محمد خضير - إله المستنقعات.. قصة قصيرة

م حضير.jpg

آخر من شاهد الإله المتوطن، إِله الأنوفلس (الذي اعتبر حتى وقت قريب منقرضاً) طيار طائرة إبادة بعوض الملاريا التابعة لمديرية الصحة الوقائية. كان عائداً من الأهوار الشرقية القصية إلى مدرج طائرته في مركز محافظة ميسان، فلاحظ من ارتفاع (300) قدم غمامة كثيفة تتصاعد من مستنقع محاط بالبردي والقصب. خصصت للطيار طلعة واحدة، ذلك الصباح، ليرش البؤر المظللة على خارطته بمبيد الـ D.D.T، كإجراء موسمي وقائي، قبل ارتفاع قرص الشمس على الأهوار. فلما بلغ مستنقعات الأعماق المتاخمة للحدود، مع سفور الشمس، هبط بطائرته وأطلق ذيلاً طويلاً من الضباب الكثيف، انعكس في الماء الرائق قبل أن يترسب في الأجمات. وكان الذيل الأبيض يتبع الطائرة في دوراتها الواسعة ويلف خلفها حول تجمعات الأكواخ على الجزر المتقاربة. ولما فرغ خزان المبيدات وضع الطيار طائرته في الارتفاع العادي باتجاه المركز. وهكذا في عودته باتجاه الشمال الغربي، اعترضته النافورة المنبثقة من المستنقع إلى عدة أمتار فقطعها ظل الأجنحة في لحظة.

كان الطيار في الظروف الاعتيادية يطير حراً على ارتفاع منخفض فيرى من زجاج غرفة القيادة رقع الماء المحجوزة بحواجز القصب وهي تتصل في سطح ساكن عميق الخضرة، ينسحب للخلف جارفاً معه الجزر والقوارب والطيور. كما يحدث في مثل ذلك الوقت المبكر أن تستدير إلى هيكل الطائرة المعدني الصقيل رؤوس الصبية العراة خلف قطعان الجاموس، والنسوة إزاء شعلات التنانير، ومجذفي المشاحيف. وكان ظل الطائرة كممسحة تمسح تلك المعالم، فيعاد تكوينها بعد أن تجتازها الطائرة، حتى تشارف الأغوار الضحلة في أطراف الأهوار. كان الطيار سيمر بمشهد الأيام السابقة النظيف، هذا الفجر أيضاً، لولا ظهور ذلك العمود الأدكن في مسار الطائرة. وعند اقترابه من مضاحل الهور خطر له أن يرجع فيستكشف تلك البؤرة.

لم يكن المستنقع ليختلف عن بقية المستنقعات سوى أن الأكواخ القليلة التي تحاذيه كانت خالية من الحياة. إذ أنه في حومته التالية، اكتشف تداعي الأكواخ وهمودها في داخل دغل كثيف يطبق عليها، وعلى مجرى لا يبدو أن أحداً سلكه منذ سنين. وابتعد الطيار بطائرته في دورته التالية، ثم اقترب منخفضاً بها في زاوية فوق المستنقع، فشاهد مشحوفاً غاطساً في مياهه، برز طرفاه الدقيقان كمخلبين أسودين تحت جرم الغمامة الصفراء. كان معدن طائرته سيلمس ذري القصب لو هبط أكثر، وسيميز عن دوى المحرك أزير آلاف الاجنحة ترتفع من أحشاء الإله الأصفر في وجه قرص الشمس الذي استكمل انفصاله عن سطح الهور.

لنتذكر إدريس!

إدريس ابن مؤذن المسجد. لنتذكر عطلات أيام الجمعة، الدراجات التي رفعنا منها واقيات عجلاتها، قصبات الصيد، الديدان الوردية من طين الأنهر، حقائب الطعام، السمكات الملفوفة بأوراق الموز، الظل الساخن للسعف. كنا، تلك الأيام، نعد العدة لسفرة صيد سمك بواسطة سم نوع من أثمار الأشجار. اكتشفنا نهراً من تلك الأنهر الظليلة الهادئة الضيقة، الخضراء بالحشائش. واشترينا قارباً من الصفيح ألقاه أحد الصيادين فوق سطح داره. انهمكنا أسبوعاً في سد ثقوب القارب بالقار، وفي نهاية الأسبوع رقد إدريس مريضاً بالحمى. وفي الأسبوع التالي كان ما زال متغيباً عن المدرسة، عندما افتقده معلم الحساب. كنا أتراباً، وآباؤنا يقصدون الجامع في ثياب كلها بيض نظيفة. وكنا خمسة أصحاب نشغل الرحلات الكبيرة في مؤخرة الصف السادس. كان إدريس يجلس في الزاوية، آخر من يحل المسائل، لكنه يعطي دائماً في التمثيليات دور الفتى الصالح. كان يختم المشهد الأخير بأن يصرخ في الممثل الصامت الذي أمامه: (والآن عليك أن تكف عن أعمالك السيئة. اركع أمام أبيك واطلب المعذرة. اركع حالاً). يركع الممثل ويلقي إدريس نظرة جانبية على الحاضرين من أولياء أمور التلاميذ فيصفق هؤلاء في حماس. شجعه المعلمون على أن يمثل هذه الأدوار الجادة مع الجميع، خارج المسرح، فأصبح قائداً لنا. كان أطول من في الصف، وقد ظهر شاربه. وفي آخر دور له كان سيؤذن في الأسرى من جيش الروم الذين أسلموا بعد الأسر، إلا أنه لما سلبته الحمى خشونة صوته استبدل بممثل غيره.

قررنا الخروج للصيد بدون قائدنا، في وقت مبكر من صباح الجمعة التالية من مايس. تزودنا بخبز وتمر وبصل وملح وعلبة ثقاب وسكين، بالإضافة إلى عجينة السم وشبكة صغيرة لرفع السمك. نقلنا القارب إلى نهرنا، وكان طافحاً بمياه الفيضان التي تسربت إلى البساتين وغمرت جذوع النخل وأشجار الفاكهة وكونت بركاً في المنخفضات. وتحت ضغط السكون والظلال كان النهر لا يجري، والطيور الصغيرة ترسم خطوطاً قريبة من رؤوسنا في تحليقها الثقيل من ضفة إلى ضفة. ولأن القارب صغير، تبللت ملابسنا وزواداتنا، ولم نجد قطعة أرض على الضفة جافة نشوي عليها سمكة. لكننا اصطدنا سمكاً وفيراً تجمع في قاع القارب، وفي طريق العودة شككناه من خياشيمه في حبال من الخوص خمس شكات، عزلنا واحدة منها لإدريس. كنا وأهل إدريس نسكن دارين من دور الأوقاف الملاصقة للجامع، ووصلت مع أذان المغرب. شمت أم إدريسالزفرة تفوح مني فأصدرت كلمة خافتة: (سمك?) ثم تسلمت حصة إدريس وغابت في الدهليز. سألتها من فرجة الباب: (أيأتي آدريس للدوام غداً?). زحفت النبرة الخافتة من ظلمة الدهليز: (كيف يأتي وهو ضعيف? نقله أبوه إلى حجرة في الجامع). كنت لا أميزها ولكنها كانت هناك، ثم قالت: (لا تخبر أحداً عن مكانه. يجب أن يصارع المرض بمفرده).

بكرت بالخروج للمدرسة صباح السبت. كان طريقي للمدرسة يمر بالجامع وبمغسل الموتى الملحق به، قبل عبور جسر على نهر فرعي ضيق يحاذي جدار البناءين وينتهي في البساتين خلف الجامع. كان المصلون قد انصرفوا ولم يقفلوا باب الجامع خلفهم، فهبطت درجتي الباب. كان الجامع أكثر قدماً من الداخل، إلا أن فناءه الآجرى رحب ونظيف، تسجد فيه سكينة لها رائحة الكافور، وتنبت في جانب منه نخلة مثقلة بالرطب غير الناضج. المصلي يمين المدخل، وإدريس في حجرة من الحجرات الثلاث عبر الفناء. أول حجرة بيضاء مفروشة بالسجاجيد، خالية. كان إدريس يرقد في الحجرة الثانية، أسفل نافذة مسمرة بعارضة خشبية. كانت يده المستريحة على وركه تمسك بمروحة خوص. كان يرتدي ثوباً من قماش خفيف يرتديه عادة الصبية المختونون. اعتدل جالساً وثنى قدمه ثم دلاها من الدكة فانحسر جلبابه عن ساقه الناحلة، ومست قدمه كوباً موضوعاً على صينية مع كسرات خبز وقطع جبن جافة، حيث وضعت حقيبة المدرسة.

قال إدريس: (كنت راقداً أتطلع للخارج. كان هناك شيء).

كان ينظر إلى نور أول الصباح في الفناء، وأعمدة المصلى، والقبة الترابية المفرطحة الواطئة فوقه. مدَّ يده فتلمستها.

- (مررت بالنوبة الأولى هذا الفجر. هناك ثلاث أخرى لهذا اليوم. إني مرهق).

لمسة الملاريا على الوجه الأسمر، وقبلة الحمى على الشفتين الغليظتين، والشارب الخفيف المتعرق.

- (انظر. لطمة حمى).

وأشار إلى بثور حول شفتيه. كان شعره ندياً، سحب قدمه واستند للجدار. أنا وأدريس صديقا رحلة واحدة، لكني لا أدري عمّاذا أحدثه اللحظة. أطرقت لأرض الغرفة الترابية، لخيط نمل يتصل من مخبئه بقطع الجبن والخبز في الصينية.

قال إدريس: (حدثني. حدثني، كيف علمت بمكاني?)

قلت: (ذهبنا أمس للصيد في القارب. دوخنا سمكاً كثيراً. كان نهراً عظيماً طافحاً. كان القارب سيغطس بنا لو مال واحد منا جانباً. أمضينا النهار وحدنا وتبلل كل شيء. لم نصادف شخصاً. بلى. شاهدنا. مر رجل يدفع بلما وامرأة. كانت نائمة في باطن البلم تحت عباءتها. لم يحدثنا ومضى يدفع. قلنا مريضة وهو ينقلها للطبيب. أعطيت حصتك من السمك لأمك. قالت إنك هنا في الجامع.. أنت ضعيف. ساخن..).

ساعدته على الرقود، واقتربت في جلوسي من طرف الدكة. ومضيت أقول: (سألوا عنك في المدرسة. سيقدمون التمثيلية قبل الامتحان النهائي. صنعوا خوذة لقائد الروم من نصف يقطينة جافة فارغة، لكنها كبيرة على رأسه. يبحثون عن رأس أكبر).

كان يغمض عينيه، ثم فتحهما على السقف. كان ينتظر أن أسأله: (الغرفة حارة. لماذا أغلقوا النافذة?). قال بوَهَن: (بسبب البعوض. مياه النهر تجمعت خلف الجامع وكونت مستنقعاً).

- (هل أخذوك للطبيب?).

- (فعلوا شيئاً من أجلي).

- (وماذا فعلوا?).

نهض من رقدته، وسحب خيطاً يلتف حول رقبته، وظهرت من فتحة جلبابه قطعة رصاص صغيرة. خلص الخيط، ووضع قطعة الرصاص في كفي المبسوطة.

- (جاءت جدتي أمس بعد الظهر، وذوبت رصاصاً ثم رمته في طاوة ماء أمسكتها فوق رأسي. حدثت فرقعة وتصاعد البخار وملأت الغرفة رائحة الرصاص.. ثم ظهر هذا الشكل.. ماذا يشبه?).

كان الرصاص الأملس في كفي يشبه طائرة أو بعوضة. قلت: (يشبه بعوضة أو طائرة).

أمضى ليلة كاملة مع قطعة الرصاص حول رقبته، ليلة في العزلة، زارته خلالها الملاريا ثلاث زورات أو أربع، كان يرى بعد خفوت كل نوبة ذلك الشيء الذي يشبه طائرة أو بعوضة جبارة، جاثماً في فناء الجامع.

قال إدريس: (لنتخلص منها. لنرمها من النافذة).

وقفت إلى جانبه على ركبتي فوق الدكة، وزعزعنا لوح الخشب المسمر من طرفيه، ثم انتزعناه وفتحنا درفتي الشباك الخشبيتين. تدفق النور، وهبت نسمات باردة، وتحت بصرينا كان المستنقع محصوراً بين أشجار النخيل من جهتى الغرب والجنوب، ومياهه الرائقة تتصل في عدة أماكن بالمياه العكرة للنهر من جهة الشرق. وقدرت لرميتي مدى يتجاوز ظل بناء الجامع الفاتر بأذرع قليلة، ولكنه دون الرقعة التي يحتلها قلب المستنقع الخامد. سقطت قطعة الرصاص قرب عيدان قصب نابتة، على سبات السطح الأخضر. وفي الحال بدأت انتفاضات وزفرات تنسلخ عنه وتعرج إلى الأعلى في هبوب أغبر. واستمرت سورات البعوض في الهبوب والهيجان والصعود إلى أن اندمجت في غمامة دائرة حول نفسها على بعد أذرع من النافذة، لم تتزحزح عن مكانها. أحسست بكف إدريس الساخنة تنسحب عن كفي، وثبت اللوح في مكانه على الشباك. كنا نسمع أنفاس الوحش خلف النافذة الموصدة.

قلت لإدريس: (سيخمد بعد ارتفاع الشمس. لكنه سيهب ثانية بعد زوالها).

لم يظهر أي ظل للخوف على البشرة الصافية الشحوب، وقال: (لن يضيرني البقاء هنا ليلة أخرى) .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى