قيس مجيد المولى - ماهي أخبار الضفدعة

حين شيعوها الى المقبرة، بعد أن وضعت بعلبة بلاستيكية، كان أحدِ الطلبة السودانيين قد أتى بالضفدعة من بركة ماء في حديقة دار سكنه التي استأجرها مع مجموعة من أبناء جلدته الذين أتوا لدراسة الطب في جامعة بغداد.
في صبيحة اليوم نفسه 25 مايو/ أيار 1969 بثت إذاعة أم درمان بياناُ للعقيد أركان حرب جعفر محمد النميري معلناً استيلاء القوات المسلحة السودانية على السلطة في البلاد.في ذلك اليوم كانت مجموعة الطلبة والطالبات وهم في الساعة الثانية يستمعون الى الدرس المخصص عن التجويف الفمي البلعومي مع تفاصيل أخرى تتعلق بقدرة هذا الكائن على الإنتقال من اليابسة الى الماء بعد اكتماله لتكويناته ومنها تحول تنفسه من الخياشم الى الرئتين، ظهيرة ذلك اليوم الذي دُفنت فيه الضفدعة أعلن محمد النميري عن توجهاته اليسارية وسلم بعض وزاراته الى أعضاء من الحزب الشيوعي السوداني، ووضع أصحاب المكتبات في أم درمان مؤلفات ماركس وأنجلز ولينين على واجهات مكتباتهم كما ارتفعت قيمة الجنيه السوداني الى 3 دولارات و14 سنتاً، وأعطيت في البيان الأول ضمانات لنشر الديمقراطية ولمشاركة كافة القوى الوطنية الحكم وأطلاق سراح السجناء والإهتمام بالتعليم والصحة والصناعة والزراعة، وكما هو الحال في البيانات التي يلقها الإنقلابيون في أي من دول الوطن العربي .
بكى جوبير من فرحه، ظن زملاؤه أنه يبكي الضفدعة، لكنه كان يعبر عن فرحه بالدور الجديد للحزب المنتمي اليه، وهو المسيحي الذي ولد وعاش كما هو أبوه وجده في أم دورين.
قال له والده ذات يوم نقلا عن جده يابني إن في السودان ديانات عديدة، عند مجيء الإسلام قرب هذه الديانات بعضها مع البعض فأصبح الجميع أخوة في الله. عصرا ذهبت فاطمة لإقتناء مصحف من المسجد الذي يقع قرب كنيسة الأرمن الكاثوليك في منطقة ساحة الطيران، وعند عودتها صادفت جوبير وهو يحتضن رزمة من الكتب اللامدرسية. ابتسمت وقالت له خير الكتب كتاب الله، فهم جوبير مرادها وهزّ لها رأسه مجاملا، لكنه سألها من يطعم الفقراء قالت له الله، ولكن من ينتج الطعام لهم، قالت إرادة الله، وظلت تواصل حديثها:
لولاه ما ترسل السماء غيثها
ولولاه ما حملت الأرض
ولولاه لما حرثت الأبقار الأرضَ
ولولاه ...
قال لها لا إله إلا الله
أنا المسيحي الشيوعيٌ المؤمن، لا إله إلا الله وليس هذا يعني أنني تحولت مسلما، فلي ديني ولي عقيدتي. وقرأ لها ما ورد في إحدى صفحات رأس المال عن الإنسان الحر وعن الإنسان المقيد، وقرأ لها من البيان الشيوعي وما حدث في 1889. قاطعته كي لا يصل جوبير الى المحضورات الدينية.
سألته مبتسمة:
ما هي أخبار الضفدعة؟
كان الطلبة قد أتموا وعلى مدار الساعات الست من كل يوم دراستهم العملية والتي تناولت (الجهاز الهيكلي, الجهاز الهضمي, والجهاز البولي) وتأهلوا تماما لمعاينة المشرحة البشرية، وقتها في تلك الأعوام لم تكن هناك حروب والقليل من الوفيات كان سببها حوادث الطرق أو النزاعات العشائرية.
استهوت النميري فكرة الأساطير والخرافات ووجدها الضالة التي يمكن من خلالها تفريق خصومه بعد ظهور الخلافات ما بين القوى المتآلفة وعملت ماكينته الإعلامية على نسج الحكايا، ومنها أن قتل الضفادع يصيب البلاد بالقحط وبالحروب، هذا ما كان يتناقله سكان القرى والمدن البعيدة وحتى البسطاء في أم درمان أمام القوى اليسارية التي باتت تجيد هجومها الإعلامي تحت يافطة السخرية بـــ "ما هي أخبار الضفدعة؟".
طلب أستاذ التشريح من طلبته الجلوس متقاربين عند المدرج الثالث الذي يطل على الصخرة المستطيلة التي تتوسط قاعة التشريح بإنتظار أن يؤتى بها من ثلاجة الموتى، واختار من بين الحضور طالبين وطالبة كان من بينهما جوبير وفاطمة والعراقي عادل أحمد.
أتى ياسين بالعربة وأوقفها جوار الصخرة التي تتوسط الصالة ودحرج بلامبالاة الجثة من العربة الى الصخرة ونتيجة لهذه الحركة اعتقد البعض أن صوتا ما صدر عن الميت شبيها بنقنقة الضفادع، الجالسون في المدرج الثالث التفتوا خلفهم ثم رفعوا رؤوسهم الى الأعلى كي يتحسسوا الأمان جيداً. ولكنهم حين رفعوا رؤوسهم للمرة الثانية شاهدوا ضفدعة بحجم لم يروه من قبل عند النافذة العلوية تنظر الى الجثة حين استقرت بوضعها الآمن. فتح بالمشرط صدر الرجل من أعلاه الى ما يقارب جهازه الذكري واقترب الواقفون من الرجل المسجى في حين راح ياسين يغرز الشاش والقطن هنا وهناك في محاولة لمنع تدفق الدم.
لما رأى ياسين علامات الإستغراب على وجوه الطلبة قال بصوت مسموع: "كلنا على هذا الطريق" وأرادت الضفدعة أن تردد ما قاله ياسين إلا أنها لم تفلح. بقيت على وقفتها عند النافذة العلوية تنتظر ما سوف يفعلون بالرجل والطلبة بين الحين والحين ينظرون اليها وينتظرون ماسوف تفعل.
شن النميري حملة عشواء من الإعدامات والزج بالسجون ضد أعضاء الحزب الشيوعي السوداني بعد فشل حركة التمرد التي قام بها الحزب بقيادة هاشم عطا، لذلك كان جوبير ساهما أمام جثة الرجل في المشرحة، وهو يتحدث ونفسه، ترى هل سيشرح الذين أعدمهم النميري وهل يسلمون لذويهم وهل ستقام لهم مراسيم العزاء.
أمر النميري أن تستبدل رؤوس العصي والتي كانت على شكل رأس أفعى تستبدل برأس ضفدعة طاعة للآلهة التي أمرت بذلك عبر حلمه الذي رآه ليلة وقوع الإنقلاب وكيف وقفت الآلهة ضد الإنقلابيين وأفشلت مسعاهم.
تولى الجهاز السري تنفيذ الأمر، وبدأت تحركاتهم في الأسواق وفي المستشفيات وفي الحدائق العامة، وقد طمأن هذا الجهاز الرئيس النميري من أن الأمر الإلهي قد نفذته الرعية بكل جدية ولم يبق في السودان إلا القلة من "شذاذ الآفاق" الذين لا يؤمنون بالله وكتبه السماوية وبقوا على غيهم ولازالوا جماعات جماعات عند أذان الظهيرة يقفون أمام المساجد ويقرأون النشيد الأممي. هذا ما أخبر به الجهاز السري لرأس الدولة وهمشوا في برقيتهم إليه ونحن بانتظار تعليماتكم المؤقرة.
استدرك أستاذ التشريح بعد أن شطر جسد المتوفي طوليا، وقال لا بد من نبذة تاريخية وبدءا وحسب ماجاء في الموسوعة الطبية:
أُجريت أول عملية تشريح مسجلة للجسم البشري في العالم الغربي في الإسكندرية القديمة وقام بها هيروفيلوس وإراسيستراتوس.
"وقدم هيروفيلوس وإراسيستراتوس حتى الآن أفضل طريقة: حيث قاموا بتقطيع الرجال المدانين في جرائم الانحلال، بعد أن جلبوهم من سجون الملك وبدأوا في تدوين ملاحظتهم، بينما لا تزال أعضاؤهم فيها الحياة والأجزاء الداخلية ووضعيتهم ولونهم وشكلهم وحجمهم وترتيبهم وصلابتهم وليونتهم ونعومتهم ونقاط الاتصال وأخيرًا العمليات والتجاويف التي يكون فيها أي جزء مقحمًا في جزء آخر أو يكون فيها أي جزء متصل بجزء آخر من نفسه".
إلتفت الطلبة الى الخلف والى الأعلى وهم يشاهدون أعدادا خرافية من الضفادع وأعدادا أخرى تخرج من تجويف المتوفي. هرب ياسين بعربته، وكذا أستاذ التشريح وطلبته، فسر جوبير هذه الظاهرة تفسيرا ميتافيزيقيا لفاطمة وهي بنصف إنصات له كونها كانت تقرأ {قل أعوذ برب الناس} وهم ينتظرون ما سيحدث بعد ذلك حين تمر سنوات بعد سنوات.
في العام 1985 كسر العامةُ عُصيهم التي كانت رؤوسها من الضفادع واستعانوا بمصيدات بدائية كتلك التي تستخدم لصيد الفئران لتنقية الأرض والمياه وأفكار السذج منها، وعاد أهل المكتبات في أم درمان ووضعوا كتب أنجلز وماركس ولينين جوار الكتب السماوية بعد أن أطاح سوار الذهب بـ جعفر النميري.
ومن حسن المصادفات أن يحضر سوار الذهب زواج جوبير وفاطمة وهو الذي وضع يد بعضهما على البعض وقال لهما: الدين لله والوطن للجميع، ولم يعد بعد ذلك من يسأل ما هيَ أخبار الضفدعة، ولا من يسأل من أي دين أو عقيدة أنت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى