نورالدين الطويليع - رحيل

تعالى صخب الناس واختلط هرجهم بمرجهم ، وسمعت لهم جلبة كما لم تسمع من ذي قبل ... كل هذا احتجاجا على تصرفات مدير مزرعتهم الذي جلبوه إليها ، أو بالأحرى جلب إليهم على أمل أن يحول تعاستهم سعادة ويذيقهم من النعيم الذي تفنن في وقت من الأوقات في إغرائهم به، لقد وعدهم بأن يحول مزرعتهم جنات وأنهارا، وأن يمدهم بأموال تقيم صلبهم وتجبر كسرهم، وأن ينعم عليهم بالخيرات التي ما رأتها عيونهم ، ولا سمعت بها آذانهم ، ولا خطر على قلب أحدهم ،بيد أن اليوم الموعود طال انتظاره ، الأيام صارت شهورا، والشهور تحولت إلى سنوات... ولم يكتف السيد الهصور بنكص الوعد ، بل كشر عن أنيابه وعلا في أرض المزرعة بعدما سام الجميع سوء العذاب ، وتفنن في تمريغ أنفة كل واحد منهم في الرغام استعبادا واستغلالا... حينما قرع صوت الحناجر المبحوحة سمعه، برطم وردس بكأس الخمرة ـ التي كانت في يده ـ الأرض، وهاج وماج قائلا:من هؤلاء الذين سولت لهم أنفسهم رفع أصواتهم في حضرتي؟إن هذا لمكر تزول له الجبال، ماذا يريد مني هؤلاء الرعاع؟ حسبهم شرفا أنني رضيت أن أكون واحدا منهم، ورفعت ذكرهم بعدما كانوا أذنابا... والآن يثورون علي قبل أن آذن لهم! إنها لكبيرة مالها زوال من ذهني مهما راخوا وتفننوا مرة أخرى في إعلان التوبة والأوبة ، الأوغاد دائما أوغاد، لن ينعموا بالراحة بعد اليوم ، وأنا الذي عاملتهم كما لو كانوا من بني آدم ، فإذا بهم يتطاولون على جنابي العالي محاولين إشغالي وإرباكي ، لن يكون لهم ذلك على الإطلاق والاستغراق ما دمت حيا، لقد غر هؤلاء تهورهم ونداي الحاتمي ...، هذه بداية الأري بيني وبينهم ...،وهو مستغرق في هرطه جاءه الحشم والخدم يركضون {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة} وتنادوا بصوت واحد: سيدنا ومولانا دام لك السؤدد والعزة، هؤلاء القوم يتجرؤون على ذاتك الطاهرة واصفينك بأقبح النعوت، ومطالبين إياك بأن تتركهم وشأنهم وترحل بعيدا عن (مزرعتهم)التي يقولون إنك حولتها ملكا خاصا لك ولآلك وصيرتهم عبيدا وإماء لك ولهم .
وقع الخبرموقع الصاعقةعلى أذني معالي المدير، وبدأ يترنح جيئة وذهابا في جنبات البيت كما لو لدغته أربد، كان يخمن الأمر شعلة نار في كومة تبن سرعان ما ستنطفئ بخطاب من سيادته أو بنهش من كلابه ، لكن هيهات هيهات، لقد أتت على القوم أنواء ربيعية عاصفية أزالت تلال نفثه وسحره، فاسترجعت قلوبهم عافيتها بعدما بلدها سنين طوالا فقدت معها الإحساس والشعور، فلم تعد تغضب مهما استغضبت، وأزالت عن أعينهم العمى، وعن آذانهم الوقر، وعن ألسنتهم العي، فاليوم غير الأمس ، والأجسام والأرواح الهامدة ربت واهتزت وأنبتت من كل احتجاج بهيج ، ولذلك لن يتأدم ولن يتأرض أحد منهم بعد اليوم، شرارات الغضب تتطاير من أعينهم، وجفاف السنين العجاف باد على أجسادهم النحيفة ووجوههم المتلظية بالشمس الحارقة التي لم يقهم لفحها ظل ولا فيء... كان يعتقد أن جفاف اللحم والعظم لديهم صمام أمان له لإنتاج جفاف من نوع آخر، فإذا بحساباته تذهب أدراج الرياح،فأجسامهم التي نخرتها السنين تبدو الآن بقوة أبطال حمل الأثقال، بأجسامهم المهترئة هذه أحدثوا شرخا كبيرا في السور العازل الذي سيج به المزرعة حتى يقي نفسه تطفلهم ودوابهم ، وحتى يصد الريح القادمة من جهتهم لكيلا تهلك حرثه ونسله بأمراضهم ونتنهم الذي تحمله ، وحتى يضمن لنسيمه أن يبقى عليلا دون أن تشوبه شائبة، أو تؤزه ريحهم ... دخل الناس إلى أرض المزرعة أفواجا تاركين وراءهم جحيم البؤس والشقاء الذي تعايشوا في دركاته مع الخوف والذعر والمآسي ذات الألوان المبهرجة حتى اعتقدوا اعتقادا جازما أنها قدرهم المحتوم، فإذا بالعناية الإلهية تنولاهم وتولجهم جنة قوامها ماء وظل وأنهار وأشجار...أطلق الأشقياء العنان لأبصارهم فتجولت سابحة في فضاء المزرعة ذات اليمين وذات الشمال حتى طفحت، سبحان الله كما أرض المزرعة مختلفة تماما عن أرضنا، سماؤها أيضا غير سمائنا التي لا نراها إلا ملبدة بالغيوم ، أما هذه فصافية شفافة، قال أحدهم بصوت متهدج كأنه نشيج دون أن ينتبه إليه أحد، لأن الجميع عن كلامه مشغول بالحدث العظيم .
ظل المدير يراقب الوضع من خلال زجاج نافذته الذي أصابته العتامة، فلم يعد يسمح بالرؤية الواضحة إلابعد لؤي وجهد، تذكر الأيام الخوالي حينما كانت تحفه الجموع لاهتة باسمه (الأعظم) مطربة سمعه بالقصائد العصماء المتغنية بأمجاده التاريخية التي جعلته على الورق يأتي بما لم يأت به الأوائل، كما تذكر الصفوف المتراصة التي كانت تقف أمامه في خشوع كأنها تؤدي قداسا دينيا، والهامات المنحنية كأنها راكعة لجنابه الشريف.
ياإلهي أهؤلاء هم من عهدتهم كل هذه السنين، أم إنهم مخلوقات أخرى آتية من كوكب آخروقد شبهوا لي ؟... رد أحد سواعده الذي يبدو أنه استوعب الحدث قائلا: مولاي تب إلى رشدك، دوام الحال من المحال، إن الذي أخرج الحي من الميت هو هو نفسه من أخرج الإنسان الحرمن الإنسان العبد ، كانوا يقبلون يدك في العلانية ويدعون عليها بالكسرسرا، لكنهم الآن لم يتورعوا في أن يسلقوك بألسنة حداد لأنهم خلعوا رداء الخضوع وتركوه وراء ظهورهم كأن لم ينبطحوا بالأمس، فلتفكر في الأمر مليا.
نزلت الكلمات كصفعات من يد حديدية على مسمع الرجل، فاستفاق من غيبوبته وأحس لأول مرة في حياته بحجم هوانه على الناس، هنالك دعا كل مقربيه وحاشيته أن يزحفوا على الجموع ـ وكله ثقة في أنه سيهزمهم في بضع دقائق ـ قائلا:إن حياتي وحياتكم في خطر، كروا عليهم، ماذا تنتظرون؟ لماذا اتاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالذل والهوان وتطاول الصغار؟... وهو ماض في تجييش النفوس واستنهاض الهمم خرق سمعه صوت كأنه السهم قائلا:مولاي نحن عبيدك وبنو عبيدك، والعبد كما تعلم لا يحسن الكر، وإنما يحسن الحلب والصر، لا طاقة لنا اليوم بهؤلاء القوم،لو وضعت الجبال في طريقهم لجعلوها دكا، فلا تنتظرمنا والحالة هذه أن نأتي بالمستحيل، ورد آخر:القول ماقال زميلي ، أظن أن آزفتك وآزفتنا قد أزفت، والحل الذي لا حل غيره هو ألا تبتئس بما يفعلون، وأن تتركهم ومزرعتهم ، لأن قعودك مع الخوالف سيجعلك مذموما مدحورا، وإلا واجههم بما ملكت يداك، وما أظنك في ساعتها إلا لاق حتفك .
ماذا تريد مني أيها المأفون؟ أمتشق سيفي وأخترق الجمع منتحرا؟! مالي طاقة بهذا، وما لهذا خلقت !.
إذن انحن للعاصفة وأمر طيورك وعصافيرك أن تحلق بعيدا، ثم اتبع آثارها صوب أوكار آمنة .
أصيب المدير بنوبة هستيرية جعلته يصيح بأعلى صوته:أين سأترك أشجاري المثمرة وأبقاري السمينة وريمي المتناثرة... لقد بذلت جوهرة عمري في إثمار الأشجار وإزهار الأزهار والعناية بالزرع والضرع... فإذا بي ألقى جزاء سنمار، اتق شر من أحسنت إليه ... رد عليه رجل كان يخفي إيمانه: لم تحسن ولم تفعل خيرا، لم ترقب في الناس إلا ولا ذمة، علوت في أرض المزرعة، وزرعت الغل والحقد والكراهية في القلوب، وها أنت تحصد اللعنات.
خرس لسان المدير وجحظت عيناه ، ولم يعد يتكلم إلا إشارات مبهمة غير مفهومة، أو بمعنى أصح غير معبوء بها، لأن لكل واحد من مواليه شأن يغنيه، كان إلى عهد قريب يتجول في أرض المزرعة مزهوا مرددا:{ما أظن أن تبيد هذه ، وما أظن الساعة قائمة }
فإذا به يبيد ويتبدد، وإذا بساعته في أرض المزرعة قائمة على هيام منه في الفيافي والقفار مهطعا مهرعا مقنعا رأسه ، وهو الذي لم يكن مشيه إلا مطيطاء، لم يقتف أثره أحد كما كان ديدنه من قبل، لا مراسيم،ولا زغاريد، لقد صار الناس غير الناس في ساعة عسرته، وفي هذا اليوم العك العكيك ، لما توارى عن الأنظار عض على أنامله من الغيظ وصاح:ياليتني اتخذت مع القوم سبيلا ،يا ويلتاه ليتني لم أتخذ من اعتقدت أنهم أصفياء أخلاء، لقد ضللوني وأضلوني ، وها أنذا وحيدا وحيدا وحيدا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى