يوسف فاضل - جبران.. وداعا يا صديقي

الحب

أمام الباب بضعة رجال وعدد كبير من النساء. هؤلاء تجمعن في كتلة متراصة ووقفن ينتظرن أن تظهر الجثة. جثة صديقنا جبران. من أين أتين ولماذا يقفن هذه الوقفة غير المعتادة في مثل هذه الحالات، وهن يوشوشن بأدعية خافتة؟ أو بكلام سري لا يسمعه غير الميت. كأنما بينهن سر لا يعرفه أحد ولا ينبغي له أن يشاع. قد يكن في نفس عمره أو أدنى قليلاً. وربما عرفنه في زمن ما، رأينه يدخل ويخرج متأبطاً كتباً أو مجلات. دون أن يفكر أن هناك عيوناً تحنو عليه. وقلوباً تتوق إليه. ربما بينهن واحدة على الأقل، رأته في كل الأعمار. شاباً وكهلاً. حياً وميتاً. وربما أعجبت به بسبب لا مبالاته التي ظل يحملها تحت إبطه كعلامة تميزه عن الآخرين. وربما أحبته. قليلاً أو كثيراً. قبل خمسين عاماً. دون أن يدري. وتقف الآن لتودعه بطريقتها الصامته، دون أن يدري أن هناك وسط هذه الكتلة المتراصة امرأة تعلقت به ذات يوم. وأحبته كما لم تحب امرأة. وهي التي أرسلت دمعتين وأطلقت الكلمات الغريبة وهي ترى الجثة الضئيلة تعبر عتبة الباب… زغرتو راه مات عزري. جبران لم يسمع صيحتها الحزينة. ونحن راجعون من المقبرة رأيناه جالساً أمام الباب، على كرسيه القديم، ويعتمر بيري أسود. قال صديقي أحمد هذا جبران عاد إلى البيت. ثم انتبهنا إلى أن الرجل يشبهه في جلسته وفي طريقة وضع يده على خده. ولكن لم لا؟ قد يكون الأمر ممكناً. مع أننا دفناه قبل نصف ساعة. قد يكون فعلاً قد عاد، إنما على غير الهيأة التي ذهب عليها. على غير هيئة الشخص الذي غادرنا وهو يؤمن ألا خير يرجى على هذه الأرض. عاد لأنه أدرك أخيراً أن قلب امرأة خفق لمروره عدة مرات. وها هو يخفق ثانية أمام مروره الأخير. وأن لا داعي لكل هذا اليأس.

الصفر

الصفر مسرحية لم يسمع بها إلا القليلون. كتبها شاب مغمور في بداية السبعينات اسمه محمد جبران. وعرضت على خشبة مسرح الكازا بلانكيز. تحكي عن عاملين من عمال الإنعاش الوطني. الخدير وميتيكا. ظلا واقفين أمام باب البلدية ينتظران راتبهما. ويحلمان بكل الأشياء الحلوة التي قد يحصلان عليها. لمدة طويلة. ربما لسنوات. أمام الباب المغلق. ينتظران أن يُفتح الباب. الباب لم يفتح. طعم الأشياء الحلوة التي ينتظران صار على لسانهما مرّا. نقمتهما لا حدود لها. لأنهما لا يفهمان لماذا يحدث ما يحدث. قبل أن يموت الخدير يسأل صديقه ميتيكا : آش كنتسناو؟ فيرد الثاني كنتسنّاوْ النْصارا. أقصى حالات اليأس أن تترقب عودة الفرنسيين ليشرحا لهما ما يعجزان عن شرحه أو فهمه. كل ما سيكتبه جبران لا يخرج عن سؤاله الأول الذي طرحته مسرحيته الأولى. ماذا نفعل هنا؟ السؤال طافح باليأس. والحياة صفقة خاسرة منذ البداية. لا تستأهل هذا العناء. بلا رجاء أو أمل. ليس قلقاً ما يحمل الكاتب بداخله. ليس قلقاً على مستقبل منفلت. النقمة التي تشتعل بداخله كبرت معه. في الأزقة التي عبر. وفي الكوميساريات العديدة التي قبع تحت سقوفها. نقمته لا تنقص. لا تتآكل. غيظه ثقيل ويزداد ثقلاً مع الاستهتار العام الذي واكب مسيرتنا جميعاً. كأنما واقفاً، كأنما على عتبة الحياة، منتظراً أن ينتهي من نفسه في أسرع وقت قبل أن يبتلعه الانحطاط الذي يغزو الأشياء والناس. وهي نقمة عمياء، تتجلى بإصرار بليغ في كل كتابته. الحياة عيوب. ثقوب. والأبطال بلا دم لأن الدم أهدروه في معارك خاسرة.

الكتابة.

سألته إن كان سعيداً لأن وزارة الثقافة أصدرت مجموعته القصصية «عيوب البطل»، ورد علي… هما اللي خصهم يفرحو ماشي أنا… يذهب الكاتب إلى الكتابة وحيداً، كما يذهب الحفار إلى الغابة. يضرب بمعوله جذور اللغة بحثاً عن معاني أخرى. جبران الكاتب لا يبحث عن الصدى. يحفر ليعثر على المعاني الفتاكة، المدمرة. يكتب بالأظافر كأنما يكشط جلده ليرى ما تحت الجلد. النظر ما تحت الجلد لا يستهوي أحداً. يترك الكاتب الجرح مفتوحاً لنرى فيه خيبتنا جميعاً وينسحب. وكما ظل يعيش وحيداً فقد مات وحيداً، بلا معزين تقريباً. الوزراء مشغولون بتنصيب بعضهم. ينظفّون القمطرات من غنائم الذين سبقوهم ليملؤوها بالغنائم المقبلة. والبرلمانيون يستعدون للصفقة الآتية. يعدون القوانين للانقضاض على رزق الذين انتخبوهم. وأين الآخرون؟ في مسرحية الصفر، بعد موت ميتيكا ظل الخدير ينتظر الصحافة لتسجل ما حدث ولتحكي ما وقع. لن تغطي الصحافة موت عامل الإنعاش الوطني كما لن تغطي موت جبران بعد خمسين عاماً. مشغولة هي الأخرى بتجنب الألغام المزروعة على طول وعرض الطريق.

مطر

السماء بدأت تمطر بينما يتقدم الموكب الهزيل نحو المقبرة، ثلاثة أو أربعة أصدقاء وبعض الجيران تطوعوا في سبيل الله، كما ظلوا يفعلون في مثل هذه المناسبات. المطر الذي بدأ خفيفاً تضاعف ونحن نعبر الخلاء نحو المقبرة. والسماء ثقيلة تكاد تسقط فوق الرؤوس. محاذرين ألا نسقط في الوحل. هذه المقبرة اسمها الغفران. لم يعد لها باب. الباب ابتلعه الموتى. وقناني الماحيا مرمية فوق القبور المبللة. القبور سكرانة. وربما هذا الخبر سيفرح صديقنا جبران قليلاً. ويُذهب عنه قلق النهاية. وينزل إلى قبره خفيفاً، غير محمول تقريباً، هوائياً، لأنه ترك كل ما يملك هناك. لا داعي لحمله. سينزل إلى حفرته على قدميه. وهل كان يملك شيئاً؟ لم يكن بحاجة إلى ساعة يدوية. ليست له مواعيد حتى يضبط ساعته عليها. لم يكن بحاجة إلى لباس خاص بالصيف وآخر للشتاء. الشتاء والصيف صنوان. لم يكن بحاجة إلى ورقة تعريف. كان يطويها على أربع ويضعها في جيبه الصغير حتى اهترأت. وهو ليس بحاجة إلى الماء في هذه الساعة الرمادية لأن السماء، في هذا الصباح الاستثنائي، روت الأرض استعداداً لاستقباله. بائع الماء ظل يتفرج، حانقاً، غاضباً، لأن جبران يرفض ماءه. وسيبقى بلا عمل هذا النهار لأنه لا يعرف أن جبران أكثر منه حنقاً وأشد غضباً. أخرج بائع الماء السبسي وقرفص تحت الحائط واستمر ينظر إلى المشهد من تحت تارازته. ولا بد أن جبران يسخر من بائع الماء لأنه بقي بلا عمل. ويسخر منا ونحن نحاذر ألا نتبلل تحت المطر أو نمسح أحذيتنا التي أوحلت. كما سخر من المرأة التي قالت للنساء المزدحمات عند الباب… زغرتو راه مات عزري، أو الفقيه الذي جاء يهرول ويقفز فوق القبور كالقط ليقرأ على الميت بعض الآيات ويدعو له. وهل تعرفون بم ختم الفقيه دعواته؟ بالدعاء لجبران من أجل الحصول على مقعد بين الأنبياء والصديقين والمرسلين. لا أعرف ماذا قال جبران وهو يسمع هذا الدعاء.

وداعاً

وهذه السماء التي لم تمطر منذ عامين على الأقل، ها هي تنزل رحمتها علينا وعلى صديقنا الميت. غداً سينبت العشب فوق قبرك. وعلينا أن ننتظر أياماً أخرى لنرى نفس العشب يزوق قبورنا. ربما نكون تأخرنا قليلاً. لا بأس. هل تذكر ذلك الصباح في المقهى؟ قرأت علينا ما كتبه يسينين بدمه قبل انتحاره… وداعا، يا صديقي، دون مصافحة، دون كلمات. ليس جديدا أن نموت في عالمنا هذا الذي خربته العاصفة. وليس أكثر جدة، بالطبع، أن نعيش.


أعلى