أشرف قاسم - «سيعود من بلد بعيد».. سيرة ذاتية لمجتمع مأزوم

تظل تجربة الغربة هي أقسى التجارب الحياتية التي يمر بها الإنسان في حياته، بما تذيقه من عذابات وهم وحزن، وبما تخلفه في نفسه من لوعة وشوق وحنين إلى الأهل والوطن والصحاب، وملاعب الطفولة والذكريات.
وتجربة الغربة في الشعر العربي بشكل عام هي رافد مهم، لما لها من خصوصية تميزها، ولارتباطها بواقع اجتماعي وسياسي مأزوم.
في تجربة جديدة من نوعها في شعرنا العربي يفرد الشاعر محمد الشحات ديوانه الجديد «سيعود من بلد بعيد» لوصف وتوصيف حالة الغربة التي يحياها ولده المهاجر، وحالة الغربة التي يحياها الأب، وما يشعر به هذا الأب تجاه ولده، من شوق، وحنين، وعذاب وألم روحي يقض مضجعه كلما نبش - الأب - في صندوق الذكريات، واستعاد طفولة ولده المهاجر بدقائقها، وتفاصيلها، وبراءتها الأولى:

ما زلت أخفي عنك كل ملامحي
بعض اضطرابي
رجفة تأتي وترحل
كلما حاولت أن انجو بها
كانت تحاصرني عيونك
فانزويت بغرفة
أخفيت في أركانها خطواتك الأولى
وأول ما نطقت به
وأنت تركت في جنباتها بعضا من الأوراق
كنت حملتها في سلتين
حتى إذا ما ازداد شوقي
كنت أرحل في غيابك بين بين / ص 7،8

والحنين والغربة مترادفان، وتستتبعهما الكثير من الدوال التي تجسد هذا الصراع الذي يعتمل داخل الأب، والذي يرسمه شعرا من خلال الأفعال المضارعة التي تفيد الديمومة وتجدد الألم والشوق، والتوق إلى وجه الغائب.
يستذكر الشاعر - الأب - كل تفاصيل الماضي، في محاولات منه لمواساة روحه، في لوحات تعبيرية متتابعة عبر نصوص الديوان، ملتمسا العزاء لقلبه الذي ينازعه الشوق إلى ولده، راسمًا له صورة الوطن في كل سطر من سطور الديوان:

ماذا حملت من اغترابك؟
هل تركت على الطريق
من البحار إلى البحار
صدى حنينك للوطن ؟
وطرقت ذاكرة الزمن
بعض الفطائر في انتظارك
وجه أمك لم يزل يستقبل الليلات
بحثا عنك في قصص الطفولة / ص 11،12

يعتمد خطاب محمد الشحات الشعري في هذا الديوان على جماليات الجملة الشعرية المصطبغة بصبغة التساؤل حينًا، وبصبغة المساءلة أحيانًا أخرى
التساؤل عن جدوى الاغتراب وإعادة طرح الأسئلة الكبرى التي أرقت غيره من الشعراء الذين تناولوا تلك الظاهرة ببعديها النفسي والمكاني:

هل تستحي من لحظة
يوما تحين
وتلتقي فيها العيون مع العيون
وترتجي أن نستظل بها
ويغمرنا شذاها ؟ / ص 34
تركت بلادك ورحلت
فهل أثلجت الصدر ؟
وهل بدلت تقاليدك ؟
هل أدركت بأن جذورك
حين تشدك سوف تعود ؟
هل أكلتك الغربة ؟ / ص 67

ومساءلة الوطن / الأم / عما آلت إليه أحواله حتى فكر أبناؤه في الهجرة، وأكرهوا على الاغتراب، فعلى الرغم من ذاتية وخصوصية التجربة الشعرية في هذا الديوان إلا أنه في ذات الوقت بمثابة سيرة ذاتية لمجتمع متشظٍّ، محاصر بين مطرقة الظرف السياسي، وسندان الظرف الاجتماعي، وكلاهما أقسى من الآخر :

وطن لا نعرفه
يسكن خلف عيون الأطفال
فلا تعبأ حين تراهم
وتقاوم ما تعرفه
عن وطن
كان يظللنا فنهيم به
ما عاد يتيح لنا
أن نسكن في معطفه / ص 19

تبتعد لغة الشاعر عن اللغة النمطية المكرورة، وذلك من خلال شاعرية اللفظة، وإشارية المعنى، وإيحائية الصورة الشعرية، مكونة أفقا جماليا مختلفا في بعده الإنساني الذي هو أساس تجربة الشاعر في هذا الديوان.
إذن لغة الشاعر هنا لغة حية نابضة، ذات خصوصية في معناها ومبناها، تنم عن ثقافة وطول تمرس، منطبعة بطابع إنساني حتى في رصدها للتحولات الاجتماعية التي أدت إلى حالة الاغتراب الذي يحياه الأب / الشاعر / والابن / المغترب / معا، كنموذج مصغر من حالة الاغتراب المجتمعي الذي يعيشه أبناء هذا الوطن:

كل الموانئ لم تعد تزهو بنا
فاخفض غناءك وارتحل خلفي
ودعنا
لا تودعنا وترحل
علنا نطفو فتحملنا الرياح
فنشتهي أن ننتهي
سحبا ونصبح قطرة
تمضي إلى وطني
فتنبت زهرة
أو سنبلات / ص 103

وربما اختلفت مستويات اللغة لدى محمد الشحات في هذا الديوان تبعا لاختلاف حقول الرؤى وحقول الدلالة، ولكنها في النهاية لغة سلسة، عذبة، بسيطة، بعيدة عن التعقيد المعجمي، وبعيدة عن الغموض المجاني والرمزية التي تستعصي على الأفهام:

أنا من بلاد
لها ما لها
ولي أن أهيم بها
كنت أخفيتها في دمي
هنا حين تمضي
سيعرفك العابرون
ولن تتمكن من أن ترى
في الوجوه سوى
رجفة النازحين
فأغلقت عيني
على ما كنت أحمله
من بلادي / ص 84

ومما لا شك فيه أن الإيقاع الشعري هو أحد أهم دعائم التجربة الشعرية - داخليا كان أو خارجيا - فهو صدى لحالة الشاعر النفسية، ويحمل دلالات لما يعتمل في الذات الشاعرة، من مشاعر وأحاسيس متناقضة، بل نستطيع أن نقول أن الإيقاع هو صدى الروح لا صدى الجملة الشعرية، ولذا ينوع الشاعر في إيقاعاته تبعا لما تقتضيه حالته النفسية، وما يعتمل في صدره من مشاعر، كما فعل في قصائده الثلاث الموجهة لحفيدته، فنجده فيها قد اختار تفعيلة الرجز لمخاطبة الحفيدة، والرجز بحر ذو حالات متعددة، إذ يستخدم تاما ومشطورًا ومجزوءًا ومنهوكًا، وقيل إنه سمي الرجز لاضطرابه وكثرةعلله ، وقيل إنه أكثر بحور الشعر تقلبًا، ويمتاز بحروفه القليلة، وهو ما يناسب خطاب الطفل:

وكانت كلما تلاقت العينان
وجدت وجهك البشوش
أخاف أن يصيبك انكسار
قلبي المسن / ص 89
أخاف حين يبدأ الكلام
أحرفا عرجاء
على ملامس الشفاه
أن تنام في حروفك الخضراء
مرارة الأيام يا صغيرتي
وقطتي
وقبضة من الفؤاد / ص 90
يا زهرة لها من الرحيق
ما يعيد لي براءتي
وثورتي
التي أضاعها الزمان / ص 108

وفي النهاية لا يسعني إلا أن أحيي الشاعر محمد الشحات على تلك التجربة المهمة في مسيرة القصيدة العربية، آملًا أن تفتح قراءتي هذه بابًا صغيرًا لقراءات أشمل وأعم.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى