ميلود خيزار - محنة الخطاب الشّعري الجزائريّ الحديث..

ستكون مقاربة " الشّعر الجزائري المكتوب بالفصحى" بمعزل عن " الامتحانات التاريخيّة" المريرة التي مرّت بها اللّغة العربية، مقاربة " غير علميّة"، حتّى لا نقول إيديولوجية أو " مشبوهة".
لا أحد يمكنه " تجاهل" ما تعرّض ( و يتعرّض) له " اللّسان العربي" أثناء " حرب الاستئصال الطويلة" التي شنّـها الاحتلال الفرنسي على الجزائر، أرضا و إنسانا و ثقافة، ( و تركيزه اللافت على هذا البلد، مقارنة بجيرانه أو بسوريا و لبنان) و على مدى 132 سنة كاملة. و عليه، فانّ مقارنة " المتن الشّعري" الجزائري، بوصفه انعكاسا لحالة استدمار، بمثيله في المشرق المختلف من حيث " الظرف التاريخي" و طبيعة إستراتيجية الاحتلال ذاته، يعدّ " خطيئة علمية" قد يرتقي " تفسيرُها" إلى درجة " الخيانة العلميّة" ( إن لم يكن أسوأ). و لا أحد يمكنه " تجاهل" استمرار هذه الإستراتيجية حتّى بعد تحقيق ما يسمّى " بالاستقلال السّياسي" لهذا البلد، إضافة إلى كون " حالة الاحتلال" هذه و فّرت ما يكفي من عوامل " تقطيع الأوصال الثّقافية" للجسد الثقافي الواحد. و بالتالي، فانّ مقارنة هذا المتن، كمّا و نوعا، بين " سياقين مقطوعين" ( المشرق و المغرب)، و الحالة الجزائرية، تحديدا، يعتبر ـ تجاوزا غير مبرّر، علميّا.
في هذه الظروف " المستحيلة" نشأ و ترعرع هذا الصّوت الشّعري، المقطوع ثقافيّا و تاريخيّا، محكوما " بهاجس" استعادة " هويّته " المغتصبة" ( بخطاب الإصلاح و المقاومة ّالسّياسيّة، تحديدا). و في وسط منهك اجتماعيّا و منتهك " ثقافيا"، و قد قطعه الاحتلال عن " مخياله" و جرّده من " إنسانيته" و من كلّ عناصر التأسيس " لشعريّته". فغلب فيه " النّظم" على " الشّعر" و " اللغة" على " الكلام" و الفكر على الجمال، في هذه الظروف العسيرة نشأ " القوّال" (ذلك الصوت الشّعبي، المحدود الثقافة، الذي يجوب المدن و الأسواق و يغتنم المواسم لـ " يقول الكلام"، الكلام " المشوب" بعناصر الشعر شكليا). فلم يكن بوسع " القوّال"، المقطوع فنيا و جماليا، أن يقول " الشّعر" بغير ما تربّت عليه " الحاضنة الاجتماعية" المنهكة و المنتهكة، إلى حدّ اختصار فعل " المقروئية" لديها في " السّماع و الشّفوية"، أن توفّر " وظيفة التلقّي الشّعري" بمفهوم "التفاعل الفكري و الجمالي" المتعارف عليه.
لكنّه و بالرّغم من كلّ هذه "المعوقات"، نشأ في رعاية " المقاومة الشّعبية" و بلسانها و بقيمها، عكس الرّواية التي نشأت و ترعرعت في حضن " الاحتلال" و بلسانه و بقيمه الجمالية ( و لم يزل معظمها و إلى يومنا كذلك، بما فيها الكثير من الأصوات و النّصوص " المستعربة").
هكذا فتحت أرض الشّعر الجزائري عينيـها على " صباح مريب و ملغّم" بحالة " فطام إنساني" تفاقم بفعل " الإعاقة اللّسانية" التي ورثها عن أبشع احتلال عرفه تاريخ البشريّة.
لكنّ الأسوأ، في تصوّري، حدث بعد ما سُمّيَ " بالاستقلال"، فالنّظام السّياسي، الذي ورث الاحتلال و صادر " الثورة" لم يكن بتلك " المرجعيّة الثقافية و الأخلاقية" الكافية لامتلاك رؤية تنموية شاملة و أصيلة و لا لوضع و تبنّي إستراتيجية ثقافية وطنيّة تُمكّن الإنسان الجزائري من استعادة و ترقية " منظوماته الرّمزيّة"، و على رأس هذه المنظومات " اللغة"، و بحكم كونه نظاما اوليغارشيا، مركزيا، لا ( و لن) يسمح بتداول أسئلة التعدّد و الاختلاف و العدالة، فمن الطبيعي أن يكون نظاما " معاديا للشّعر"، كـخطاب " حرية"، و أن لا يتعدّى اهتمامُه بهذا الخطاب حدود " التوظيف الإيديولوجـي" و بالقدر الذي يوفّر له، كسلطة غير شرعيّة، بعض " المشروعيّة الرّمزية" و هذا ما حدث إزاء اللغة العربية ذاتها ( التي وظّفها كورقة سياسيّة، و عطّلها إداريّا و بشكل يؤكّد و جود " طابور خامس")، و هو النّظام ذاته الذي حرص دائما على إدارة " الجهويّات" و " تغذية العنف" و " توفير" عيون الإرهاب الأعمى ( بتبنّي سياسة القهر و خطاب الاحتقار) و صيانة " ألغام الهويات" بشكل " يعطّل" كلّ إرادة في الحرية و تحقيق الذات و تفجير الطاقات الخلّاقة الكامنة في المجتمع، بل صار " عائقا" بين الإنسان الجزائري و كينونته، حتّى انّه لم يعد يخفَى على الجزائريين، وفرة " قطعان العملاء" داخل الدولة و الذين يشتغلون إعلاميا و أكاديميّا و تعليميّا و سياسيا، لصالح قوى كولونيالية كفرنسا.
لا يمكن للقارئ الذكيّ أن يغفل الأدوار المشبوهة التي تقوم بها هذه " الأجهزة" في صيانة و استمرار صورة و صوت " القوّال" ( عبر المهرجان و الملتقى و الجائزة و التّكريم و التّمثيل الدّولي و العربي و التّداول الإعلامي و الأكاديمي)، بهدف " عزل" و تحييد" التّجارب الشّعرية الحقيقيّة، و للدّلالة على ذلك، يمكننا الإشارة إلى تفشّي " النّظم"، ممثّـلا بـ م. زكريّا و م. العيد الخليفة، و ما جاورهما، في الـمُقرّر التّـربويّ و الخطاب الرّسمي ( بغرض الإساءة للمخيّلة العربيّة) لدى المتلقّي و سجنه في هذه الذّاكرة و الذّائقة و الرّؤية، وفق " إرادة" السّلطة و "حسابات" النّظام. يمكن الاستشهاد بجملة تلك العبارات المهينة المعروفة عن رموز هذا النّظام بخصوص مقولاتهم " المحتقرة للشّعر". يمكن قراءة هذا " الاحتقار"، عمليّا، في أجهزة " سياديّة" كالمنظومة التّـربوية و الخارجيّة و الاقتصاد، يمكن قراءة هذا الاحتقار في انعدام وجود قناة ثقافية واحدة أو مجلّة ثقافية دوريّة " محترمة".
لماذا " هذا" الوضع هو " الأسوأ" ؟ لأنّه صنيعة أصوات " جزائريّة".
الأصوات ذاتها التي تروّج لمقولة كون الشّعر ينحدر من أوساط ثقافية " ريفيّة"، شعبيّة"، " بدويّة" و كون الرّواية تنحدر من أوساط ثقافيّة " حضريّة"، " مدنيّة" ( و تسكت عن " مقابل" عبارة " شعبيّة"، خشية افتضاح مرجعيتـها: المركزيّة " الكولونيالية")، بغضّ النّظر عن كون " المقولة" غير مؤسّسة" فكريّا و " عنصريّة" أخلاقيّا.
يغامر الكثير من الإعلاميين " الـمتحاملين" على " الكتابة الشّعرية الجزائرية". الجهلة بأسئلة الشّعر، و الكثير من " الرّواة" الحاملين لمشكلة وجودية" اسمها " حروف الجرّ"، و للعُقد " المستفحِلة" تجاه قواعد التّعبير بأسلوب " عربي سليم"، حسب ما تقوله " نصوصهم" " المستعربة"، و من الأكاديميّين الذين وجدوا أنفسهم، تاريخيّا، خارج منظومة الاشتغال النّقدي المؤسّس.
و لا يمكن للقارئ الذكيّ، أن يتجاهل " آليات" العزل و التّحييد و المصادرة، التي مورست، و تمارس، على النصّ الشّعري الجزائري العربي الحديث، المتمسّك بهويّته كخطاب حرّية و جمال، مثيرا بذلك ضغينة و حقد "ممثّليّ" الخطابات الكولونيالية "المحتكِرة" لقيم الإبداع و الاختلاف و الحداثة.
من المؤسف أن تتبنّى هذه الأوهام و تروّج لها بعض الأسماء الـ " روائية" الجزائرية التي تجد صعوبة بالغة في انتزاع مجرّد اعتراف عربي بإبداعيّتـها، و لدرجة بحثها عن هذا الاعتراف في حضن " المعمّر" و " الكيان الصّهيوني"، و لكن بثمن باهظ: قيم الكتابة و شرف الكاتب.
و ليس أدلّ على هذه الحرب القذرة، التي تُدار بالوكالة، من احتفاء الكثير من المؤسّسات الأجنبيّة و العربية " المخترقة"، بالنّصوص و الأسماء الشّعرية الجزائريّة " الفقيرة" رؤيويا و الهزيلة إبداعيا"، و ليس أّذلّ لأصوات هؤلاء " الرّواة" الشّواذّ، من تهافتهم على موائد " الأمير" و تذلّلهم عند باب المعمّر، في سعيهم المحموم و المخجل وراء الضّوء و الشّهرة و اغتصاب اعتراف مغمّس بالاحتقار و " جائزة" مغمّسة بالإهانة، و لكونها " أقلاما مزيّفة" فان هذا لا يؤلمها بقدر ما يسيء إلى الكتابة بوصفها فعل حرية بجمال و بوعي.
أثناء التبادلات الثقافية بين الدّول العربيّة، و على ندرتها، كثيرا ما تحدث عمليات " غش" بخصوص " التمثيل الحقيقيّ" للثقافات فترسل الأنظمة المستبدّة "بعثاتها" و " أصواتها" و " نماذجها المقزّزة" و تمعن في الإساءة للثقافات المتعدّدة الاصيلة. و تختصّ الشّعر بهذا " الإذلال" و " الاحتقار".
قليلون هم القرّاء العرب الذين عرفوا حقّا " الشّعرية الجزائرية الحديثة" و تداولوا نصوصها و عرفوا أسماءها الفاعلة مثل: عمر ازرّاج، عثمان لوصيف، عبد القادر رابحي، لخضر بركة، عبد الله بوخالفة، محمد قسط و محمد الأمين سعيدي، فريدة بوقنّة، عبد الله الهامل أو حكيم ميلود، على سبيل الذّكر. لأنها " أصوات" تنأى بشرف الكلمة عن " التورّط" في خطاب و ملابسات السّلطة و "آلياتها الترويجية".


ميلود خيزار. كاتب و شاعر جزائريّ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى