حصة العوضي - القلب الذي هوى

تلك اللحظة فقط.. أدركت كم يحبني.. إنها هده اللحظة التي يصلني فيها ذلك الخبر.. هو يحبني حقا.. يحبني لدرجة الجنون.. لا.. بل لدرجة الموت.. لدا في المرة القادمة حين يأتي إليّ طالبا يدي.. أعني الزواج مني.. سأقبل.. وبكل ما لدي من حب ووله.. سأقبل به زوجا وحبيبا وأبا لأطفالي الذين أتوقعهم في القريب بإذن الله..

ربما لم أكن في وعيي في المرات الثلاث الماضية التي جاءني يطلب ودي.. ويطلب مني الزواج.. ربما كنت لا أعي أنني أريده أيضا مثلما أريده الآن.. نعم الآن.. هذه اللحظة أشعر بأني مقيدة إليه.. مسيرة بعقلي وقلبي وجنوني معه.. أشعر أني أود أن أضع رأسه فوق كتفي ليبكي أيامه الغابرة الأليمة.. وأن أحتضن رأسه الجميل بيدي الاثنتين وأنا أقبله فوق جبينه وأمسح له دموعه كطفلي الصغير..

نعم كم أشعر بفقده الآن.. بالشوق إليه.. بالرغبة في رؤيته وملامسة كفه البريئة وطبع القبل الملهوفة فوقهما.. كم أود معانقته بعد هدا الفراق الذي طال أمده دون اختياري.. وخاصة أنه هو الذي اختار البعاد بعد أن رفضته ثلاث مرات.. بعد أن طردته من نعيمي وقلبي دون أدنى رحمة..

رحماك يا الله.. هل تعاقبني الأيام لجريمتي النكراء التي ارتكبتها في حقه..؟! هل سيطالبني الزمن بالتكفير عن ذنبي.. ويدينني على خطئي الكبير الفادح.. ؟! كل جريمتي أنني رفضت الزواج كمبدأ.. ولم أكن أرفضه هو.. قلت له في المرة الأولى حين جاء إليَّ :

– لست ممن ترغب في العيش معها بقية عمرك القادم.. فلي طموحات كثيرة أزمع للوصول إليها قبل أن أركب موجة الحياة الزوجية..

كان قد قال لي قبل ثوان فقط من ردي:

– لقد حدثت أبي بشأنك.. وهو موافق تماما على اختياري لك.. بل هو سعيد جدا لأنني استطعت أن أعثر على فتاة أحلامي.. أبي قال لي: تأكد من رأيها أولا قبل أن نقدم على الخطبة..

يا إلهي.. ما هذا الذي يحدث معي.. دموعي تغالبني.. وتأبى الصمود.. دموعي تتفجر سيولا وأمطارا جارفة..؟! كيف وصلت إلى هذه المرحلة.. ؟! هل أحببته حقا دون أن أعلم.. هل أحببته وأخفيت مشاعري هذه حتى عن نفسي وعن قلبي.. وعن مشاعري..؟!

ما لم أدركه حتى هذه اللحظة هو أنني كنت أغالب نفسي.. وأقحمها في معركة ربما تكون فاشلة من البداية.. الفشل من الهروب من الواقع والقدر.. ولكن.. هل كان هو حقا قدري المكتوب لي..؟!

بعد تلك المحادثة بشهر فقط أتاني مرة أخرى.. كان يرتدي دبلة بيضاء في بنصره الأيمن.. رفع يده إلي.. وأراني تلك الدبلة.. وقال لي وهو يخلعها من إصبعه :

– انظري إنها ليست ذهبا ولا فضة.. إنها ليست أي شيء.. مجرد حلقة أرتديها حتى لا يغضب أبي مني بعد أن أبلغته بردك السابق لي.. لقد خطب لي ابنة أخيه.. أي ابنة عمي التي لا أريدها.. ها هي.. انظري.. ها هي الدبلة المزيفة.. بإمكاني خلعها وإلقاؤها الآن في القمامة.. بإمكاني أن اقول لأبي بأنني لا أريد ابنة أخيه.. فقط حين تقبلين بي.. اطلبي ما تريدين.. أنا طوع أمرك.. ولك كل شروطك التي ترغبين بفرضها عليَّ دون تقييد.. فقط وافقي.. قولي بأنك تريدينني كما أريدك.. أرجوك.. !!

لست أدري كيف تمكنت من الإمساك بقلبي في تلك اللحظة.. وتركت لساني هو الذي ينطق ويتكلم.. لم يكن ذلك عقلي.. فأنا ولا شك كنت تلك اللحظة دون عقل.. عقلي الذي خبأته تلك اللحظة في حقيبتي الجامعية.. وأغلقت عليه أغلفة الكتب الضخمة الكبيرة.. عقلي ذلك الذي خانني في تلك اللحظة ولم يقف معي لأقول له ما أريده الآن.. فقط كل ما قلته له :

– ألف مبارك عليك هذه الخطوبة.. أنا سعيدة لأجلك.. وسأكون أسعد حين أراك سعيدا مع ابنة عمك..

كيف يكون سعيدا.. ذلك الذي لم يختر قلبه الآخر أن يحتضنه ويحتضن حبه وبؤسه ونعيمه..؟! كيف يكون سعيدا.. من يسلم قلبه بيديه الاثنتين لحبيبة ليست تعي قيمة ما في ذلك القلب من حب وعشق ووله..؟! كيف يكون سعيدا ذلك الذي يصرف مرتين من قبل محبوبته التي اختارها من بين عشرات الصبايا الفاتنات..؟!

أحسست تلك اللحظة بالطعنة التي سددتها إليه.. لكنني لم أكترث.. نعم، قلبي ذلك الذي بين أضلعي ما كان قلبي أبدا.. كان قطعة من الحجر.. ولو كان حجرا أيضا لانفطر وهو يرى ذلك الانكسار في عينيه.. وذلك البؤس في قلبه.. لا، لم يكن قلبي ذاك الذي تركه يرحل وهو يحمل كل حزن الكون.. وكنت أعتقد أنني لن أراه بعد تلك اللحظة.. كنت أعتقد أنه لن يأتي إلىَّ مرة ثالثة.. لن يأتي وفي قلبه طعنة ساخنة بخنجر مسموم من قبلي.. ومن لساني الذي كان يجلده في كل حرف وكل حركة.. كان يجلده بسياطه اللاهبة وهو يقول له :

– مبارك عليك هذه الخطوبة.. ومباركة عليك هذه الفتاة الوادعة..

لم أعتقد أنني سأراه مجددا مرة أخرى.. حين جاءني في المرة الثالثة.. كان يسير وكأنه يجر وراءه سلسلة ثقيلة مربوطة بحجر السجان الرهيب الذي لا يستطيع معه الحركة أو الهروب.. كان مقيدا.. نعم شعرت بذلك وأدركت كم هو ثقيل ذلك القيد الذي كبل به.. سألته:

خيرا.. ؟! ما الذي بك.. لماذا أنت شاحب.. ؟!

كان ينظر إليَّ بعينين بائستين.. عينين أضناهما السهر.. وهدهما التفكير.. شعرت بدموعه التي لم تهطل أبدا رغم كل ما عاناه مني ومن لساني البغيض.. أحسستها تبلل يدي التي أود أن أمسح بهما الآن حزنه وشحوبه.. قال لي :

– لقد عقدنا القران البارحة..

ثم صمت قليلا.. وكأنه يبتلع غصة حلت بحلقه دون إرادته.. أكمل :

– لكنني لا أريدها.. أنت تعلمين أنني لا أريدها.. أريدك أنت.. أنت وحدك من بيدها أن تخلصني من هذا الطوق الذي وضعته حول رقبتي.. إنه طوق الإعدام.. هل تشعرين به؟!

لا لم أشعر به.. حقيقة.. كنت تلك اللحظة أحلق في عوالمي الخاصة.. عوالمي التي صنعتها بيدي وأفكاري العقيمة.. تلك العوالم التي أخرجتني من واقعي المر لتحط بي في رحاب المجد والشهرة والخلود..

كلا.. لست أريد لأمجادي التي أصنعها بيدي أن تزول لمجرد أن أحدهم يحبني.. ويريد أن يقيدني إليه بدعوى الحب والزواج والحياة الرغيدة.. وهل توجد حياة رغيدة كالحياة التي تصنعها الشهرة والأضواء الساطعة.. والإعلانات المدوية..؟!

قلت له: وأنا لا أعرف تلك اللحظة إن كنت أمتلك قلبا أم لا..؟! فلو كنت حقا أمتلك قلبا لما سمح لي ذلك القلب بتسديد الضربة القاضية إليه.. وهو الذي جاءني هائما في ملكوت حبي ووجدي .. قلت :

– لست أشعر حتى الآن أنني ملك لأحد.. أنا ملك الأقدار.. وأنت أصبحت الآن ملكا لامرأة أخرى.. كم أتمنى أن تسعد معها.. وتحقق حلم أبيك بالزواج وإنجاب البنين والأحفاد.. فذلك ليس حلمي..

قال لي :

– سأنتظرك.. حتى تحققي كل أحلامك.. سأنتظرك العمر كله.. فقط.. كل ما أريده أن أعرف أنك لي.. وبأنك ستكونين زوجتي مهما طال بك المطاف وغربت بك الأحلام.. أنا أريدك بكل جوارحي.. فلا تبخلي عليَّ بهذه الأمنية..

قلت له :

– لست أريدك أن تنتظر.. فلست أدري ما الذي يخبئه لي القدر.. لست أدري.. ربما أصادف يوما ما الرجل الذي أعتبره هو حلمي الكبير.. لكن ليس الآن..

– اعتبريني أنا ذلك الرجل.. وسوف أكون على عتبة قلبك أنتظر حتى يفتح لي ويسمح لي بالدخول.. فقط عديني بكلمة واحدة.. كلمة واحدة ستحل لي كل مشاكلي وأموري القلبية.

ما الذي حدث لي لأحمل تلك الصخرة بين جوانحي.. ولأقدفه بالطلقة القاضية :

– لا.. لست حلمي.. ولا أريدك أن تنتظرني.. فأنت لست رجل أحلامي..

قتلته.. نعم.. قتلته تلك اللحظة التي سددت فيها عليه من سهامي الغادرة.. قتلته وهو لا يزال شابا يافعا في ريعان الصبا.. قتلته وهو قرة عين أبيه وأمه وجدته.. قتلته وأنا أرى دماءه التي نزفت بين يدي تكسوني من رأسي إلى أخمص قدمي.. تغلف مني حتى الخلايا الداخلية لذلك القلب المتحجر الصلب.. قتلته دون إدراك مني بأنني أقتل معه كل أحلامي وطموحاتي الجميلة.. وكل لحظات السعادة التي أبتغيها من هذا العالم وهذا الكون.. قتلته بيدي ولساني وقلبي.. مند سنوات طويلة.. قبل أن يأتي إلي نعيه الآن.. ومنذ لحظات فقط.. لأشعر معه ومع كلمات العزاء التي سأتلقاها في موته بأنني الجانية التي تسير خلف جثة المجني عليه.. فقد أحبني حقا.. أحبني طول العمر.. أحبني حتى آخر رمق له.. نعم، إنه ذلك الحب الحقيقي الصادق.. هو حب حتى الموت..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى