أدب السجون محمد الراجي - المرزوقي: في تزمامارت حفظنا القرآن .. والقلوب تنزف إلى الآن

وسط عتمة معتقل تزمامارت الرهيب، حيثُ قضّى سنين طويلة من عمره رفقة مجموعة من الضباط المشاركين في انقلاب عام 1971، استطاع المعتقل السابق أحمد المرزوقي، رفقة المعتقلين على خلفية الانقلاب العسكري، أن يحفظوا القرآن الكريم كاملا، وفي ظرف سنة ونصفَ السنة فقط.

ويعود السرّ في تلك المبادرة، كما كشفه أحمد المرزوقي في حديث نوستاليجي أثناء استضافته من لدن مركز هسبريس للدراسات والإعلام، إلى أنَّ عتَمة المعتقل شحذتْ ذاكرته وذاكرات من كانَ معه؛ فكانوا يستعينون بنورِ شمع أفلحَ أحدُ معارفهم في إدخاله إلى السجن، مع مصحفٍ كريم.

أمّا عن الطريقة التي اتّبعوها في حفظ القرآن، فيروي صاحب كتاب "الزنزانة رقم 10" أنهم كانوا يشعلون الشمعة ويتولى أحدهم تلاوة سورة من القرآن، ثم يعيدها، لتترسّخ في أذهان الجميع، وما كادَ الحوْل الثاني يُتمّ نصفَ دورته حتى حفظوا القرآن كاملا. ويقول المرزوقي إنّ عتمة الزنزانة، التي كانوا يقبعون وسطها، شحذت ذاكراتهم؛ "فحين لا ترى سوى الظلام، ولا تسمع غير ارتطام الأبواب، تظل الذاكرة متوهجة".

ويعود إلى تلك السنوات المنقوشة في ذاكرته، فيروي أنّه وزملاءه عاشوا، بعد أن استفحل الملل، برصيد ذاكرة الطفولة، قائلا: "حْياتنا عاوْدناها وشقلبناها، حتى أصبحت الحكايات مملة، وصار أحدنا حين يهمّ أحد بإعادة حكاية يقول: "ها عار سيدي ربي ما تعاودهاش راك حكيتيها ميّة مرة".. كانت إعادة سماع الحكاية، يقول المرزوقي، تعذيب يمارسه الحاكي على السامع.

ولتزجية الوقت وتبديد الملل القاتل، كان المرزوقي وزملاؤه يستعينون بخيالهم لمغادرة أسوار السجن، ولو تخييلا، فكانوا يُبدعون في "برامج العْراضة"، وتقوم فكرتُها على أنْ يتكلّف أحدهم بدعوة رفاقه في الزنزانة إلى غذاء أو عشاء مُتخيّل، في مكان راقٍ، فيسرح خيالهم بعيدا.. ومن شدّة الجوع، تكون الولائم التي يُعدّونها في خيالهم هائلة، كأنْ يقول أحدهم "غادي نوجّد لكم جوجْ جْمال مشويين، معمّرين بجوج عْجولا، معمّرين بجوج حوالا...".

يقول المزروقي، الذي خبرَ عالم المعاناة لسنوات طوال، إنّ الضحك بلسم ودواء لا مثيل له؛ فمن مرّ من تلك الزنزانة التي عاش فيها، سيرى الحياة حين يغادر أسوار المعتقل جميلة جدا، "دوز من تزمامارت وغتبان لك الحياة زوينة، فكم من نِعم لا يعرف الإنسان قيمتها حتى يفقدها"؛ ويُضيف أنه حين كان في غياهب المعتقل الرهيب كان ورفاقَه يعيشون على الأمل.

ولئن كان حجم الألم عصيا على الوصف، فإنَّ المرزوقي استطاع وسط دوّامة هذا الألم كتابة مسرحية، دون أن يتوفّر على قلم، اعتمادا على ذاكرته التي شحذتْها عتمة الزنزانة. كما أنَّ الغيرة الوطنية ظلّت قابعة في أعماق قلبه وقلوب أصحابه. وهنا، يتذكر كيف كانت الزنزانة تهتزُّ كلما تناهى إلى سمْعهم صوت المذيع وهو يعلن تسجيل المنتخب الوطني هدفا في مرمى المنتخب البرتغالي في نهائيات كأس العالم سنة 1986، ويعلّق على هذه المشاهد الدرامية: "كايْن اللي كيغوّتْ وضْلوعو كيوجْعوه".

وإنْ كان وجعَ الأضلع قد خفّ، بعد مغادرة أسوار المعتقل الرهيب، فقد حلّ محله وجع وجرح في قلب المرزوقي وقلوب رفاقه، لم يندمل بعد؛ جُرح نقشه مَن كان مفروضا أن يقفوا إلى جانبهم، وهُم اليساريون الذين نالوا، بدورهم، نصيبهم من العذاب في أقبية السجون، "لقد كانوا ضدّنا على طول الخط عندما أنشئت هيئة الانصاف والمصالحة، بدءًا من إدريس بنزكري، وأحمد حرزني، ثم محمد الصبار وإدريس اليزمي، ولا أعرف لماذا"، يتساءل المرزوقي.

ويضيف بحرقة: "بنزكري قال لنا إنكم تمثلون أبشع الفظائع التي تعرضت لها حقوق الإنسان، وحلُّ ملفكم سياسي، ولكن من بعد ما بقاش كيْردّ وما عرفناش اشنو وقع. جاء حرزني بدون تعليق، كان ضدنا. أما إدريس اليزمي فنادى علي وقال لي: عليك أن تذهب إلى التلفزة لكي تعتذر لضحايا الصخيرات، فقلتُ له: بأي حق سأعتذر؟ هم ضحايا ونحن أيضا ضحايا. لماذا لا نقيم مائدة مستديرة لتصفية الأجواء؟".

أما محمد الصبار، الأمين العام الحالي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، فيحكي المرزوقي ببساطة، أنه "تّقْلبْ عليا، ولم يعُد يتصل بي"، مضيفا: "لقد أغلقوا الباب في وجوهنا بطريقة بشعة، وكنقول لهم كاين الله".

وبخصوص التعويض الذي نالوه من اللجنة التي أنشئت لهذا الغرض، فقال المرزوقي إنّهم قبلوه مُكرهين، "كنّا في حالة مزرية، ما عندنا حتى ما ناكلوا وقبلنا داكشي اللي عطاونا". وبالرغم أنّ القلب ما زال ينزف، فإنه قال إنه لا يحقد على أحد، "فقد فوضت أمري إلى الله"، وطلبُه الوحيد فقط هو "الذنوب اللي عندي يديوها اللي ظلمونا".

هسبريس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى