عبد النبي فرج - خِزْي.. قصة قصيرة

كان يعلمُ أنّ َ قضاءَ اللهِ قد نفذَ, ولنْ يمرَّ الليلُ إلاَّ وقد سمِعَ طلقًا ناريًّا يشرخُ الفضاءَ، وتخرجُ رصاصة صفراء لتنغرسَ في صدرهِ, أو تُفجِّر رأسَ ابنه وينتهي أمره, وأنَّه لا قوَّة في الأرضِ تستطيعُ أن تمنعَ ذلكَ؛ لذلكَ أخذَ يبكي وحدَه في الغرفةِ بعدَ أنْ نامتْ زوجتُهُ؛ التي لا تعلم شيئًا عمَّا حدثَ, أو سيحدُثُ, ثم برق في رأسِه سؤالٌ: والجثَّة؟. أريدُ الجثَّةَ, أريدُ أن يُغَسَّلَ على شرْعِ اللهِ, ويُصلَّى عليه, وأعرفُ له قبرًا، أزورُهُ معَ أولادِهِ وزوجتِهِ وأُمِّه المَسْكينةِ. ظلَّ يُحاولُ القيامَ وجسدُهُ يُعاندُهُ, خامِلاً ,غيرَ قادرٍ على الحركةِ, عافَرَ وهو يستندُ على الكنبةِ، وفردَ طولَه, ثمَّ التقطَ الجلابيةَ الكشمير من على المِسْمار وارتداها، وخرجَ من البيت.
أغلقَ وراءَه البابَ بهدوء؛ حتى لا تقوم زوجتُه وتسألُه أسئلةً لنْ يستطيعَ الإجابةَ عنها, لا أحدَ في الشَّارع, صَمْتٌ, كأنَّ البلد تحوَّلتْ إلى مقبرةٍ , أضواءٌ صفراءُ تبخُّ منْ اللمباتِ المزروعَةِ في عواميد الإنارةِ, شَعَرَ بالبردِ منْ هذا الصَّقيعِ المتوحِّشِ؛ منْ موجاتِ الهَوَاءِ الباردِ الَّتي تنفذُ إلى عظامِهِ. ارتعشَ، فأخرجَ سيجارةً، جاهدَ حتَّى أشعلَها, سخونة تجتاحُ جسدَه, لينبتَ عرقٌ باردٌ على جبهتِهِ, سقطتْ السِّيجارةُ دونَ أن يدري, تجاوزَ الموقفَ ودخلَ في طريق خاصّ بهم, كان الطَّريقُ متربًا ومظلِمًا تمامًا, وإضاءة القصر, تأتي من بعيد كثيفةً, اقترب, أنصتَ لصوت الكلابِ, ابتسم, جاءت الكلابُ السَّوداء الضَّخمة تجري نحوَه في شراسَةٍ, وهو يسير دون أن يبالي, حتَّى التفتَ حوله، أخذت تتشمَّمه, وتهزُّ ذيلَها, ركعَ على ركبتيه وأخذ يتحسَّس ظهورَ الكلابِ السَّوداء النَّاعمة, يُداعبُها ويضعُ يدَه في فمِها، ثمَّ قامَ وتوجَّه نحو القصرِ مُباشرة.
"لن يحدثَ شيءٌ، أنا مجرَّد رجل عجوز مسكين, ولا يمكن أبدًا أنْ يُفكِّرَ أحدٌ في إيذائي, للسِّن حُكمٌ، وأنا وصلتُ إلى سنٍّ لو تمَّ قتلي فيه فسيكونُ عارًا عليهم إلى الأبد, ثمَّ هم ليسوا بهذا السُّوءِ, هم في النِّهايةِ, رجالٌ أثرياءٌ شُرفاء, أولادُ أصولٍ، دائمًا يعطفونَ على الرِّجالِ المساكينَ أمثالي, وأنا طول عُمري أعمل خدي مَدَاسًا لهم, ولن ينسوا هذا, وكون ابني أخطأَ فسوفَ يُعاقَب, لستُ ضدَّ أنْ يُعاقَبَ, ليتركوا لي فقط جثَّة ابني؛ ليعتبروها مكافأةَ نهايةِ خدمتِي, لن يخذلونِي, أثقُ في هذا.
دفعَ البابَ الحديديَّ؛ فخرجَ الحرَّاسُ من وراءِ البابِ، وكانَ السِّلاحُ مُوجَّهًا إلى صدرِهِ.
: أريدُ أن أتكلَّمَ, خمسَ دقائق فقط, رجاءً, نظَرَ إليْه حارسٌ ضخمٌ وقال : انتظرْ.
اختَفَى داخلَ القصرِ، وعادَ بعدَ فترةٍ؛ ليفتح البوَّابةَ، ويدعه يدخلُ, يعرفُ القصرَ جيِّدًا؛ لذلكَ ذهبَ مباشرةً حيثُ يجلسونَ, قال: السَّلامُ عليكم، لم يرد أحدٌ، كانوا يجلسونَ على الكراسيِّ المذهَّبةِ في الصَّالون في الدورِ الأرضِيِّ, لم يدعه أحدٌ إلى الجلوسِ، أو الكلامِ, الكلُّ كانَ حاضرًا, كائناتٌ عفيَّةٌ, تجلسُ بثقةٍ ومقدرَةٍ.
أخذَ يتكلَّمُ عنْ حُرْمَةِ الجَسَدِ وأنَّ التَّنكيلَ بالجُثثِ ليسَ منْ شِيمِ الأشرَافِ, أخذَ يُثرثرُ عن الشَّبابِ المُنفلتِ, وعنْ الحياةِ التي ضاعتْ في أروقةِ القصر، وأهلِ السَّماحِ, الكِرَامِ, وأنَّه يُريدُ فقطْ أنْ يُواريَ جَسَد... فانطلقتْ رصاصةٌ في صدرِهِ أردتْهُ قتيلاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى