ماماس أمرير - ديبوسي.. قصة قصيرة

أصبح طقسا مقدسا، أن أصحو كل صباح وأتلمس قلبي المثقل بتنهيدة طويلة وأبدية، تنهيدة تبكي بصمت وأنين داخلي، لا شيء يبعث على تهدئة ثورتها سوى الموسيقى والكتابة. إنهما هبة الوجود.
في الكتابة أقف عند باب الحزن صامتة أحرض قلبي على تقبل كل هذا الدمار والكتابة عنه بشجاعة كاملة، ودون أدنى فكرة دخلت معترك الألم بلا سلاح ولا دعائم لا تؤازرني سوى بعض الكلمات المبهمة التي تحرضني على البقاء هادئة حتى تحين اللحظة المناسبة. إن الحبر يجف أحيانا دو أن أسبر غيابات الألم بداخلي.
في ليلة ثقيلة حاولت البحث عن شيء يساندني فعثرت على ديبوسي... أستمعت وأستمعت، ثم كتبت وكتبت بطريقة موسيقية ثائرة ولم أتوقف تلك الليلة، لقد عثرت أيضا على روحي، ومكنونات وحدتي، إن أحزان البشر كلها وجدتها تزدحم في موسيقى ديبوسي. بحثت في سيرته فراقت لي ثقته بنفسه!
في عام 1895 كتب كلود ديبوسي : أعمل على أشياء لن يفهمها إلا أحفادنا في القرن العشرين
كان واثقا من إبداعاته وكان مثابرا على منحنا لحظات الهدوء الصعبة وسط هذا الجحيم، أحيانا تختلط الدموع مع موسيقاه فينهمر شلال من الألم وضوء النبوءة وتكتشف شيئا سحيقا لا تمنحه السعادة بل يجعله الألم متاحا فتصدمك حقيقة الحياة.
إن قلوبنا صغيرة جدا أمام شراسة الحياة مثل نوتات في معزوفة لا تنتهي، تجبرك على العيش لتقدم خلاصة ألمك وعذاباتك للآخرين، ليأخذوا دورهم ويتسلحوا بدموعنا وأن لا معنى لكل ما يجري سوى أننا ننتج مزيدا من الضحايا والعذابات ونكتب عنها لتصنع لنا تاريخا وهميا وقصصا وملاحما وحروبا وتفاصيل لا جدوى منها، إنها دوائر الفراغ التي تتكاثر حيث لا ينفصل المجد عن العار.

كان ديبوسي بالنسبة لي اكتشافا جميلا، وهو أحد رواد الإنطباعية الموسيقية، عرفته في فترة عصيبة من حياتي إثر موت ابنتي الشنيع، في بلد لا يعرف الرأفة ولا يعرف الرحمة. ولا يهتم بكرامة الإنسان... كان ملاذا لروحي حين ضاع الكثير من الإيمان بكل ترهات البشر أمام الموت المجاني الذي يسرق مرحنا وغبطتنا وحياتنا.. أمام الجشع والتوحش والنذالة، إنه ينسجم مع وحدتي وآلامي وتشعل موسيقاه رغبتي في الكتابة، حتى أن الملائكة تتراقص امام عيني، الملائكة الآتية من حلم غريق، عليّ فقط أن أغمض عينيّ ليصبح خيالي مثارا ومشعا، وأتلمس ذلك الألم العميق دون صعوبة... إنه ضوء الموسيقى. حين يغيب الملمح الإلهي الذي كنت أتكل عليه ليضيء لي الممرات المظلمة.
وحتى لا أفقد سلامة روحي كنت ألجأ إلى الموسيقى، ديبوسي كان أروعهم وأقربهم لمشاعري المنكسرة.

كانت اللمسات الرائقة الخافتة لعمق المحيط في حوريات البحر إيماءات شجية تشدني أما في مقطوعة البحر تدهشني التقسيمات الموسيقية للأمواج أما في ضوء القمر هناك العزف السلس حيث تعمل الموسيقى على إثارة الحنين وإذكاء الشجن والحزن، كما يفعل ضوء القمر في مكان هاديء، موسيقى تمسك بيدك لتسبر أغوار روحك القلقة والمظلمة وتنقب في أعماقك عن كل ما هو متراكم دون جدوى إنك تشعر بها ولا تسمعها فقط، مساماتك أيضا تنتعش وترتعش... إثارة المشاعر والخيال في موسيقى ديبوسي تشعرني بالإثارة الساحرة بين الخيال المثار والموسيقى.

إن النوتات تتساقط كندف الثلج على قلبي، فتلمسه برقة وشفافية وأعود أتلمسني، كما أنا حزينة، ومتعبة، غاضبة، وقوية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى