عبد النبي فرج - ليلُ رَجُلٍ هَرِمٍ.. قصة قصيرة

- 1-
يظلُّ طوالَ النَّهارِ مستغرقًا في نومٍ مُمتدٍّ, فقط يستيقظ ليُصلِّيَ الفرضَ، ثم يعود مرَّةً ثانية, نهارُهُ يمر كطيفٍ, ومعَ ميلِ الشَّمسِ إلى الغروبِ، تكون الحاجة قد جهَّزتْ له الطعام, ينزلُ، يتوضَّأ ويُصلِّي العصر, وعندما ينتهي من الطَّعام يخرجُ ليجلسَ على المصطبةِ أمامَ البيت, ثم يلحق به برَّاد الشَّاي والأكواب، عادةً يُطلُّ جارٌّ برأسِهِ من الشُّبَّاك, أو شابٌ يقفُ على رأسِ الشَّارع, أو فلاَّح عائدٌ من الغيط, ويرى الشَّاي , دماغُه تخرب .
ازّيك يابا مسعود؟، حرثت الأرض؟, ملَّحت الذرة؟,الأنفار قصُّوا الشَّجر؟, عملتوا إيه في معوض ابن الحاج سدحمد؟، ويصبّ الشَّاي ويوزَّع, ويشد سهراية, والحاج أبو مسعود يمطّ رقبته ويبحلق عندما تمرُّ امرأةٌ أو بنتٌ، وعيناه الكليلتان لا تسعفانه في معرفة أصلِها، أو فصلِها:
بنت مين دي ياد يا عبد العزيز؟
بنت شوق !
شوق مين؟
شوق مراة عبد الرَّاضي..
قول كلام غير داه ؛ شوق عندها بنت فِرعة كدا؟..
طرح بدري يا شيخ محمود, دي مخطوبة لابن عويس الحلاَّق..
كمان مخطوبة؟, الزَّمن بيجري ياد يا عبد العزيز!
آمال إيه يا عمّ الشِّيخ !
وأبوك عامل إيه؟
تمام!
وأمك كويسة؟
والله كان جالها دور كده ودِّيناها للدّكتور، بس لسه حالتها مش تمام..
خلِّي بالك منها يا عبد العزيز, رضا الأب من رضا الرب, خلي بالك دا سلف ودين!
والله نتمنَّى لهم الرِّضا يا بو مسعود, ولكن هما اللي جايبين التَّعب لنفسهم..
ازاي؟ , قول ازاري؟
أقولك ايه؟, أبويا حاشر نفسه في اللي ليه فيه واللي مالهوش فيه, لامؤخذه يا حاج عامل زي البقدونس!
يمرُّ رجل يلبس جلابية
مين داه يا سعيد؟
دا الحاج عمران..
عمران بقى حاج؟
ابنه في السعودية وبعت له..
أنا زرت الأراضي المقدَّسة في سنة 80 كان "الحاج" ليه هيبة؟، كنا ثلاثة اللي راحوا السَّنة دي, دا الوقت هاصت!
ثم يصمت، مرَّتْ بنت
مين اللى لابسة جلابية سودة وعايقة في نفسها دي؟
دي مرات أبو الحديد..
أبو الحديد عبد الله, هو مش مات من كام سنة؟
آه, دي مراة حفيده، أبو الحديد عبد الله أبو الحديد عبد الله..
يغور في داهية, وهو متجوز بنت مين؟
والله ما اعرف؟
يصمت الشِّيخ محمود، وهو يزفر من الغضب، من الكلب بن الكلب, ساعتها عقله يدور بقوَّة، يُريد أن يعرفَ لماذا لا يقول له ما اسم أبيها, فكَّرَ في امتحان للولد:
كان فيه خناقة امبارح في عزبة ياسين، تعرفش كانت بين مين ومين؟
هو كان فيه خناقة ساعتها؟
ينفعل الحاج محمود:
قوم يا بن الكلب يا وسخ!
ويسحب العصا, ويرفعها لضرب الولد على رأسِه, ولكنَّه يجري من أمامه حتى يختفي, ثم يعود في يومٍ آخر، يكون الشَّيخ محمود نسي تمامًا ما جرى، ويعود يسأل بنت مين دي؟، وتتغيَّر الأسماء، ولكنْ يظلُّ السِّيناريو محفوظًا، ولمَّا ابنه حمدان يخرج ويجده واضعًا رأسَه قريبًا من الشَّخص الذي جواره, في اهتمامٍ, يبتسمُ ويغمزُ بعينه، والآخر يُشيرُ من وراء رأس أبيه؛ علامةً على أنَّ الحاج، لا مؤاخذه، خرَّف، والمفروض عزرائيل يبعت له فيزا.
- 2-
يدخل بعد أن يُصلِّي العشاء ليجلسَ أمام التِّليفزيون، يسمعُ المسلسلَ، ويتسامرُ مع الأولاد, ويعرف ما جرى في الغيط, وحال البهائم .. إلخ, ويتسرَّب الأولاد مع السَّهرة, ولو لم يتسرَّبوا يقوم بطردهم، ليشاهدَ الفيلم العربي على القناة الأولى بدون إزعاج، وعندما ينتهي الفيلم يكون مِزاجُه عنبًا!، خاصةً عندما تكون بالفيلم مشاهد ساخنةٌ، وينظر على البومة التي تنام وهىَ فاتحةٌ حنكَها وتشخِّرٌ بصوتٍ يجيب نهاية الشَّارع, يتمنَّى أن يسحبَ المخدَّة, ويكتم أنفاسها ليعجِّلَ بقضاءِ ربِّنا, ثم يتراجعُ ويتخمد مغمومًا, اليوم لم يستطعْ أن ينامَ، فقد أشرق ثدي نجلاء فتحي من طوق الفستان الأحمر المنقَّط باللون الأسود, في فيلم "الرّصاصة لا تزال فى جيبي" ، لدرجة أنَّ عضوَه انتصبَ فأزاحَ اللحاف , ومدَّ يدًا موتِّرةً، لتقبضَ على سمَّانة رِجل عجفاء للحاجة، جعلتها تنتفضُ من على السَّرير، وقد سقطت التَّربيعة من على شعرِها، فظهرَ شعرُها المصبوغُ بالحناء منكوشًا، فبدت كأم عشوش!، خاصة مع جحوظ عينيها .
فيه إيه يا حاج ؟
خجل الحاج، خاصة مع صوتِها الخشن الضَّجر:
أبدًا كنت عايزك تقومى تعملي كوباية شاي ..
كوباية شاي في انصاص الليالي؟, خبر إيه يا حاج؟.
دماغى مش رايقة يا أم الولاد .
ضربت يدها على اليد الأخرى وقالت:
وإيه اللي معكَّر مزاجك يا حاج؟؛ أحسن أكل وأحسن شرب..
ضحك الحاج هيء هيء هيء والله زمان يا حاجة, وقام من على القياس ورفع اللحاف, واندس جوار أم الولاد, وأخذ يجوس بيده في لحمها, انتفضت الحاجة مذعورة، ورمت اللحاف ونزلت تجري من على السّرير..
خبر إيه يا حاج, عيب عليك، هو أنتَ صغير على الكلام دا يا حاج؟!
أنت حلالي يا أم الولاد ,وذنب كبير تمتنعي عنِّي!
أنت بتقول إيه يا حاج, أنا أم رجَّالة!, عيب الكلام دا!
انفعل الحاج وقال:
عليَّ الطَّلاق لأمارس حقي, حتَّى لو أنتِ على فراش الموت!
جلست على الأرض ووضعت رأسها بين يديها:
يا دي المصيبة السُّوده !
نزل من على السّرير، واقترب منها وسحبها من يدها، رفعتْ رأسَها، ودموعٌ تترقرق في عينيها متوسلةً:
وحياة العشرة اللي بينا بلاش يا حاج!
أخذ يشدّ فيها، وهى تتشبَّثُ برِجْلِها في الأرض، وهو يجرجرُها مُستعصيةً, حتَّى أخذ يلهثُ, تركها وسحبَ المَدَاسَ, وأخذ يضربُ فيها على رأسِها, وهي تصدُّ عن رأسها بيديها, وتبكي حتَّى ترنَّحَ وكاد يسقط لولا أنَّه استندَ على الحائطِ, ثم انسحب مجروحًا، يكاد يموت كمدًا وغيظًا، وظلَّ في السّرير يقظًا، ينظر إلى السَّقفِ حتَّى سمعَ صوتَ الفجرِ, خرجَ من دفءِ الغرفةِ إلى الشَّارعِ، حيثُ السَّماء رصاصيَّة، وبرودة الجوِّ جعلته ينتفضُ, لم يجد أحدًا في الطَّريق, زفرَ زفرةَ مكروبٍ، وأخذ يمدُّ في خطوِهِ تجاهَ الجامعِ القريب .


عبد النبي فرج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى