.. لو عرفنا اسمه لسهلنا له الامر في العثور عليه . "وهل تعرفين كل اسماء المؤلفين؟" نحن تعرف المشهورين منهم الذين حصلوا على جائزة نوبل. ولا نعرف كثير من الناس الرائعين والمبدعين. في السجون والمنافي. والمعتكفين .والضائعة فرصهم والصامتين الذين ادركوا سر اللعبة" .

اضرب الارض بعكازتي التي تشبه كثيرا عكازة ذلك الرجل العالق في خيالي ادور في الازقة التي تاهت بذاكرتي الان ولم تعد تلك التي عهدتها ايام الصبى والغربة ابحث عن تلك الملامح المرسومة بخارطة لاوعيي. لان الاشياء التي نغادرها والاحداث التي ننساها أو نقرؤها منذ زمن بعيد تستقر بلا وعينا قرص الشمس النقي في (جدارية) جواد سليم .هذا القرص الذي حرص عليه صافيا دون ان يدخل فيه حتى سدارة ما تغطي راس جنرال أو خيوط من الغيوم السود أو البيض أو الرمادية أو عيون اخر تشرق على المدينة .لم يدخل فيه غير اشراقة قلبه النقي.. والام المحلقة في فضاء حديقة الامة. تلك الام العملاقة بقوامها الرشيق الممتلئة بالعزم والانوثة الطاغية اللاهبة قلوب الرجال لدفئها البعيد المنال وهم يمرون كاقزام محاذين لاقدامها ..بي رغبة عارمة ان اطوف المدينة كلها. ولكن هل اتمكن؟ .. اعبر إلى ساحة الطيران وارى الوجوه الحالمة وحمامات السلام (لفائق حسن) وتمثال الفرس الجامحة ..هل مايزال هناك؟ كان الكهل يتصفح الكتب مثلما اتصفح انا الشوارع المدينة المنهارة يعيد بعضها إلى مكانها ويطيل النظر في كتب اخرى يقلب صفحاتها واحيانا يفتح كتابا من النصف كانه حفظ صفحاتها عن ظهر قلب يقرا بعض المقاطع تتقلص تعابير وجهه يبتسم أو يطلق اهة.. واحيانا يطفق متاملا ويتناول اخر ويقرا فيه بعض المقاطع تتقلص تعابير وجهه. وتصير في يده اكثر من خمس كتب لا يقوى على السيطرة عليها فتتبعثر من بين يديه.. يجمعها ثم يعيدها إلى رفوفها يبقى كتابا بيده فترة يبحث عن رفه .ولما لم يجده يرميه بين الرزم كان هو منهمك في عالمه وكان الناس في شغل منه. يدخلون ويخرجون منهم من يشتري ومنهم لا يبتاع أي شيء كان هو الرجل السائد لوحده في عالمه.. وهو يتصفح الكتب وكانه عائد من سفره طويلة اظنته.. ولابد له من من زيارة اصدقائه فيصافح ابطال القصص والرويات مدام بوفاري. جان فلجان . شيخ همنغواي. بينجي فوكنر. جاتسبي العظيم. دكتور (ريو) بطل الطاعون . ابطال ديكنز، تشيخوف .صاحب المعطف. بطل الجريمة والعقاب. والوجه الاخر، .النخلة والحيوان. حراشيف نجيب محفوظ..)

انحرفت إلى نهر المدينة وكل شيء مغلق الاشجار وحدها تتقاذفها الريح إين المرافئ؟ هل وطاتها القذائف؟ كازينو (الزرقاء) (البيضاء) (الركن الهادئ) (حانة بلقيس) (الشاطئ الجميل) (وردة الصباح) (القصر الابيض) (المصابيح الملونة) (شريف حداد) (مشواية السمك)، العشاق وهم يحتظنون الجذوع العملاقة. النهر بمياهه الضحلة الراكدة والمنسابة ببط نحو البساتين العطشى كانت عكازتي تطرق الشوارع الخربة وضحكات الاصحاب تصطخب براسي بوجوههم الجميلة وابتساماتهم وضجيجهم وامالهم المشرقة اين هم الان؟ اطاعون جديد اجتاح لالمدينة. علي ان اعود إلى الحي الاتيني (البتاوين).. لاحل غير ذلك. اين اجد اختي؟ هي الملاذ الوحيد في هذه المدينة المنهارة كانت به رغبة عارمة لمصافحة اصدقاء خياله. انه يشعر بحنين طاغ لمحاورتهم ..يتصفحهم ينتقي صفحة كان قد اشرها في كتيه الخاصة وكان بقراءة هذه المقاطع يتكلم معهم لم ننتبه لوجود الرجل حتى اننا تصورناه قد خرج .كان هو قد وصل إلى الزاوية المظلمة القصية من المكتبة متوقفا امام رفوف جديدة من القصص والروايات المترجمة .ماضيا بتصفحها تباعا. خيم المساء وغلفت المدينة سحنة المساء الرمادية واتلقت مصابيح بعض المحلات والنيونات الملونة لتبدد العتمة التي تلت ضياء الشمس .

وتضائل عدد المارة من امام المكتبة من وراء الزجاج .وهممنا باطفاء الاضوية و اقفال المكتبة عندما تنبهت الفتاة مندهشة إلى الرجل. وهو منهمك في الزاوية القصية قالت بدهشة: لايزال الرجل هناك!!.

•- نعم!
•- الرجل الا تراه!
•- لم يعثر على مولفه بعد.؟
•- يظهر ذلك
•- فلا ذهب اليه.

في اللحظة التي ذهبت فيها اليه وما ان شعر باقترابي منه انفلتت من يديه حزمة من الكتب مبعثرة فحاول جمعها معتذرا .

وقد سقطت عويناته الطبية؟

•- قلت : دعها عنك.
•- قال اسف
•- على ماذا تبحث؟
•- عن مجموعة قصصية لي. قالوا طبعت مؤخرا .
•- الا تعرف ذلك.؟
•- كلا
•- كيف؟
•- ان مؤلفاتي تبعثرت في الريح .
•- متى حصل هذا؟
•- عندما هبت زوبعة من الرياح العاصفة والممطرة على بيتي وتكسر زجاج مكتبتي .

وعبثت الريح بمسوداتي.. فاخذت تلطم وجهي.. وتصطدم بالجدران ،وشباك النافذة المهشمة ثم اندفعت الريح القوية من النافذة ففرت مثل الطيور الحبيسة في قفص. حدثت الفاجعة في ليلة مظلمة مما تعذر علي الامساك بها .. كانت محلقة في الافاق .ربما دفعتها الريح إلى الغابات البعيدة. والصحاري .وطمر قسم منها في الاوحال.

وربما احرقوها فقالوا ان احدا عثر على احدى مسودات قصصي المطفاة الكلمات بفعل المطر والاوحال. واعاد طبعها .

قلت : عجيب .كانه حلم
•- لاتتعجب !
•- ما اسمك استاذ؟
•- عبد الصمد مجهول
•- لم اسمع بهذا الاسم

وبينما اطفئت فتاتي نيون المكتبة. ودعت الرجل وخرج يضرب الارض بعكازه .منداحا في شارع المدينة كانه بالون يتدحرج في الريح .


عبد علي اليوسفي


عبد علي اليوسفي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى