لطفية الدليمي - أخف من الملائكة أو محو النساء أخف من الملائكة أو محو النساء

لطفيــــــــــــة الدليمي.jpeg


منتصف الليل وأنا في مدينة الموتى, والرجال مخطوفون او مقتولون او قتلة, والنساء وحيدات أحسست بخفة غريبة تجتاح جسدي وأنبأني فؤادي أنني قد أستطيع التحليق والتنقل وسط ظلمات الليل, وكأني استعدت قوى بدائية فقدتها البشرية منذ دهور, على الضد مما كنت أكابده في نهارات بغداد وأنا أتعرض للتهديد وربما الموت العشوائي بانفجار سيارة مفخخة, أو أن يطلق علي أحد الرجال ذوي اللحى الشعثاء نار رشاشته أو يرمي على وجهي ماء النار لأنني أكشف عن وجهي وشعري, كما اعتدت طوال عمري في هذه المدينة المحتلة.

أدركت أنني صرت قادره على الإفلات من الأرض والتحليق في الأعالي وكأنني من صنف ملائكة خفاف, لكنني أرجأت الفكرة المجنونة وفتحت التلفزيون ورأيت عازفة يابانية تعزف كونشيرت البيانو رقم 4 لبيتهوفن, سحرني عزفها وغمرني نوع من السلام النادر وتناءيت عن الأرض وما فيها وملأتني الموسيقى بفيوض من الغبطة, وأنا أشاهد العازفة تتجلى في أدائها, وتذوب على ملامس البيانو متلاشية في نشوة الموسيقى, وخيل الى أن جسدها الأبيض يمتزج بأسود البيانو وسواد ثوبها يتلاشى في الملامس البيضاء, حتى اختفى الجسد تماما وبقي البيانو يتحرك عازفا نفسه دونما أصابع .

من النافذة الشرقية انهمرت ريح ساخنة رطبة محملة بأشذاء شجرة الياسمين, وتّندى جسدي وقميص نومي برذاذ ناعم وفكرت أن أكتب رسالة للرجل البعيد, لكن انقطاع الكهرباء حال دون تشغيل الكومبيوتر, فوجهت له نداء تخاطريا وتمنيت أن يبلغه ندائي وهو في البلاد القاصية, واستجابت حواسي للمسات يده على جسدي وأنا استحضرها تخيلا وتذكرا, أصابعه تنبض فوق صدري وتحولني الى رحيق حلو ، غمرتني تلك اللذة الدافقة في عروقي وتحسست جسدي, لكن يدي, يالله مابها يدي؟؟ إنها تجوس في فراغ, لم أحس بلمس يدي على جلدي, وخشيت أن تكون الاصابع قد فقدت حسها..

وتمنيت ساعتها أن يظهر لي مما وراء الغيب ويطفيء رعبي ليثبت لي أنني موجودة حقا بوجود جسدي, لكنه ما كان سيسمعني إذ ناديته من قلب الكارثة وأصوات الرصاص وحشرجات القتلى تتعالى في الشوارع مختلطة بزعيق سيارات الإطفاء وعويل سيارات المارينز . وبين آونة وأخرى كنت أسمع أصوات الإنفجارات وصرخات النساء المروعات في شوارع بغداد, يبحثن عن رجالهن وأبنائهن بين الجثث الملقاة على الأرصفة, أأبدا ما كان سيسمع ندائي ولن يجدني إمرأة مجسدة لها حضور مادي في المكان والزمان المتحولين الي جحيم..

عدت أبحث عن جسدي الذي تلاشى في كونشرت البيانو ورياح الجنوب ورجفة رعبي من المسلحين الذين يحومون في الشارع, لم يكن الرجل ليسمعني فاللغة تحولت الى همهمات خوف تشوش على نبض القلب, أطلقت صرخة تصادت بين جدران الغرفة, خشيت أن يمّحي صوتي بامّحاء جسدي, وعدت أبحث عن جسدي, تلمست ذراعي ووجهي وصدري وساقي, فما عثرت إلا على المزيد من الفراغ المروع وتحول جسدي الى عدم, وقلت لو كان حضر فإنه سيضحك من هلوساتي ولربما كان وجدني وعانقتي وأنقذني من انخطافي في هذا الجنون, آه, لا انني لا أتوهم ولست أعاني من هلوسات ولست أحلم فأنا متيقظة وأنا الآن بلا جسد ولا حجم وأكاد أطير شبه فقاعة أو ملاك باهت أو هباءة تائهة في هبوب الريح..

فكيف سيجدني عندما يأتي؟؟

عدت أبحث عن بقايا شيء من جسد المرأة الذي اختفى، وقفت أمام المرآة الكبيرة في خزانة ثيابي فلم أشاهد شيئا ولم ينعكس فيها سوى الجدار ولوحة امرأة نصف عارية تمثل (زليخا) عاشقة (يوسف) رسمها لي طالب فنون معدم بثمن قميص وسروال, حدقت بالصورة فلبثت (زليخا) في ذهول شهوتها ترمق بابا مواربا يوشك أن ينفتح ليبزغ منه الفتى يوسف, وجسدها يتألق في اشراقة الرغبة, ورديا وصافيا تنضح فتوته من أعطافها..

رأيتها تنظر الي حتى ظننت أنها تسخر مني وهي تراني بكل حواسها المتوفزة, بينما تحولت أنا الى عدم وفراغ, لقد انتهيت وبقيت (زليخا) تتراءى في المرايا وتتكاثر في الهوى الصاخب وتصرخ في الأزمنة: (هيت لك..)

تملكني الرعب وبدأت أعي محنتي: إنني امرأة استحالت الى هواء, فماذا تفعل امرأة بلا جسد بحياتها؟؟

وشئت أن أختبر حواسي وأنا في وحدتى, فتحت التليفزيون الصغير في غرفة نومي فانهمرت صور القتلى وملأت الشاشة جثث رجال متيبسة, واخرى مقطوعة الرؤوس والأطراف وبعضها أخصيت قبل قتلها, وجثث جرى تعذيب اصحابها حتى الموت, وانتشى العشب الطري الأخضر بالدماء بينما كانت الغربان والصقور تحوم على ارتفاعات منخفضة تحت شمس ذهبية تتخلل غيوما لامعة بحواف بنفسجية زرقاء والكلاب الضالة تنهش الجثث المتروكة, اطفأت التلفزيون وهرعت الى حديقتي وقصدت أن أمر بين شجيرات اللانتانا ذات الأغصان الخشنة الواخزة, فلم أشعر بوخز أو حكاك وما رأيت في الشارع غير سيارات مسرعة وسمعت انفجارات قذائف الهاون تتردد في الليل وأنا أنحنى على زنابق الأماريليس واتنشق شذاها وأتلمس طراوة البتلات الندية المخططة بالأبيض والأحمر في حوض الزنابق.

عدت مسرعة الى داخل البيت وأحكمت اغلاق الباب وارتميت على سريري فلم اشعر ببرودة المفارش ونعومتها. ووجدت الوسائد مثل رغوة حرير ومررت بيدي على جسدي فلم أعثر على غير الفراغ, وانشغلت بإختفاء جسدي عن الحلم بمتع قادمات عندما يعود الرجل الذي غادرني بعد أن خيرّه الخاطفون بين القتل أو دفع فدية ومغادرة البلاد, كان يزورني خلسة قبيل رحيله الى الخارج, يأتيني في ليلة اكتمل ظلامها ويغادرني قبيل الفجر تاركا جسدي مستغرقا في نعيم الحب المحرم علينا, يعانقني لدى الباب ويتنفس عطري ويرتشف دموعي ويمضي متنكرا في زي بائع غاز أو مرتديا رداء برتقاليا كالذي يرتديه منظفو الشوارع..

غلبني النوم ويبدو أنني نمت طويلا, إذ وجدتني استيقظ عندما غمرني وهج شمس باهرة انعكس على زجاج النافذة من خلال اغصان شجرة الليمون وشجرة العنب المتعرشة عليها, ولبرهة نسيت ما حدث لي في الليل ولكنني فوجئت بغياب كياني المادي عندما وجدت الفراش مرتبا وباردا, كانه لم يمس وما ترك فيه جسدي بعضا من دفئه, فانفجرت بالبكاء وخيل الي أنني أذرف روحي لأنني لم أجد دموعا ولا وجها, وهالني الأمر وركضت في ممرات البيت وهاتفت صديقة لي وايقظتها من نومها وأنا اصرخ بها:

- سارة , اسمعيني, لقد اختفى جسدي وأنا غير موجودة, انظري الى نفسك هل تجدينها؟؟

سمعتها تضحك مما حسبته دعابة او شطحة من شطحاتي, فصرخت بها:

- أرجوك تلمسي جسدك واخبريني ما تجدين, أرجوك أنا جادة فيما أقوله ..

- اواه من جنونك, دعيني أنم ساعة اخرى..

- أتوسل اليك لا تتركيني أواجه هذا الرعب وحدي, هيا انظري الى نفسك وتلمسي جسدك.. سمعت صرخة الهلع التي أطلقتها سارة وهي تردد:

- أنا غير موجودة ولا أرى جسدي لقد أصبحت غير مرنية, يا إلهي إنهم لن يروني.. آه , لقد نجونا, ما من أحد سيرانا بعد الأن, ولن نرغم على شيء, أو نضطر الى التخفي بعد اليوم..

قلت لها: سوف استثمر اختفاء جسدي لأزاول كل الاشياء التي حرمت منها تحت طائلة القصاص,

فقالت : ولن أفكر بعد الأن بالحمية وانقاص الوزن ليعجب مظهري الرجال.

فكرت أن للحرية أثمانا باهضة ندفعها من حياتنا, وبدأت أثرثر وأغني وأتفوه بكلمات غريبة واكتشفت أن للغة ملذات قد توزاي ملذات الجسد وأن للكلمات فعل السحر فينا ..

وعندما رن هاتفي وأتاني صوته من الأقاصي, تحولت حقا الى رحيق وتمدد في أحاسيسي الغامضة خيط من اللذة العجيبة, سمعته يتمادي في مغازلاته غير آبهٍ باجهزة التنصت على الهواتف وعابرا حدود المألوف من حواراتنا وبوحنا وأشواقنا وإكتسى صوتانا بتلك الغصة التي تعقب تدفق الرغبات..

أنهى مكالمته, فخرجت الى الشارع اختبر حريتي بعد إمحاء جسدي ولم أبصر في الطرقات غير الرجال المسلحين وجنود المارينز وبعض الشرطة, وسمعت دوي الانفجارات يلف المدينة منذ الصباح, لم تكن ثمة امرأة في أي مكان, رجال ورجال ودبابات, والطرقات تتراكض فيها ظلال غير منظورة ولكنني كنت اشعر بحفيفها وهي ترتطم بي, أو تتقاطع معي, أو أشم بعض العطر أو روائح العرق من تلك الظلال التي كانت فيما مضى نساء ينبضن بالحياة, إنما يلاحقهن رعب الاغتصاب او القتل على الهوية عند مفارق الطرق.. ثم أدركت ان حريتي المتحققة هي في الوقت ذاته حرية شبيهة بالموت فخلاصي من الجوع ومشكلة الملابس والقسر على ارتداء الجلابيب والاوشحة السود وسقوط التابوات والنجاة من الأوبئة التي انتشرت بعد الحرب في المدينة, وعدم رؤية القناصين والقتلة لي كل ذلك لايخفف من وطأة عذابي بتحولي الى وهم ٍأو ظل من الظلال الهائمة في مدينة لايرى فيها سوى الرجال والقتلة ومع ذلك وجدتني أركض وأصطدم بالمسلحين وجنود المارينز فلا يطلق احدهم الرصاص على ولايزجرني لأنني أسير بثياب نومي الشفافة القصيرة, ولكن هل كنت أرتدي ثيابا حقا؟؟ أم كنت أتمادى في التخيل وأراني أبرهن على حريتي بالخروج على كل الممنوعات؟؟

كنت في امّحائي أفكر أن النساء حققن أقصى حضور لهن بهذا الاختفاء الشامل, بالرغم من أن الحياة غدت شبيهة بمعسكرات الأسر الذكورية, وهذا مالم يتوقعه أحد بعد هذه الحرب الطاحنة, وما سبق للبشرية أن مرت بمثل هذه المحنة المروعة التي تنذر بفنائها الوشيك, فكيف سيتكاثر البشر بعد كل هذا؟؟ من أين سياتي الصغار وتدوم الحياة بعد إندثار جنسهن في العدم؟؟

أيقنت أن قدر الكائنات الأنثوية أن تحقق إختفاءها وتتلاشى وتجتاز خرافة العيش وسط المجزرة وتصدر حكمها الباتر على مصير اؤلئك الرجال الدمويين الذين سيواصلون العيش كجنس وحيد موكل بالفتك وتدمير الحضارة ، يا للخلاص المدمر, أن يبقى الذكور وحيدين في ساحة التقاتل محكومين بقدر العقم الى الأبد, أما نحن النساء فقد تحولنا الى شعب من الملائكة الخفاف بالرغم من أن الملائكة مخلوقات خنثوية لا جنس لها ولا رغبات لكننا احتفظنا برغباتنا – فلا مخاوف ولامصانر فانيه بل إندغام كامل في العدم الكوني, هتفت في اضطرابي: على الأرض الفناء وللنساء مسرات الغياب..

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى