جعفر الديري - علي عبدالله خليفة: معظم الأعمال الإبداعية فشلت في توظيف التراث

كتب – جعفر الديري

قال الباحث في ميدان الثقافة الشعبية الشاعر البحريني علي عبدالله خليفة ان التراث الشعبي وظف في الكثير من الأعمال الإبداعية بشكل سيئ، مستدركا أن هناك القليل من الأعمال الإبداعية التي استلهمت هذا التراث واستطاعت أن تعطي إضاءة مهمة له.
وأضاف خليفة خلال محاضرته "استلهام التراث الشعبي في الأعمال الابداعية في منطقة الخليج العربي"، ألقاها بالملتقى الثقافي الأهلي، الثلثاء 5 أبريل/ نيسان 2005: ان موضوع استلهام التراث الشعبي متصل اتصالا مباشرا بالدين وبالقدرة الإلهية العظمى. فعندما يقال "فلان استلهم من الله الصبر" فان هذا الأمر يشير الى استلهام شيء يتصل بالروح. فهو لا يطلب شيئا ماديا. والاستلهام هو شيء مختلف عن الاقتباس اذ إن الاقتباس عملية ذهنية لكن الاستلهام عملية ابداعية تتصل بالابداع والالهام وحين نقف أمام عبارة توظيف التراث الشعبي في الأعمال الثقافية والفنية فقد يتبادر الى الذهن بأن المقصود هو عملية استحضار المادة التراثية أو اقتباسها أو الاستفادة منها في الأعمال الفنية بشكل أو بآخر، بحيث لا ينتج في نهاية المطاف عملا فنيا ذا صلة بالتراث الشعبي.

كلمة استلهام لا توردها المعاجم

وقال خليفة: ان كلمة استلهام لا ترد في المعاجم اللغوية والأدبية القديمة والحديثة بالمعنى المتداول. وانما هناك كلمة إلهام وهي المشتقة من كلمة "لهم" وهي الكلمة الوحيدة التي ليس لها اشتقاقات. والاستلهام أو الالهام معناه حرفيا - بحسب ما يرد في لسان العرب - أن يلهم الله في النفس أمرا يبعثه على الفعل أو الترك وهو نوع من الوحي يصطفي الله به من يشاء. فنرى هنا أن المعنى متصل بالدين حتى في المعاجم اللغوية الانجليزية. فالنبي محمد (ص) كان يوحى اليه فهو يتلقى الوحي روحيا، فالكلمة باستمرار يكون لها اتصال بالدين. والمعنى في كل الحالات متصل بالالهام - وكما يعرفه لسان العرب - الالهام نور يقذفه الله في القلب وعلم يحصل للمرء بالكشف وهو من خصائص الأنبياء والمصطفين. فهو فيض من الله وضرب من الوحي وكان النبي (ص) ملهما من عند الله. فالوحي هو ما أنزل عن طريق الرؤيا الصادقة، فيترادف هنا معنى الاستلهام المنشق من الإلهام بمعنى الاستيحاء المشتق من الوحي والذين بهما يتوصل الفنان عبر مخاض شعوري الى ابداع عمل فني جديد غير مسبوق.

ارتباط وثيق بالدين

وحول علاقة الالهام بالدين قال خليفة: بدأ الالهام في تاريخ الحضارة الانسانية مرتبطا أشد الارتباط وأوثقه بالدين. فعندما ترد كلمة الالهام فإن التفكير يذهب مباشرة الى الناحية الروحية من شخصية الانسان ويتوغل بعيدا في عمق الذاكرة الثقافية فقد رفض أفلاطون الشعر بقوة خارجة عن طبيعة الانسانية عندما أكد أثر الالهام في الشعر، وقد رفض أرسطو هذا المنطق تماما حينما قال ان الشعر مصدره أعماق الطبيعة الانسانية. وقديما كان يقال إن هناك واد يسمى عبقر، وان هناك قوى شيطانية كانت توحي للشاعر بالشعر.
وتابع قائلا: ان الشاعر يتميز بقدرته على الكشف حتى في العصر الحديث، فمن لا يمتلك هذه الرؤية يعاب في شعره من قبل النقاد. فلابد من أن تتوافر للشعر رؤية مستقبلية تكشف المستقبل. ويقال إن الشاعر المصري أمل دنقل كان قد تنبأ بهزيمة 67 قبل حدوثها، وقال اشعارا تدل على ما سيقع. كذلك تنبأ توفيق الحكيم بثورة 23 يوليو في أكثر من عمل من أعماله المعروفة. فعملية الإيحاء انتقلت من الوحي الالهي والأنبياء الى قضية الابداع الشعري المتصلة بالوعي والالهام. إذا معنى الاستلهام مترادف مع معنى الايحاء ومع الوحي وهو عامل ملهم.

الاستلهام كمصطلح نقدي

وكمصطلح في النقد الأدبي بين خليفة: أن ذلك يعني توافر تجربة شعورية حاضرة يمر بها الفنان، تلتقي مع آثار تجربة أخرى مستقرة في الذاكرة الجمعية سواء للأمة وللشعب أو القبيلة، فتتبادل التجربتان التأثير، ليستحضر الفنان هذه التجربة ويتأمل في الحدث أو في الثيمة أو في الشخصية لتلتقي مع تجربته الحالية. فعلى سبيل المثال استحضار إله الماء في أسطورة دلمون "انكي"، أو أمثلة كثيرة في التاريخ كعنترة ومجنون ليلى، فإن الآثار لا تعد، غير أن الشاعر يبحث عن الموقف الذي يعيشه في تجربته الحاضرة. لذلك ينقاد الى التاريخ، إذ لابد أن يكون هذا الفنان مطلعا على التاريخ، وعلى علم ودراية بالثقافة ولديه خلفية تؤهله لينتقي من هذا التراث ما يلتقي مع تجربته، ويتفاعل معها بحيث ينتج من هذا التفاعل عمل ابداعي جديد مختلف تماما عما كان في الماضي. فمسرحية الحلاج لصلاح عبدالصبور مثلا كتبها للدلالة على الاستشهاد من أجل قول كلمة الحق. فهو يستحضر الحلاج الذي صلب وقطع بسبب اصراره على قول ما يراه. والأمثلة كثيرة، فعنترة مثلا كانت حكايته بسيطة ولكن حكايته سحبت في العصر الحديث للدلالة على التمييز العنصري. فعندما استحضرت الحكاية لم تستحضر بشكلها التقليدي البسيط وإنما استحضرت للدلالة على شيء معاصر معاش في زماننا هذا كي تعطي معنى جديدا يستحدثه الشاعر أو المبدع أو صاحب الفيلم أو صاحب الرؤية كي يعطي عمله الفني صيغة تكون فيها الحكاية الشعبية خلفية أو مقدمة أو تعميقا لفكرته. وتفاعل الالهام والاستلهام في العملية الابداعية، مزج العام بالخاص في التجربة الشعورية، دمج الأنا في النحن، أي الذات في الجماعة عبارة عن أمثله عامة وهي ملك للناس جميعا. لكن عندما تطرحها للتعبير عن شيء يخصك، تكون قد مزجت العام بالخاص.

صحيفة الوسط البحرينية الإثنين 11 أبريل 2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى