حسام المقدم - صلاة ممتدة للملك.. قصة قصيرة

الليلة يطوف بنا الملك طوافه الأكبر.. فدعونا نعرف يا أحباب
يظهر قادما في ضوء العواميد الاصفر المتعكر، يمشي متطوحا في عباءته الصيفية الكاشفة لمفرق صدره المشعر، والاكمام المحسورة عن عضلات بعروق منفوخة، تلمع صلعته لمعة زيتية محببة، نقوم كلنا من علي الحصيرة الكبيرة المفروشة جنب جدار الجامع، يرمي السلام بيده قصيرة الاصابع ويأخذ نفسا من سيجارته ثم يرميها، عادة لا يسلم باليد ويجلس مهدودا راكنا ظهره للجدار الخشن، يخلع نظارته ويدعك عينه الغاطسة تحت عظمة الحاجب.
يأخذ راحته ويمدد رجليه ويلعب اصابع قدميه فنعرف انه في لحظة سرحان مألوفه.
- حد فيكو جرب الجنس قبل كدا؟!
هي المرة الاولي التي نري الملك يفتح هذه السيرة، فنحن لم نعهده هازلا،، ولا عرفناه مستعرضا علينا، تعلقنا بوجهه الهاديء:
- لا يا استاذ علاء.. ليه؟
إنه يعرفنا جيدا، فلماذا يطرح سؤالا كهذا؟ صحيح انها مسألة تفلق رأس اي واحد منا، لكن هذه الخواطر يطرحها الواحد علي نفسه سرا، ثم اننا بعد شهرين علي الاكثر سنكون في الثانوية ومعروف عن مجموعتنا هذه الجدية.
وطلب العلم، فكأننا تواطأنا علي تأجيل التفكير في هذه المسألة.
- تعرفوا ان اي علاقة بين راجل وست اخرها الجنس!.. سيبكو من قيس وليلي والكلام دا. ساعات بفكر ان الحيوانات افضل من البني آدمين في الموضوع دا. حد عمره شاف دكر بط بيحب بطة من بعيد وكتب فيها قصايد؟ ولا حمار سهران يعيط تحت شباك حمارة؟ طب انت خرجت معاها ومسكت ايدها وبوستها..
واخرتها؟ لازم عاشق ومعشوق.. لازم الاكتمال.. بعدها ييجي الهدوء ، زي مية الفيضان بعد الفيضان.. تهدي لما تكون في مستوي واحد.. شوية شوية تحس انك عاوز تفيض، انك مليان.،. عاوز اكتمال تاني.. تعمل اكتمال، بعدين تهدي، وبعدين اكتمال.. وهكذا.
أكاد أجزم ان كل واحد منا قال »الله« بصوت داخلي مزق الاحشاء. فعلتها يا علاء وحدفت حجرا في مياهنا جاء بموجات الفكر والزلزلة. من منا سيتجرأ ويتغني بايقاع بيت او بيتين من شعر الغزل الذي درسناه؟ من سيحكي عن دقات القلب والتنهد ورعشة اليد واحمرار الوجه ساعة مرور خاطف لبنت بعينها؟ إلي أين تمضي بنا؟ دماغك الذي يبدو هادئاً تعرف ان به ماء يغلي، لا تكف عن اللعب بأدمغتنا، آخرها عندما جئت لنا بورقة بخط يدك مدون فيها مشروعك عن زريبة جماعية لكل بهائم البلد. قلت ان هدفك هو جعل بيوت الناس للناس، اذ كيف يعيش الانسان والحمار والجاموسة والكلب في مكان واحد؟ هذا غير سؤالك الذي جعل بطوننا تتهيأ للثورة: هل تذوق احد منكم طعم الخراء؟ قلت انك تذوقته لتعرف كيف ان هذه الاشياء موجودة بداخلك، وانك عندما كنت في مستشفي الخانكة اجبروك علي ذلك. نناديك »الملك« فيما بيننا ولا نقدر علي مواجهتك بهذا اللقب السري. نكتفي ب »استاذ« ولا نقول لك ما يقوله البعض علي استحياء: يا دكتور ! بعد شهرين سننشغل عنك، وبعد عام لا نعرف من منا الذي سيحالفه الحظ ويدخل كلية الطب مثلك وربما تدور الدائرة ويتركها كما تركتها في السنة الرابعة لاسباب غريبة.. كدعوتك لتعريب الطب، او انك كنت تريد الاداب وأبوك فرض عليك الطب.
سحب رجليه، فانحسرت العباءة عن سمانتيه البارزتين.. كأننا لم نكن نري عباءته المشطورة بالطول الي لونين ابيض وأسود عن اليمين وعن الشمال.. اعتدل بظهره للامام جالسا القرفصاء، وشبك يديه علي فخذيه وبان انه قد سرح بعد قنبلته المزلزلة، يسكت الملك فلا نقلقه، ماذا يمثل لنا؟ كل يوم بعد العشاء نجتمع بلا اتفاق. ندخل من باب الجامع الخلفي ونطوي الحصيرة الكبيرة المفروشة امام الميضاة في الصحن المكشوف. يحملها احدنا ويمشي حول الدائر الترابي المرشوش في النهار، نفرش في ظهر الجامع ونجلس ممدين ملتمسين نسمة من يوليو الضنين، امامنا السور الصاج لماكينة الطحين القديمة التي تدق في النهار دقات كدقات قلوبنا، ننتظر ان يهل علينا الملك فتمليء اللحظة بعد فراغ.
رجع بظهره مرة أخري للجدار، وعدل النظارة بحركة مرتعشة لأنفه.
- فيه مفاجأة بكره في الصلاة!
خير يارب.. دائما ما يختار صلاة الجمعة ليقدم مفاجآته علي الملأ، يدخل من الباب الكبير ويرمي نظرات غاضبة علي الجالسين، يكون الامام سادرا في خطبته فيشير اليه باصبعه علي شكل دائرة بما يعني استمر. يتقدم للصف الاول بثقة ويقف ليفرد المظروف المطوي تحت ابطه، ويخرج رزمة اوراق بيضاء مصورة، يمشي خطوة خطوة، مع كل خطوة انحناءة ليضع امام كل واحد ورقة، غالبا لا ينظر الجالس فيها، يطويها برفق ويدسها في الجلباب.. يفوت علي الكل، حتي علي الجالسين في الصحن جنب الميضأة، يعود ليجلس في اخر صف . عندما يخرجون يفتحون الورقة ويقرأون ويضحكون، ننزوي في ركن خلف الجامع ونقرأ، في الجمعة الماضية وزع ورقة كان بعض ما جاء فيها: ربنا قال لي في المنام اعمل في اهل البلد دي اي حاجة لانهم بهايم! ضحكنا فعلا من قلوبنا ربما لأول مرة، واحد منا قال مستمرا في الضحك: والله الدكتور عنده حق، احنا كمان بهايم، ومش فاهمين حاجة في اي حاجة!
تري ماذا سيقول غدا؟ هل يقول اكثر مما قال في ورقة الجمعة الماضية؟ لقد سمي نفسه (علاء الانصاري) وأنه سيكشف عما قريب عن امور لن يفهمها ويقدرها الا المخلصون.
- خير يا استاذ علاء.. مفاجأة ايه؟
- الاول ايه رأيكو في كلام الجمعة اللي فاتت؟
رأينا في ماذا؟ ماذا نقول؟ واحد انسحب من لسانه:
- بس مسألة ان ربنا جالك في المنام داي يا استاذ علاء..
اسكت! يا بني مش ربنا اللي جالي، حاجة زي هاتف. من كتر ما بفكر في حاجات كتير بتجيلي هواتف، يعني مثلا جالي هاتف انكو مخلصين وقلوبكم صافية.
صحيح نخلص لك من قلوبنا والله يا استاذ . لكن ماذا نقول
- أنا اتكلت علي الله ونويت اعلن!
اوقفنا تنفسنا ، ورشقنا عيوننا علي فمه المزموم ورأسه المنكسرة في الارض.
- كنت مترددا في الاول.. لكن في امور وضحت لي. نويت اعلن اني المهدي المنتظر!
عادت الرءوس لتنكسر في الأرض، والعيون تتلاقي بلا دهشة كأننا كنا نتوقع، الشفاه برزت، والارجل تقلقلت.. والظهور ترتاح للجدار ثم تتقدم.. و.. هو هاديء.. تلفت ناحيتنا، وغرس عينيه في كل واحد علي حدة. أيقنا ان المسألة كبرت فعلا.
- ها.. قلتوا إيه؟
- في ايه بس يا استاذ علاء؟
- في الموضوع دا.. عاوزين نعمل حاجة؟
- حاجة ازاي.. والناس؟
- اه.. البهايم؟ دول مش في دماغي!
- واحنا نقدر نعمل ايه؟ انت عارف كلها شهرين وهننشغل في المذاكرة.
- آهي كلها مذاكرة، عاوزين نعمل حاجة.. قلت زريبة جماعية عشان ينضفو ما حدش سأل فيا. قلت ناخد من كل عيلة واحد ونعمل مجلس يحل المشاكل برده ما حدش سأل.
آهي جات من عند ربنا.
ونعم بالله.. لماذا يبدو صادقا لهذه الدرجة؟ كيف يتسلل كلامه الي قلوبنا؟ كيف نسترجعه في بيوتنا في الصحو، والمنام، ونوقن بصدقه؟
- طب وانت ناوي تعمل ايه المرا دي؟
- بصوا.. انا - وطبعا انتو معايا - هوزع ورقة بكره ها قول فيها الكلام دا. وها قول ان معايا أربع شباب زي الورد دماغهم حلوا.
وماذا نستطيع ان نفعل معك يا استاذ؟ انت تأتي علي الجرح ولا تدري. فقط نفكر في الجبل المهول الذي ينتظرنا: الثانوية، بعدها الكلية والسفر والانفلات، ماذا نقول لك؟ لم نخبرك اننا نجلس معك في الليل، وهنا علي الاطراف في اخر البلد، حقيقة قلوبنا معك، لكن عقولنا ذبذبات بندول ذات اليمين وذات الشمال.
- تعرفوا ان أنا بتخيل نفسي ماشي في موكب كبير وراكب علي فرس أبيض.. وورايا ناس كتير زيكو.. بدل أربعة بقوا ميات والوف.. وماشيين مبسوطين ووشوشهم مرتاحة.
كم هي جميلة احلامك . كم جميل ان تقص علينا.. وتدغدغ فينا نقطة سوداء لعينة، جميل ان تغادرك احلامك القديمة، نذكر حلمك الفجري حين صعدت عاريا مئذنة الجامع، ووقوفك في العالي متطلعا للبيوت الواطئة، ثم هذا الخط المائي المتقوس الخارج منك، الرذاذ المتلاشي فوق البيوت، قلت ان ماءك انفرش علي الاسطح كالندي، وذاب في حنايا اعود القش، والتمع علي الاسطح الخرسانية. ما الفائدة والشمس ستخرج وتمحي اثر مائك. انت الان بشحمك ولحمك علي فرس يحوطه، الاتباع، احلامك تكبر. ما هي احلامنا نحن؟
- وانت شايف احنا نقدر علي ايه؟
- نظرة عتاب. لوم، قسوة:
- كتير.. انا لما كنت في الخانكة لميت حواليا شوية زي كدا.. وعملنا موضوع حلو، كنا كل يوم بعد الضهر نتجمع في دايرة، ونقعد نعيط بصوت عال، يقوموا يا خدونا ويدخلونا العنابر، وشوية شوية زاد عددنا وبقي كل اللي في الجنينة يقعدوا يعيطوا معانا، عمركو شفتو مظاهرة عياط! وبعد كام يوم قلبناها مظاهرة قهقهة وضحكة، حتي التمرجي الحلوف في مرة وقف قدامنا وبحلق وقال: عليا النعمة انتو اعقل مني يا ولاد الكلب! وعلي فكرة.. موضوع المهدي خطر علي بالي هناك، لاني لقيت وسطهم كذا واحد مهدي.
- إزاي.. دا مفيش غير مهدي منتظر واحد.
- لازم تعرفوا ان الفيلم معمول من زمان.. وكل واحد بيمثل دوره في اللحظة اللي هو فيها بس، ميعرفش الدور بتاعه بعد دقيقة مثلا. المخرج بس هو اللي عارف كل حاجة.. وطالما انت بتمثل وانت مش عارف، فاعمل اللي انت عاوزه، اعمل حاجة بجد.
- مش فاهمين يا استاذ علاء.. فيلم ايه وتمثيل ايه؟
- يبدو انه قال »آه«.. خافتة.. آه عميقة شارخة عابرة للجوف حتي خرجت متعبة كابية لم نتبينها. خفض رأسه وضم يديه ضاغطا فبان اللون الوردي تحت اظافره، وقام واقفا بانحناء خفيف، رافعا ذيل العباءة في يده، مضي خطوة ولبس شبشبه الجلدي فرأينا خطوط الحصير في كعبيه. هل يمضي ويتركنا؟ أهذا فراق بيننا وبينه؟ اعطي ظهره لنا ووقف عاقدا ذراعيه المشعرين، مستقبلا سور ماكينة الطحين.. لحظة واخري والصمت يفعل فعله فينا، حتي شجر الفيكس المقصوص والمرشوش وقف كأصنام، رفع الملك احدي رجليه بعدما اسقط شبشبه، وبيده تعلق في اسياخ الشباك الواطيء. رأينا سمانة الساق الاخري تتكور وتنخطف لتجاور اختها، هكذا تعلق كله في الشباك المتهالك، وفي لحظة جديدة من اللحظات المتكسرة كان قد شبك يديه في أعلي السور الصاج، وزحف حتي استقر فوق سطح الماكينة، وقف مواجها لنا، وجاهد في التثبت بقدميه المفرطحتين علي حافة الصاج، جاءت نسمة وحيدة لاعبت العباءة للوراء فرأينا تفصيلات جسده شبه العاري. الرأس مال للخلف، والعينان مغلقتان، وفتحتا الانف اتسعتا فسمعنا شهيقه العظيم.. بسط ذراعيه كجناحي طائرة.. وبدا كعلامة (+) غير متناسفة لكنها عملاقة ومنتصبة وغائبة عنا. يرتجف الذراعان برعشة، وأصابع اليدين ترتخي وتدلدل.. مرة أخري يتصلب كل شيء، ويبدو كسلك مشدود. تبرز العروق، والرقبة تكاد تغطس وتفرك في الكتفين، لابد ان ننقذه، ماذا ننتظر؟ لقد بدأ يصرخ صرخات استغاثة بهذه الهيئة المتشنجة، قمنا جميعا بأقدام حافية حتي كنا تحت قدميه تماما، نتأمل برءوس مشبوحة هذا العالي المتطاول، أيدينا مغلولة وهو يصرخ صرخات ممطوطة موجعة: يااااااااااارب ، يا الله ، يااااااااااااارب.. صوته رعشات تدوم في اجسادنا دوامات مؤخزة، تضامت اصابعه وانقبضت ، ارتخي الذراعات، انفرجت الشفتان ، ظهر علي الوجه ما يشبه البله، تقلقل البنيان، وتطوح امام اعيننا، وانسحب مائلا للخلف كنخلة حتي انهبد مرة واحدة علي الصاج الذي اهتز بالرنين المكتوم المدوم، رأينا قنبلة الغبار الدخاني الخارج من السطح، وانتظرنا حتي همد كل شيء.. بقينا متسمرين يلفنا الخرس.


حسام المقدم
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 06 - 2010



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى